المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
إيفان شيخو
إيفان شيخو

دوافع استراتيجية وتحديات بنيوية .. قراءة في التقارب الروسي في ظل الصراع الإيراني–الإسرائيلي

الجمعة 25/يوليو/2025 - 05:43 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

مقدمة

يشهد الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة أحد أكثر فصوله توتراً منذ سنوات، مع التصعيد المتواصل بين إيران وإسرائيل، والذي بلغ ذروته إثر الضربات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية وعسكرية إيرانية، وأسفرت عن مقتل عدد من كبار القادة والعلماء. وردّت طهران باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ، ما استدعى ردوداً أميركية شديدة اللهجة، هددت بإجراءات عسكرية غير مسبوقة، بما فيها التلويح بإمكانية استهداف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية. هذا التصعيد وضع موسكو في موقف دبلوماسي بالغ الحساسية، فهي ترتبط بتحالفات استراتيجية مع طهران من جهة، وتُحافظ على علاقات متينة ومتعددة الأبعاد مع إسرائيل من جهة أخرى. وفي ظل ديناميكيات متغيرة وتوازنات إقليمية هشة، تسعى روسيا إلى التموضع كوسيط دولي قادر على إدارة الأزمة، وتحقيق مكاسب استراتيجية دون الانخراط في صراع مفتوح قد يُقوض مصالحها الأوسع.

أولاً- العلاقات الروسية–الإيرانية ما بين التنافس والتحالف  البراغماتي

تشكل العلاقة بين روسيا وإيران مثالًا على التحول الجذري في السياسات الخارجية بين القوى الاقليمية. ففي القرنين التاسع عشر والعشرين، ساد التنافس والصراع بين الإمبراطوريتين الروسية والفارسية، خاصة في مناطق آسيا الوسطى وبحر قزوين. وبرز ذلك في الحروب الروسية–الفارسية، ومعاهدات مثل "تركمانشاي" التي فرضت تنازلات إيرانية كبرى. في عهد السوفيتي، زاد التوتر الأيديولوجي بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حيث اتسمت العلاقات بالحذر بسبب التباين العقائدي بين الشيوعية والإسلام السياسي. دعمت موسكو العراق في حربه ضد إيران، مما زاد من تعقيد العلاقة. لكن مرحلة ما بعد الحرب الباردة شهدت تقاربًا لافتًا، حيث جمعت البلدين المصلحة المشتركة في مواجهة الهيمنة الأميركية، والانخراط في مشاريع أمنية واقتصادية مضادة للغرب. وبرز التعاون في ملفات الطاقة والتكنولوجيا العسكرية والنووية، وتجسد في التعاون بمحطة بوشهر النووية، وصفقات الأسلحة الروسية. ذروة التقارب جاءت بعد التدخل الروسي في سوريا، حيث تشارك البلدان في دعم نظام الأسد ضمن محور استراتيجي ضم إيران وروسيا وحزب الله. وتكامل الدور الإيراني الميداني مع الغطاء الجوي الروسي، ما عزز التنسيق العسكري والاستخباراتي، رغم تباينات تكتيكية في بعض المواقع. ثم تعمق هذا التقارب بعد الحرب الأوكرانية، مع توسيع التعاون العسكري وتسليم إيران طائرات مسيّرة للكرملين. هذا التحالف البراغماتي يقوم على مواجهة الضغوط الغربية، وتعزيز النفوذ الاقليمي لكلا الطرفين، رغم استمرار الخلافات الجيوسياسية المزمنة.

ثانياً- إسرائيل وروسيا: تقاطعات المصالح وسط شراكة معقدة

تعد العلاقة بين روسيا وإسرائيل من أكثر العلاقات تعقيدًا في السياسة الدولية. فبينما دعمت موسكو قيام الدولة العبرية عام 1948، عادت العلاقات لتتوتر في ظل الحرب الباردة والدعم السوفيتي الواسع للعرب. لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استعادت العلاقات زخمها، خاصة مع هجرة مليون يهودي سوفيتي إلى إسرائيل، مما خلق روابط ديموغرافية وثقافية قوية. تطور التعاون الاقتصادي والتقني، وبرز تنسيق أمني مشترك ضد الجماعات المتطرفة، مع تبادل معلومات استخباراتية. في سوريا، وعلى الرغم من تعارض المصالح بين إسرائيل وإيران، استطاعت روسيا إدارة الملف بحذر بالغ، حيث وفّرت لتل أبيب هامشًا لضرب المواقع الإيرانية ضمن تفاهمات أمنية سرية. أنشأت موسكو وتل أبيب "آلية فض اشتباك" لتجنب الصدام العسكري. وتبقى نقطة التوتر الرئيسة في الموقف من الملف النووي الإيراني، إذ تعتبره إسرائيل تهديداً وجودياً، بينما تتعامل موسكو معه من زاوية المصالح النووية والصفقات التقنية والدبلوماسية الدولية.

ثالثاً- روسيا كقوة مناورة: مكاسب محتملة من تصعيد اقليمي

يمنح التصعيد بين طهران وتل أبيب موسكو فرصاً استراتيجية، منها: يمنح التصعيد بين طهران وتل أبيب موسكو فرصًا استراتيجية، إذا ما تمكّنت من إدارة توازناتها بدقة. أول هذه المكاسب يتمثل في تعزيز مكانة روسيا كوسيط دولي ضروري لا يمكن تجاوزه، خاصة في ظل فتور الوساطة الأوروبية وغياب مبادرات أميركية فعالة. ويُعيد هذا الدور لموسكو شيئاً من بريق دورها في الصراعات الاقليمية الكبرى مثل الملف السوري.

ثانيًا، يُسهم التصعيد في صرف انتباه واشنطن عن الجبهة الأوكرانية، مما يمنح موسكو فرصة لالتقاط أنفاسها ميدانيًا واستراتيجيا، ويُخفف من الضغوط الغربية المتصاعدة على جبهات العقوبات والدعم العسكري لكييف.

ثالثاً، يؤدي التوتر في الشرق الأوسط عادةً إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ما يصب في مصلحة الاقتصاد الروسي المتأزم. وتُعد هذه إحدى أدوات موسكو غير المباشرة في مواجهة الضغوط الاقتصادية، خاصة إذا أدى الصراع إلى تهديد الملاحة في مضيق هرمز أو استهداف البنية التحتية للطاقة في الخليج.

رابعاً، يمنح النزاع إيران أهمية متزايدة في المعادلة الروسية، مما يعزز من تبادل المصالح، لا سيما في مجالات التعاون العسكري (مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية)، وهو ما يخلق سوقاً استراتيجية لتصريف التكنولوجيا العسكرية الروسية المحاصرة بالعقوبات الغربية.

خامسًا، يُوفر الصراع فرصة لموسكو لتوسيع شبكتها الجيوسياسية، من خلال مخاطبة الدول العربية المحايدة أو المترددة، وعرض نفسها كضامن بديل للتوازنات الاقليمية، مقارنةً بالحضور الأميركي الذي بات يُنظر إليه كعامل زعزعة لا استقرار.

وأخيراً، يسمح التصعيد بضرب السياسات الغربية في المنطقة، إذ يُربك حسابات واشنطن ويجبرها على إعادة توزيع مواردها وانتباهها، ما يُخفف الضغط عن محيط روسيا الحيوي في القوقاز وآسيا الوسطى

رابعاً- تحديات امام الدور الروسي الاقليمي

رغم هذه المكاسب المحتملة، تواجه موسكو معضلات استراتيجية معقدة تهدد توازن تحركاتها:

·      فقدان التوازن بين الشركاء: إن مواصلة إسرائيل شنّ ضربات مؤلمة ضد الحلفاء الإيرانيين في سوريا ولبنان دون رد روسي واضح، قد يُفقد موسكو ثقة طهران، ويضعها في موقف المتفرج غير الفاعل. وفي المقابل، فإن أي دعم روسي مباشر لإيران سيُعرض علاقاتها مع إسرائيل –التي تمتاز بتأثيرها الغربي– للخطر، مما يضيق هامش المناورة السياسي.

·      خطر الانزلاق غير المقصود: في حال توسع المواجهة إلى الجغرافيا السورية، حيث توجد قوات روسية فاعلة، فإن أي صدام عرضي مع إسرائيل قد يُشعل مواجهة لا تُريدها موسكو. وهذا يتطلب دقة عالية في إدارة خطوط الاشتباك وحسابات الردع.

·      تآكل صورة روسيا كوسيط محايد: إذا فشلت موسكو في كبح التصعيد أو عجزت عن لعب دور الوسيط الفعال، فإن ذلك قد يُضعف من مصداقيتها في الساحة الدولية، ويعزز دور منافسين مثل الصين أو القوى الأوروبية في الملف الإيراني.

·      ضغوط تحالفية متبادلة: روسيا تخشى أن تفقد مكاسبها في سوريا إذا ما تفاقم الصراع الإيراني الإسرائيلي وتحول إلى حرب مفتوحة، خاصة وأن نظام الأسد لا يملك القدرة على مقاومة مثل هذا التصعيد بمفرده.

خامساً- الخلاصة والاستشراف

تُظهر مقاربة روسيا للأزمة بين إيران وإسرائيل براغماتية استراتيجية تقوم على إدارة التوازنات المعقدة بدل الانخراط في حروب مفتوحة. ومن غير المرجح أن تنزلق موسكو نحو مواجهة عسكرية دفاعاً عن طهران، رغم عمق الشراكة القائمة بين البلدين. في المقابل، فإن روسيا تدرك أن سقوط النظام الإيراني أو اندلاع حرب شاملة قد يؤدي إلى تداعيات جيوسياسية خطيرة، منها اضطراب ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، وعودة الفوضى الاقليمية، وازدياد الوجود الغربي العسكري في الشرق الأوسط. تهدف موسكو، إذن، إلى الحفاظ على "توتر مضبوط" يمكّنها من تعزيز نفوذها دون تحمّل كلفة المواجهة المباشرة. ويُرجّح أن تستمر روسيا في لعب دور الموازن الاقليمي، مع استخدام أدواتها الدبلوماسية والعسكرية بمرونة عالية، مستفيدة من كل أزمة لتثبيت مكانتها كفاعل جيوسياسي في النظام العالمي متعدد الأقطاب. كما يُتوقع أن تسعى موسكو إلى تقييد أي اختراق أميركي أو إسرائيلي داخل العمق الإيراني، دون أن تتورط في التزامات دفاعية نهائية. إن قدرة روسيا على المناورة في هذه البيئة المتشابكة تعتمد على مدى نجاحها في إدارة التناقضات الاقليمية دون الانزلاق إلى حافة الانفجار، وهي مهمة دقيقة في ظل انقسام دولي حاد وحرب باردة جديدة تتشكل ملامحها بين الشرق والغرب.

المراجع

المراجع العربية:

·       عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، دار الشروق، القاهرة، 2004.

·       مركز دراسات الوحدة العربية، روسيا وإيران: تحالف الضرورة، بيروت، 2020.

·       محمد حسنين هيكل، الطريق إلى رمضان، دار الشروق، 2001.

·       معهد الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تقارير دورية (2022–2024).

·       مركز الإمارات للسياسات، “التحولات في السياسة الروسية في الشرق الأوسط”، 2024.

·       مركز الحوار العربي، تقرير: “روسيا وإيران: تحالف الضرورة وتحديات التأزيم”، 2024.

·       صحيفة الشرق الأوسط، “الدور الروسي في إدارة التوازنات الاقليمية”، نيسان 2024.

·       موقع روسيا اليوم، “توسّع التعاون العسكري بين موسكو وطهران”، نيسان 2025.

·       الجزيرة نت، “تصعيد جديد بين إيران وإسرائيل يضع موسكو أمام اختبار حساس”، نيسان 2025.

·       الموسوعة العربية، مادة: “الحروب الروسية–الفارسية”.

·       موقع الميادين نت، “خيارات روسيا بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران”، أيار 2025.

·       موقع اندبندنت عربية، “الدبلوماسية الروسية: مناورات بين طهران وتل أبيب”، أيار 2025.

المراجع الأجنبية:

·       Freedman, R.O. (2012). "Israel and Russia: From Cold War to Pragmatic Cooperation," Israel Affairs, 18(1).

·       Borshchevskaya, A. (2021). Putin’s War in Syria, I.B. Tauris.

·       Clarke, M. (2023). Geopolitical Realignments and the North-South Transport Corridor, RUSI.

·       Katz, M. (2022). "Russia and Iran: Strategic Alliance or Tactical Partners?" Middle East Policy Journal, 29(4).

·       Trenin, D. (2020). Russia’s Middle East Gamble, Carnegie Moscow Center.

·       Galeotti, M. (2023). Putin's Wars: From Chechnya to Ukraine, Bloomsbury Publishing.

·       The Guardian, 2025. “Iran-Israel Ceasefire Fragility”.

·       Washington Post, 2025. “Nuclear Proliferation Concerns Amid Iran-Israel Tensions”.

·       Haaretz, 2025. “Russia Warns Against Further Escalation in Israeli S. .. .”.

 


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟