المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

قراءة موضوعية: فى تاريخ الفتنة الطائفية وواقعها المعاصر في مصر(2)

الأحد 19/يونيو/2016 - 12:06 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان أ‌.أسـماء فـؤاد حافـظ
بعد أن لاح فى الأفق أن بذور "مسألة قبطية" تتشكل، عمل الإنجليز على أن يظهروا بمظهر المدافعين عن الأقليات فى مصر، وخاصة عندما نشبت ثورة 1919، ولكن باءت المحاولة بالفشل بفضل الموقف الوطنى الصارم الذى اتخذته جموع القبط، وبفضل مدى الاستنارة التى اتسمت بها حركة الشعب وقتها وقيادته فى هذه المسألة36. فقد جاءت ثورة 1919 مداوية للكثير من جراحات النزعات الطائفية التى أوجدتها القوى الاستعمارية، فاجتمعت الأمة بدياناتها المختلفة على الهوية العربية الإسلامية لمصر، وتم النص على ذلك فى دستور سنة 1923 "الإسلام هو الدين الرسمى للدولة واللغة العربية هى لغتها الوطنية والقومية"37. فيمكن القول أن أى مؤرخ منصف محايد عليه التأكيد بأن أحداث ثورة 1919 تجلت فيها مظاهر الوحدة الوطنية فى الحركة المشتركة للأقباط والمسلمين، فكانت القيادة الوطنية - بزعامة سعد زغلول - واعية منذ البداية بأهمية الوحدة الوطنية وقد باركها ودعمها الشعب كله، والتى أفرزت شعارات تقدمية مثل "الدين لله والوطن لجميع" و"عاش الهلال مع الصليب"، ومن الجدير بالذكر أن الأقباط قد شاركوا فى الحياة السياسية بقوة ووطنية فى هذه الفترة؛ حتى يمكن اعتبارها من أزهى فترات الوحدة الوطنية، وتواجد الأقباط بشكل طبيعى وملحوظ على الساحة السياسية كلها، بل وفى كافه المراكز القيادية؛ ولذلك لم يكن بمستغرب أن ينتخب ويصا واصف رئيسًا لمجلس النواب (البرلمان).

أهم ما يميز الحركة الوطنية فى ثورة 1919 عن الحركة الوطنية قبلًا بزعامة مصطفى كامل هو أنها انتقلت من المفهوم العام للجامعة الإسلامية إلى المعنى المحدد للوطنية المصرية
- المحور الثانى: الفتنة الطائفية خلال الفترة من (1919- 1952)
   فكان أهم مايميز الحركة الوطنية فى ثورة 1919 عن الحركة الوطنية قبلًا بزعامة مصطفى كامل هو أنها انتقلت من المفهوم العام للجامعة الإسلامية إلى المعنى المحدد للوطنية المصرية، كما كشفت تلك الثورة عن حقيقة مهمة وهى أنه متى تُرك التفاعل الطبيعى بين أبناء الأمة المصرية من مسلمين وأقباط بغير تدخل فإن مفهوم المواطنة يزداد تعززًا ووضوحًا38.
  وكان المرشح القبطى يرشح فى دوائر كلها مسلمين وينتخب بصرف النظر عن ديانته، حيث تواجد الأقباط تواجداً فعالاً على الساحة السياسية، سواء كان ذلك فى البرلمان بمجلسيه "النواب والشيوخ"، أو مجالات الإعلام والفكر والثقافة والصحافة وكافة وظائف الدولة القيادية وغير القيادية، فكانت فترة تاريخية خصبة من حيث اختفاء التمايز الدينى، وتقلص دور الدين على الساحة السياسية، إلى أن قامت جماعة الإخوان المسلمين بزعامة الشيخ حسن البنا بالمطالبة بالحكم الدينى فى مصر، ورغم هذا تصدى له حزب الوفد ووقف ضد هذا المطلب وانتصر المجتمع المدنى الديمقراطى حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952م39.
   وعندما نتناول بالحديث ثورة 1919 فعلينا أن نعدد الكثير من المواقف، منها على سبيل المثال أن الأب سرجيوس وقف على منبر الأزهر آنذاك ليقول: "إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط فأقول لهم: ليمت القبط وليحيى المسلمون أحراراً"، ونُقل عنه أيضا "إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطى، فلا بأس من هذه التضحية"40.فقد شكلت ثورة 1919 نقلة نوعية فى مسار العلاقات بين المسلمين والأقباط فى مصر، والتى توترت خلال مرحلة الاحتلال الإنجليزى للبلاد، إذ ارتبطت هذه الثورة بتيار وطنى جعل من "المصرية" مذهبا خالصا دون لبس أو خلط، تمثل فى شعارها المعبر عن مضمونها "الدين لله والوطن للجميع"، مما جذب جميع فئات المصريين، بانتماءاتهم الدينية المختلفة للانضواء تحت لواء هذه الثورة بزعامة سعد زغلول، الذى وصف وحدة المسلمين والأقباط فى هذه الثورة بـ "الاتحاد المقدس" واشتهرت هذه الوحدة تاريخيًا باسم "الوحدة المقدسة".
    ولم يصف المصريون شيئًا بالقداسة سوى هذه الوحدة؛ الأمر الذى ربما يرتبط بأنها كانت وحدة بين دينين يمثلهما عنصرا الأمة المصرية الرئيسين، وكان مسرح هذه الوحدة دور العبادة للشعب المصرى "المساجد والكنائس"، التى تحولت خلال هذه الثورة إلى أماكن للعمل الوطنى. كما أن سعد زغلول حينما عاد من منفاه فى 1923 قال للشعب فى أول خطاب له ردًا على الأحرار الدستوريين الذين حاولوا - أثناء نفيه - بعث نيران التوتر الطائفى "أحسوا التراب فى وجوههم، فرصاص الإنجليز لم يميز بين قبطى ومسلم من أبناء مصر". وجاء دستور 1923 تكريسا لثورة 1919 التى توقفت فى منتصف الطريق ولم تنجز كل المهام المطروحة على أجندتها، ومع ذلك فقد أقرت مبدأ حرية الاعتقاد بكل مجالاته، وكانت لجنة وضع المبادئ العامة للدستور قد أقرت أن حرية الاعتقاد الدينى مكفولة، وأعلنت اللجنة أن اختلاف الأديان والمذاهب لا يؤثر على أى شخص من أشخاص الرعوية المصرية فى المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، بل ووضعت فى مشروعاتها مادة تقول "أنه ليس لمصرى أن يحتج بأحكام دينية للتخلص من أداء أى من الواجبات المفروضة عليه كمواطن".
     وقادت ثورة 1919 الأقباط ليصبحوا عنصرا مدمجا فى التيار الرئيس للحياة المصرية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وكانت الفترة بين عامى 1919 و1952 من أغنى فترات الوحدة الوطنية إذ تواجد الأقباط بقوة على الساحة السياسية والاجتماعية، ولم يكن مستغربًا أن يشارك الأقباط فى كافة فعاليات الحياة السياسية والعامة بنشاط وكثافة واضحين.
وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت تلك الفترة بعضًا من ملامح التوتر الطائفى، لاسيما بعد خروج حزب الوفـد من السلطة، وهو الحزب الذى احتضن تطلعات الشعب المصرى المشروعة فى الحرية والاستقلال والمساواة، ومن هذه المشكلات صدور قرار من وزير العدل عام 1931، بأن تكون الشهادة الطبية المقبولة فى القضايا الشرعية من طبيب مسلم فقط، والتراجع عن قرار تدريس الدين المسيحى فى المدارس، وهو قرار كان قد صدر فى عام 1907، وإصدار شروط عشرة تحكم بناء وترميم الكنائس، وهى شروط مقيدة فى مجملها، فيما يطلق عليه شروط "العزبى باشا" التى صدرت عام 1934م41، بالإضافة إلى تعرض بعض جمعيات ومؤسسات الأقباط للهجوم، مثل الهجوم على كنيسة الزقازيق وحرقها فى مارس 1947، وعلى الكنيسة القبطية بالحضرة فى الإسكندرية فى الشهر التالى، كما كانت هناك محاولة لحرق كنيسة مارجرجس بـميت دمسيس بالدقهلية فى أبريل 1950، إذ ادعى البعض اكتشاف قبر زعموا أنه لأبى بكر الصديق، ولكن مصلحة الآثار كذبت هذا الخبر آنذاك42؛ مما دفع بعض الشباب القبطى فى 1951 إلى تكوين ما يسمى بـ "جماعة الأمة القبطية" بهدف الدعوة إلى إحياء القومية القبطية فى مواجهة الفكر الدينى للتيار الإسلامى ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه يمكننا القول أنها فى مجملها كانت أحداثًا ليست ذات تأثير كبير على مجمل العلاقات بين الجانبين43.
أى أنه فى مجمل القول، كان قيام ثورة 1919 – بما شهدته من مشاركة قبطية وتلاحم مصرى فى وجه الاحتلال البريطانى - قد أدى إلى بعث روح وطنية جديدة، تعززت بصدور دستور 1923م، الذى أكد على المساواة بين كل المصريين، بصرف النظر عن الاختلاف فى المعتقد الدينى، وأقر حرية أداء الشعائر الدينية، وإن أشار إلى أن الإسلام هو دين الدولة، وهو أمر لم يكن محل اعتراض من الأقباط الذين شاركوا فى لجنة وضع الدستور.

الأب سرجيوس وقف على منبر الأزهر ليقول: "إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط فأقول لهم: ليمت القبط وليحيى المسلمون أحراراً
-    المحور الثالث: الفتنة الطائفية خلال فترة حكم عبد الناصر (1954- 1970)
توارت الفتنة الطائفية خلال هذه المرحلة، فى إطار المشروع التنموى الوطنى؛ فالرئيس جمال عبد الناصر طرح مفهوماً تقدمياً لدور الدين فى التحرر الوطنى والتنمية، فضلا عن أن التوجهات الرئيسة للنظام فى ظل ثورة 1952 تمثلت فى سياسات تستجيب لطموحات الفئات الوسطى والصغيرة، وتخدم مصالح العمال والأكثرية من صغار الفلاحين، وهو ما خلق مناخاً لا يسمح لعوامل التوتر الاجتماعى بتفجير نزاعات طائفية، إلى جانب أن الثورة أخذت بمبدأ تكافؤ الفرص فى مجال التعليم، وكان نحو ثلاثة أرباع طلبة كلية الهندسة بجامعة عين شمس خلال الستينات من الأقباط، كما وصلت نسبة الطلاب الأقباط فى كلية الطب بجامعة القاهرة إلى 40%، الأمر الذى يعنى أنه لم يكن هناك أى تمييز بسبب المعتقد الدينى؛ ومن هنا، كانت فترة حكم عبد الناصر تخلو إلى حد كبير من مظاهر التوتر الطائفى، حتى أن البعض يدفع بأن الثورة قامت بتأميم النزعات الطائفية من بين ما أممت44.
وعلى الرغم من التشدد من جانب السلطة فى مواضع عدة، إلا أن الفرز تم على أساس اجتماعى وليس على أساس طائفى، وفى الغالب كانت قوى اليمين فى الوسط القبطى التى تضررت مصالحها بحركة التأميمات هى المعادية لعبد الناصر، وقد اشتركت فى ذلك مع قوى المسلمين من كبار الإقطاعيين والرأسماليين الذين تضرروا من هذه السياسات، كما كان وضع عبد الناصر لحجر الأساس للكاتدرائية البطرسية بالعباسية بمثابة تأكيد للتقاليد الوطنية العريقة التى عرفتها مصر الحديثة. وهنا يرى البعض أن عبد الناصر اتخذ هذه الخطوة فى إطار مشروعه؛ لتأكيد زعامة مصر للمنطقة فى الجانب الدينى، والذى فى إطاره تم تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة شاملة، واستتبعها بإنشاء مدينة "البعوث الإسلامية" التى تستقطب الطلاب المسلمين من كل أنحاء العالم، كما تم وضع حجر الأساس للكاتدرائية البطرسية بالعباسية؛ لتصبح من أكبر كنائس أفريقيا، وأضيف لقب الـ "بابا" للبطريرك المصرى فى قرار تعيينه بعد انتخابه، ربما ليقدمه عبد الناصر إلى العالم كمواز "لبابا روما" فيما يمكن اعتباره جزءًا من رؤية سياسية تحقق للرئيس عبد الناصر اكتمال الزعامة45.
  إلا أنه قبل تولى جمال عبد الناصر الحكم، وبعد قيام ثورة 1952 مباشرة تأسست جماعة "الأمة القبطية"، وكانت لها ميول انعزالية؛ حيث أعلنت عن مشروعها الذى احتوى على عدة مطالب منها حذف النص الدستورى القائل بأن "الإسلام هو دين الدولة المصرية"، وأن الأقباط هم أصحاب الأرض الفعليون بجذورهم التى تعود إلى الفراعنة، وأن مصر دولة مسيحية ولغتها الرسمية هى اللغة القبطية. وعلى ذلك، قامت الدولة بحل هذه الجماعة المتطرفة فى عام 1954، وأحالت قياداتها إلى المحاكمة، وكان البابا شنودة الثالث من بين من نجوا من هذه المحاكمة، فاتجه إلى الرهبنة ودخل الدير فى عام 1954، حتى عاد إلى الحياة العامة فى نوفمبر 1971، حينما تم انتخابه ليصبح على رأس الكنيسة46.
وبصفة عامة، يمكن القول إن العهد الناصرى شهد خفوتاً فى تأثير بعض المشكلات القبطية "مثل بناء وترميم الكنائس وغيرها" على العلاقة بين المسلمين والأقباط، إلا أنه فى الوقت نفسه شهد تصاعداً لمشكلة أخرى، ظلت تنتج تأثيراتها لعقود بعد ذلك، وهى مشكلة التمثيل السياسى فى البرلمان؛ فقد ترتب على حل الأحزاب السياسية، ثم الركون إلى صيغة التنظيم السياسى الواحد باختلاف مسمياته، تراجع مستوى تمثيل الأقباط فى البرلمان، ولجأ النظام الناصرى فى البداية إلى إغلاق دوائر انتخابية – على الأقباط - بعينها عام 1957، ثم ما لبث أن استعاض عن ذلك بتعيين عدد من الأقباط بدلاً من انتخابهم بدءاً من دستور 1964، وهو ما أضعف من تواجدهم فى المجتمع، وشكل صعوبات لانتخابهم لاحقاً47، حيث اكتفى رئيس الجمهورية بتعيين عشرة أعضاء فى مجلس الشعب لتمثيل الأقليات التى رُؤى من الضرورة تواجدهم فى المجلس بشكل رمزى، وهم الأقباط واليسار والمرأة، وجرى العرف أن يكون غالبية المعينين من الأقباط48.
  بالإضافة إلى ذلك تم تجميد المجلس الملى فى مطلع الستينات، ووُضعت لائحة لانتخابات البطريرك، أُلغى معها الانتخاب الحر المباشر لصالح ما يعرف بالقرعة الهيكلية، كما عمل النظام السياسى آنذاك على خلق شخصيات مدنية قبطية من طراز مكرم عبيد وويصا واصف، استعان بها فى التعامل مع الشأن القبطى49.
- المحور الرابع: الفتنة الطائفية خلال فترة حكم السادات (1970- 1981)
حملت حقبة السبعينيات واقعاً مختلفاً للعلاقات الإسلامية المسيحية، فقد أطلت التوترات الدينية برأسها، وأُضيف مصطلح "الفتنة الطائفية" إلى القاموس السياسى والإعلامى، فيمكن القول بداية، إن هذا العقد قد شهد بروز الاختلافات القائمة بين المسلمين والأقباط فى مصر على الساحة العملية بصفة (خلافات)، ربما ليس لكونها خلافات فعلية، أو ليس لأن ما ظهرت به خلال السبعينيات هو حجمها أو عمقها الحقيقى فى نسيج المجتمع المصري؛ وإنما لأن هذا العقد حمل معه موجة تغيير شاملة كانت أشبه بطوفان ضرب مختلف مفردات تركيبة وتكوين هذا المجتمع، ولم يكن هناك بد من تأثر العلاقة بين المصريين بهذا الطوفان، وتأثرت على كافة المستويات، فكان من الطبيعى أن يخضع الجانب الدينى إلى تلك التأثيرات بصورة أو بأخرى، فاقتصادياً تأثرت العلاقة بين الطبقات، ووظيفياً تأثرت العلاقة بين أصحاب المهن، وسلوكياً تأثرت العلاقات بين الأسر والعائلات وداخلها، ونفسياً تأثرت نظرة الإنسان المصرى لذاته وللآخرين من حوله، ودينياً تأثرت بالضرورة العلاقة بين أصحاب الديانات المختلفة.
وقد شهدت مرحلة السبعينيات حدثين مهمين، كان لهما العديد من التأثيرات السلبية على مجمل العلاقات بين المسلمين والأقباط، ليس فقط خلال هذه المرحلة ولكن خلال المراحل التالية، وهما حادث الخانكة، وأزمة البابا شنودة مع الرئيس السادات50.ثم توالت أحداث الفتنة الطائفية خلال عقد الثمانينيات، فوصلت لمرحلة التهديد بالخطر فى أحداث الزاوية الحمراء بالقاهرة فى 1981، وذلك فى أعقاب زيارة السادات للقدس المحتلة، وتوقيعه لمعاهدة كامب ديفيد، حيث بدأت الأحداث بصدام مع كل رموز مصر السياسية والدينية، بمن فيهم البابا شنودة، الذى عُزل بعد ذلك، فيما عرف بأحداث سبتمبر 1981، ولم تتراجع الاحتكاكات، بل تعددت مواقع الصدام واتسعت فيما بعد51.
-    المواجهات بين المسلمين والأقباط:
شهدت فترة السبعينيات عدداً من الأحداث والمواجهات بين مسلمى مصر ومسيحييها، والتى يمكن أن تساعد على استكشاف بعض مواطن الخلل فى العلاقة، أو بالأحرى فى إدارة العلاقة بين الجانبين، فقد سبقت بعض التوترات الطائفية حادثة الخانكة، وكانت بمثابة تمهيداً لها، بدأت بتحول تحول إثنين من الإسلام للمسيحية فى عام 1970، ثم جاء اجتماع البابا وقيادات الكنسية بالإسكندرية وإصدار تقارير عن خطة لمناهضة المسلمين فى مارس 1972، تلاه مباشرة فى يوليو من العام نفسه عقد مؤتمر لقيادات الكنسية بالإسكندرية، خرج عنه إرسال برقيات لمجلس الشعب لحماية حقوق الأقباط، وفى سبتمبر من العام ذاته تم مهاجمة جمعية النهضة الأرثوذكسية التى يقوم الأقباط فيها بتأدية الشعائر الدينية والواقعة بقرية سنهور بالبحيرة، وهى جمعية أنشأت خصيصاً للوعظ والإرشاد والنشاط الثقافى والدينى، وفى نهاية الشهر صدر قانون حماية الوحدة الوطنية، ليصل الأمر فى شهر نوفمبر إلى وقوع أحداث الخانكة.
أى أن المواجهات والأحداث التى تصب فى خانة الصدام بين المسلمين والأقباط،بغض النظر عن نوع ومستوى العنف المستخدم، كانت محدودة، وتنسحب صفة "المحدودية" هنا على عدد المواجهات ونوعيتها (أسبابها، موضوعاتها، إدارة الأطراف لها، النتائج التى أسفرت عنها). كما نلاحظ أن السواد الأعظم من الأحداث مرتبط بالخلاف حول بناء كنيسة أو إقامة صلوات فى مكان ليس مرخصاً ككنيسة، وذلك باستثناء الحالة الأولى التى نجمت عن اعتناق شابين مسلمين للمسيحية، ثم مسألة قانون الردة وتطبيق حدود الشريعة الإسلامية على المرتد، أى أن موضوعات الخلاف انحصرت إجمالاً فى حرية العقيدة وحرية ممارسة طقوس العبادة لدى الأقباط.وفى جميع المواجهات والمسائل التى مثلت احتكاكاً أو مقابلة بين ما هو إسلامى ومسيحى فى هذه الفترة نلاحظ أن النظام الحاكم كان يميل فى البداية إلى عدم التصعيد، مع مزيد من الميل نحو استرضاء أو على الأقل عدم استعداء مسلمى مصر، وفى المقابل كانت إدارة الكنيسة للأحداث والأزمات تميل دائماً إلى التصعيد، وهو ما وضح منذ أحداث الخانكة التى جاء رد فعل الكنيسة على وقائع يومها الأول (6 نوفمبر 1972) بمثابة الفتيل الذى أشعل أحداث اليوم الثانى (12 نوفمبر)52.
    فبعد أحداث الخانكة تقدم الأزهر بمشروع قانون لإعدام المرتد وإقامة الحدود، وترتب عليه حدوث حالة من الرفض والاحتقان من جانب الأقباط، وعلى إثر ذلك عقدت الكنيسة القبطية مؤتمراً بالإسكندرية فى يناير 1977، تمخض عنه بيان يحمل عدداً من المطالب الأساسية، أبرزها ضمان حرية العقيدة، وعدم قبول تطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين، وحماية الأسرة المسيحية، وبناءً على ذلك عقد الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر مؤتمراً إسلامياً فى يوليو من ذات العام؛ للرد على المؤتمر المسيحى، أكد فيه على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه من غير المقبول التريث فى قضية تطبيق الشريعة مراعاة لمشاعر المصريين الأقباط. ويلاحظ أيضا أن فترة السبعينيات شهدت الحديث عن الوضع الفقهى للأقباط، ومن ثم برز مفهوم "أهل الذمة"53.
-    أحداث الخانكة:مثلتأحداث الخانكة التى وقعت فى نوفمبر 1972 نقطة البداية الفعلية فى تأزم العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر، وقد انطلقت شرارة تلك الحادثة عندما قام الأقباط بتحويل مبنى تابع لجمعية مسيحية إلى كنيسة دون ترخيص، فقام أهالى منطقة الخانكة المسلمون بهدم تلك المبنى، وهو ماترتب عليه قدوم مسيرة فى اليوم التالى مكونة من ألف كاهن وقس بملابسهم الكنسية، وبوصولهم لمقر المبنى أقاموا قداساً دينياً54.
وقد جاء قرار تشكيل لجنة تقصى حقائق عن حادث الخانكة بمبادرة من رئيس الجمهورية، حيث تقدم بطلب يحمل هذه الرغبة إلى مجلس الشعب، ويلاحظ أن التقرير أشار فى ديباجته إلى أن تلك اللجنة هى التطبيق الأول للمادتين 16 و 47 من لائحة المجلس. وأخذًا فى الاعتبار حداثة المجلس ذاته بعد أحداث 15 مايو 1971 وإقرار تعديلات على الدستور؛ فإن مغزى خطوة تشكيل لجنة تقصى حقائق عن موضوع ليس فى كون اللجنة الخاصة بحادثة الخانكة هى الأولى من نوعها وحسب، لكن أيضاً فى أن هذه الخطوة لم تتكرر بعد ذلك فى فترة حكم الرئيس السادات. الأمر الذى يضفى مزيداً من الأهمية على ما قامت به اللجنة من أعمال، وما تضمنه تقريرها من ملاحظات على الحادث، وكذلك التوصيات التى حرص أعضاء اللجنة على تضمينها بالتقرير.
كما جاء قرار تشكيل لجنة تقصى الحقائق، بالتوازى مع عمل المؤسسات والهيئات القضائية المعنية بالتحقيق فى الموضوع، ما يشير إلى أن التعامل الرسمى مع الموضوع لم يقتصر على الرغبة فى الحصول على حقيقة ما حدث وإنما أيضاً بإخضاعه للإجراءات المفترض اتباعها أمنياً وقانونياً55. ووفقاً لمضبطة جلسة مجلس الشعب المنعقدة فى 28 نوفمبر 1972، جاء تقرير اللجنة فى إحدى عشرة صفحة، موزعة على ديباجة وقسمين رئيسيْن: القسم الأول: وقائع حوادث الخانكة. والقسم الثاني: مقدمات وأسباب حوادث الإثارة الطائفية.
استعرض تقرير اللجنة فى قسمه الأول، سرداً للوقائع التى شهدتها منطقة الخانكة بمحافظة القليوبية على مدى يومى السادس والثانى عشر من نوفمبر 1972،واستهل التقرير هذا السرد بتمهيد عن تطور وضع المبنى الذى تعرض للحرق فى يوم 6 نوفمبر، موضحاً كيف بدأ من قطعة أرض يملكها مسلم إلى مقر لجمعية "أصدقاء الكتاب المقدس" وأن الجمعية المشهرة منذ عام 1946 استخدمت المقر فى ممارسة الشعائر الدينية والصلاة دون الحصول على ترخيص بإقامة كنيسة أو بتحويل المقر إلى هذا الغرض.
وإضافة إلى رصد تسلسل الأحداث فى هذا اليوم، حرص واضعو التقرير على تضمين هذا القسم عدة ملاحظات تتصل بالوضع العام فى منطقة الخانكة بين المسلمين والأقباط، مشيرة إلى نسبة الأقباط بين السكان وفى شغل الوظائف العامة، وإلى طريقة تعامل أهل المنطقة والأجهزة المحلية هناك مع استخدام مقر الجمعية ككنيسة دون ترخيص، وكذلك الحجم الحقيقى للخسائر التى وقعت بالمقر نتيجة حادث يوم 6 نوفمبر، ولفت التقرير الانتباه فى هذه الجزئية إلى المبالغة التى شابت المعلومات التى وصلت إلى البابا شنودة عن هذه الخسائر، فضلاً عن تصوير الحادث له بأنه اعتداء على كنيسة.وتضمن التقرير فى شأن حادث اليوم الثانى (12 نوفمبر) نقاطاً مشابهة حيث عرض تسلسل الوقائع ثم ملاحظات اللجنة عليها ومضمون مناقشاتها مع البابا شنودة فى خصوصها.  
  أما عن القسم الثانى فاختص بعرض مقدمات وأسباب حوادث الإثارة الطائفية، وفيما يتصل بالمقدمات، أوضح تقرير اللجنة أن ثمة جذوراً لأحداث الخانكة، وهذه الجذور جسدتها حوادث سابقة على الخانكة، تم التعامل معها بقصور من الجانبين (المسلم والمسيحي) فضلاً عن أجهزة الدولة، وانتقدت اللجنة فى تقريرها ما اعتبرته عدم مراعاة كل جانب للحساسيات ونقاط الاستثارة لدى الجانب الآخر، وأشارت اللجنة فى هذا الخصوص تحديداً إلى النشاط الواسع للبابا شنودة بعد توليه البابوية وقبلها، وضربت أمثلة بمقال نشره فى ديسمبر 1970 أثار انتقادات وردود فعل واسعة من رجال الدين المسلمين.
  ويمكن استنتاج أن اللجنة أرادت التلميح إلى طبيعة شخصية البابا وانعكاسها على طريقة معالجة الجانب المسيحى ككل لأحداث الخانكة، وهو ما يمكن الاستدلال عليه أيضاً من إشارة اللجنة إلى ما نسب إلى البابا عن عقده اجتماعين مع رجال دين مسيحيين فى الإسكندرية، الأول فى 15 مارس 1972، والثانى فى 17 و18 يوليو من العام ذاته. ودون أى تعليق من جانبها، ذكرت اللجنة ما نسب صدوره عن الاجتماعين، خصوصاً الاجتماع الثانى الذى تضمن ما اعتبره رجال الدين المسيحى مطالبات بحماية حقوقهم وعقيدتهم، أرسلوها بالفعل كبرقيات إلى الجهات المسئولة فى مصر ومن بينها مجلس الشعب. ثم اعتبرت اللجنة أن هذه التطورات - وما تولده من حساسيات وردود فعل متبادلة بين الجانبين - هى التى دفعت الرئيس السادات إلى دعوة مجلس الشعب لإصدار قانون لحماية الوحدة الوطنية، والذى صدر بالفعل وأصبح نافذاً فى 27 سبتمبر 1972.
  وينتقل التقرير بعد ذلك إلى الأسباب التى دفعت بالوضع بين المسلمين والأقباط إلى التوتر، وأفرزت - من بينما أفرزت - أحداث الخانكة، وقد حددت اللجنة أسباباً مباشرة للاحتكاك فتحت الباب بدورها إلى الفتنة والتوتر الطائفى، وأجملتها فى ثلاثة محاور هي: الترخيص ببناء كنائس، والدعوة والتبشير، والرقابة على الكتب الدينية، وعرضت اللجنة فى كل من هذه المحاور رؤيتها للخلل الكامن فيه، واقتراحاتها للتعامل معه وعلاجه.
  ويتضح تجنب واضعى التقرير تحديد أطراف أحداث الخانكة بشكل واضح، لكن الإشارة إلى تسلسل الأحداث يوحى إلى تحميل بعض المسؤولية عن الحادث بصفة عامة إلى القائمين على أمر جمعية "أصدقاء الكتاب المقدس" الذين حولوها إلى كنيسة دون ترخيص بذلك. بينما يُفهم مما سردته اللجنة بخصوص حادث يوم 12 نوفمبر (يوم مسيرة القساوسة) أن تصديق البابا شنودة لما عرض عليه من تقرير ضخَّم الحادث وصوَّره على أنه اعتداء على كنيسة، كان سبباً فى موافقته على ذهاب جموع من القساوسة إلى مكان الحادث وإصرارهم على إقامة القداس هناك. وفى المقابل لم يحمل التقرير أى اتهام لرجال الأمن أو الأجهزة الرسمية بسوء التعامل مع الحادث، بل أشار إلى أن جهة الإدارة نبهت القائمين على الجمعية بعدم استخدام مقرها ككنيسة كونه غير مرخص لذلك، لكن اتضح من التقرير أن المؤسسات الإدارية والسياسية لم تقم برد فعل أو خطوة للتعامل مع الحادث الأول، أما الحادث الثانى فقد جاء التعامل معه بمبادرة من أعلى مستوى رسمى فى السلطة التنفيذية وهو رئيس الجمهورية56.
كان وضع عبد الناصر لحجر الأساس للكاتدرائية البطرسية بالعباسية بمثابة تأكيد للتقاليد الوطنية العريقة التى عرفتها مصر الحديثة
-    أزمة البابا شنودة:تعد العلاقة بين الدولة والكنيسة مؤشراً للعلاقة بين الجماعة المسيحية وبين الدولة، وقد بدأت فترة السبعينيات بقيادة جديدة لكل من المؤسستين، حيث جاء البابا شنودة على رأس الكنيسة بعد وصول الرئيس السادات للحكم ببضعة أشهر، وقد ارتبطت بدايات عمل المؤسستين بدور القائد فيها، وما يمكن أن يقوم به فى المستقبل للمؤسسة فى المقام الأول وفى الحياة السياسية المصرية بصفة عامة، إذ بدأ السادات بعد فترة وجيزة من وصوله للحكم بتصفية مراكز القوى والتحرك على مسار الديمقراطية وإنشاء المنابر، وقد جاء ذلك فى إطار ما أسماه "ثورة التصحيح".
   إلا أن الصدام بين قيادة الدولة وقيادة الكنيسة بدأ مبكراً منذ حادث الخانكة، رغم أنه قد يقال أن هذه الحادثة لم تكن صداماً بين المؤسستين، ولكن بالنظر لما حدث يمكن استنتاج بعض الأمور ذات الدلالة القاطعة فقد أرسل البابا شنودة إلى الخانكة "مقر الجمعية" أكثر من 400 مسيحى، وعندما حاولت قوات الأمن منعهم من الذهاب ترجلوا وكان من بينهم 100 شخصية دينية ترتدى ملابسها الكهنوتية، وساروا فى صفوف إلى أن دخلوا القرية وأقاموا الصلوات فيها؛ مما استفز مشاعر العديد من المسلمين والذين قاموا بالاعتداء على الجمعية مرة أخرى، وحرقوا بعض المنازل والمحلات لأصحابها الأقباط.
 وحفلت حقبة السبعينيات بصراع خفى أحياناً ومعلن فى أحيان أخرى بين البابا والرئيس، استخدم فيه البابا العديد من الأساليب التى تظهر موقفه بوضوح مثل الخطابات التى يلقيها فى محاضراته أو ما يرسل منها للتيارات السياسية أو فى لقاءاته مع المسئولين، أما أخطرها فهو إعلان الصوم الانقطاعى،ثم إلغاء الاحتفال بالعيد، ورفض مقابلة أى مسئول رسمى للتهنئة بالعيد وإلزام الكنائس بذلك. وفى المقابل فإن الرئيس السادات كان يوازن المسألة، وكان يلتقى مع البابا ويلبى طلبات كثيرة له لا تحمل الدولة أية تكلفة، فهو يشارك فى افتتاح مستشفى، ويرسل تهانى بالأعياد، ويرسل التعازى، إلا أن السادات أيضاً كان يوازن تصعيد البابا بتصعيد رد الفعل، فقد كانت مواقف السادات رد فعل على مواقف البابا، حتىوصل الأمر إلى اتهامه رسمياً فى خطاب علنى بأنه يسعى للزعامة المسيحية وإحياء فكرة إقامة دولة فى أسيوط للمسيحيين، وكان أخطر ما استخدمه السادات ضد البابا قرار عزله من منصبه على الرغم من أن البابا لا تعينه الدولة.
بالإضافة لهذه الأساليب وتطورها، كان كل طرف يسعى لخلق أدوات ووسائل جديدة فى صراعه مع الآخر، ولعل موضوع أقباط المهجر مع البابا شنودة من أكثر الأساليب التى أضافت قوة للبابا جعلته يشعر بأنه يستطيع أن يقاطع الدولة؛ لأنه أصبح يملك من الوسائل ما يستطيع أن يؤذى مصر نفسها ويسلم هو وجماعته، وهذا ما دفعه لسلوك اتجاه معين فى علاقته مع الدولة ورئيسها حتى وصلت الأمور إلى قيام الرئيس بعزله فى 8 سبتمبر 1981 وتعيين لجنة من خمسة من رجال الدين للقيام على شئون الكنيسة.
  وكان البابا شنودة قد تولى رئاسة الكرسى البابوى للكنيسة المصرية بعد قيادة تميزت باهتمامها بالجانب الدينى إما لشخصية البابا نفسه، أو للظروف السياسية التى سادت آنذاك (الثورة، الاحتلال، شخصية عبد الناصر)، وقد كان البابا شنودة قبل أن يتولى هذا المنصب معروفاً على المستوى المسيحى بصورة واسعة جداً، إلا أن مواقف البابا بعد توليه منصبه بلورت بشكل كامل الدور الذى يسعى للقيام به سواء فى جانبه الدينى أو السياسى، فقد اتخذ منطق التحدى والاحتجاج، وكان يقدم تبريرات لدوره هذا بأنه طلب منه العودة بالكنيسة إلى سابق دورها وهذا هو ما يفعله، إذ يسعى لاستعادة أمجاد الكنيسة القديمة حسب رغبة الدولة وما طلبته منه. وقد تحدث البابا شنودة نفسه كثيراً عن هذه الفترة والظروف والملابسات التى شهدتها،بأن الرئيس السادات احتضن الجماعات الإسلامية، ولم تأخذ الدولة أى تصرف إيجابى فى العديد من المواقف خصوصاً فى الصعيد.
وبدأت المواجهة المباشرة بين السادات والبابا تطفو على السطح عقب انتشار الأحداث الطائفية والتى يرجعها البعض إلى أنها رد فعل ضد الانتشار السريع والمتعمد فى بناء الكنائس، إلا أن المواجهة أصبحت علنية فى العامين اللاحقين لخطاب السادات فى مايو 1980، وكانت أقصاها فى سبتمبر 1981، إلا أن المواجهة العلنية من السادات جاءت ردود أفعال، حيث أن خطاب مايو 1980 جاء عقب إلغاء احتفال البابا بالعيد فى مارس/ إبريل 1980، ورفضه استقبال التهانى من مندوب رئيس الجمهورية، وإعلانه الصوم والسفر إلى وادى النطرون، وأمره للكنائس بعدم قبول التهنئة بالعيد من قبل المسئولين الرسميين.
أما أحداث 5 سبتمبر 1981 وقرار عزل البابا، فقد جاء عقب أحداث كثيرة متداخلة ومتشابكة لعل أبرزها حادث يونيه 1981 أو ما يعرف بحادث الزاوية الحمراء، ويليه حادث كنيسة مسرة بشبرا 1981،  بالإضافة لإيمان السادات بأن البابا شنودة هو الذى يحرك أقباط المهجر من حيث المظاهرات والضغوط التى يمارسونها على دولهم؛ من أجل الضغط على مصر فى هذا الملف، واعتبر السادات أن البابا شنودة هو من يقف وراء هؤلاء، ومن ثم كثيراً ما كان يقول أن البابا شنودة يسعى لأن يكون زعيماً سياسياً، وقد انتهت العلاقة بين السادات والبابا شنودة الثالث بمحاصرة البابا فى دير وادى النطرون بقوات عسكرية؛ لمنعه من المغادرة أو الاتصال بأحد، بل وتم تعيين لجنة خماسية تقوم بمهام البابا كما أشرنا.
  ورغم كل ما سبق، إلا أن اتهامات البابا شنودة للجماعات الإسلامية باستهداف الأقباط كانت غير صحيحة،فبالرغم مما شهدته فترة حكم السادات من فتن طائفية، إلا أن أبرز الحوادث فى هذا العهد لم تكن ضد أى من الأقباط أو الرموز المسيحية، ومن هذه الحوادث حادث الفنية العسكرية 1974، وحادثة اختطاف وقتل الدكتور الذهبى 1976، وتنظيم الجهاد الأول 1977، وتنظيم الجهاد الثانى 1979، أى أن أبرز الحوادث التى قامت بها الجماعات الدينية لم تكن ضد الأقباط57.
-    حادث الزاوية الحمراء: بدأت تلك الحادثة بنزاع بين بعض المسلمين والأقباط حول قطعة أرض فضاء، وتطور النزاع إلى معركة استخدمت فيها الأسلحة النارية؛ مما أدى إلى مقتل العشرات من الطرفين، فاشتعلت الأحداث على نحو خطير58، أى أنحادث الزاوية الحمراء يمثل أهم حدث وقع خلال مرحلة الثمانينيات، إذ شهد بمفرده نحو 68% من عدد المتوفين فى الأحداث الطائفية التى شهدتها هذه المرحلة، ويمكننا الاعتماد فى سرد تفاصيله على ما جاء فى خطاب الرئيس السادات أمام مجلسى الشعب والشورى فى الدورة الاستثنائية التى دعا إليها فى سبتمبر 1981، والتى شملت الأسباب التى تواترت حول الحادث بالإضافة لدقتها سواء من حيث الأسماء أو التواريخ التى تم ذكرها.فقد ذكر الرئيس السادات أنه بتاريخ 12 يونيه 1981 أبلغ مصنع العلف بالزاوية الحمراء التابع للمؤسسة المصرية العامة للدواجن بحدوث تعدى المواطن كامل مرزوق سمعان على قطعة أرض مملوكة للمصنع معدة لإجراء توسعات فيه ولإقامة مصلى للعاملين، وحسم هذا النزاع بالقرار الإدارى رقم 6 فى 13 يونيه 1981، والذى صدر من حى شمال القاهرة، ونص على إزالة التعدى ونُفذ القرار بالفعل، وانتهى النزاع عند هذا الحد، وفى مساء 17 يونيه 1981 حدث شجار بين أفراد أسرتى موريس صاروفيم إبراهيم، ومحمد سليمان بسبب سقوط مياه قذرة من شرفة مسكن الأول على ملابس بشرفة منزل الثانى، وأسفر الحادث عن إصابة أفراد الأسرتين بإصابات بسيطة ونتيجة للشائعات تحول الأمر من حادث عادى وفردى إلى حادث طائفى، وما زاد الأمور اشتعالاً تردد شائعات أن المواطن كامل مرزوق صاحب مشكلة الأرض مع مصنع الدواجن هو الذى أزكى هذا الحادث، وهو الذى أشعل الفتنة الطائفية، وتوجهت الجماهير إلى منزله فقام بإطلاق النار عليها من سلاحه المرخص؛ مما أشعل الأحداث نتيجة إصابة العديد من المواطنين.
وطبقاً لخطاب الرئيس فإن عدد ضحايا هذا الحادث 17 قتيل و112 مصاباً من بينهم ضابطان وثلاثة جنود، كما تم إتلاف 171 مكان من الأماكن العامة والخاصة، وتم استغلال هذه الأحداث وجرت سرقة ونهب بعض المحلات والشقق، وتم القبض على 226 متهماً فى أعقاب الحادث مباشرة، وهكذا يتبين أن أسباب هذا الحادث مجموعة متفرقة من الحوادث، مع وجود مناخ ساعد على إشعاله بهذه الصورة الكثيفة وغير المعهودة، وقد فجر هذا الحادث العديد من ردود الأفعال الشعبية والرسمية والإعلامية كان أعنفها رد الفعل الرسمى والذى جاء بعد انتهاء الأحداث بحوالى شهرين. وقد تطورت ردود الفعل الرسمية تصاعدياً مع الأحداث، سواء فى البيانات أو التصريحات حتى وصلت لقمتها فى خطاب الرئيس السادات فى سبتمبر من نفس العام والذى دعى فيه مجلسى الشعب والشورى للانعقاد فى دورة استثنائية لمناقشة ما أسماه "إجراء ثوري"، حيث جاء أول بيان كرد فعل رسمى بعد مرور يوم كامل على الحادث؛ مما أثار استهجاناً إعلامياً سواء من الصحف القوميةأو المعارضة،وقد عكس خطاب الحكومة تطور الأحداث، فقد جاء فى البداية مقتل اثنين وإصابة 31 آخرين،ثم كان مقتل 10أشخاص وإصابة 54 آخرين،أما عن الإجراءات الرسمية التى تم اتخاذها فهى عديدة: أولها تحويل نقطة الشرطة التى كانت فى المنطقة إلى مركز شرطة،ثم كـانت هنـاك البيانات العديدة من محافظة القاهرة ومن وزارة الداخلية ومن النائب العام، إلا أن آخر الإجراءات الحكومية تمثلت فيما جاء بخطاب الرئيس أمام البرلمان.إذ أكد الرئيس السادات أنه لن يسمح لأحد أياً كان بضرب الوحدة الوطنية واستغلال الدين، وقال "إننى مسئول عن الأسرة المصرية بمسلميها ومسيحييها … وإذا ما حاول البعض تحت أى شعار أو اسم أو جمعية أن يتكلم باسم المسلمين أو المسيحيين سأوقفه عند حده"، كما طالب بتحليل كامل لحوادث الفتنة الطائفية فى السنوات الأخيرة.
تعد العلاقة بين الدولة والكنيسة مؤشراً للعلاقة بين الجماعة المسيحية وبين الدولة
-    حادث كنيسة شبرا:جاء هذا الحادث بعد مرور أقل من شهرين على حادث الزاوية الحمراء، والذى كانت ما تزال توابعه لم تنته بعد، كما أن خطاب الرئيس السادات جاء لاحقًا له بشهر تقريبًا، وقد حدث أثناء حفل زفاف مساء يوم 2 أغسطس1981 أن وقع انفجار فى فناء كنيسة مسرة بشبرا، أسفر عن وقوع 56 مصابًا من بينهم 14 مسلمًا، وثلاثة قتلى منهم اثنين مسلمين، وقد جاء هذا الحادث متزامناً مع سفر الرئيس السادات للخارج (الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية)، وقد سارع العديد من المسئولين سواء الرسميين أو رجال الدين للتأكيد على أن بصمات التآمر واضحة على الحدث، وأنه تآمر على وحدة مصر وأصالتها، وقد أرجعت بعض الصحف القومية خصوصًا ومن خلال راعى الكنيسة فى تصريحاته لإحدى هذه الصحف " أن من يقف وراء ذلك هم عملاء جبهة الرفض وهى دول الجزائر، ليبيا، سوريا". وأكدت قيادة الكنيسة رفضها للعنف وأن ما حدث هو من تدبير جهات خارجية، كما أرسل راعى الكنيسة "أرمانيوس ذكى" رسالة للرئيس السادات فى الخارج بهذا المعنى، وفى استمرار التأكيد على أن هناك جبهات خارجية تعمل على الضرر بالوحدة الوطنية تم نشر خبرعن محاكمة تنظيم تخريبى كونته دول الرفض لتفجير المفرقعات فى الأماكن العامة.
وعقب الحادثين، وفى خطابه، دعى الرئيس البرلمان للانعقاد يوم 5 سبتمبر، وألقى خطاباً اتسم بإجراءاته الثورية، فتضمن إجراءات حاسمة تستهدف وضع حد جذرى للفتنة الطائفية فى مصر ولحماية الوحدة الوطنية وسلامة الوطن، وقد كشف الرئيس تورط العديد من الأطراف من بينها قيادات أحزاب وقيادات قبطية وقيادات من الجماعات الإسلامية، وقد وصل عدد المعتقلين رسمياً يوم 3 سبتمبر إلى 1536 متهماً، ومن أبرز ما جاء فى بيان السادات الذى وجهه للشعب فى ختامخطابه بأنه قررحظر استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، والتحفظ على بعض الأشخاص الذين توافرت حولهم دلائل جدية على أنهم ارتكبوا أو شاركوا أو جندوا أو استغلوا على أية صورة الأحداث التى هددت الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعى أو سلامة الوطن.
   وكذلك التحفظ على أموال بعض الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات التى مارست نشاطاً أو أعمالاً هددت الوحدة الوطنية، وحل بعض الجمعيات التى مارست نشاطاً تبشيرياً هدد السلام الاجتماعى أو سلامة الوطن، وإلغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ على أموالها ومقارها، ونقل بعض أعضاء هيئات التدريس بالجامعات والمعاهد العليا الذين قامت دلائل جدية على أنهم مارسوا نشاطاً تبشيرياً له تأثير ضار فى تكوين الرأى العام أو فى تربية الشباب أو تهديد سلامة الوطن إلى الوظائف التى يحددها وزير الدولة للتعليم والبحث العلمى بالاتفاق مع الوزراء المختصين، ونقل بعض الصحفيين وغيرهم من العاملين فى المؤسسات الصحفية القومية وبعض العاملين فى اتحاد الإذاعة والتلفزيون والمجلس الأعلى للثقافة إلى الهيئة العامة للاستعلامات أو غيرها من الجهات الحكومية التى يحددها رئيس مجلس الوزراء.
بالإضافة إلى إلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 1971 بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية، وتشكيل لجنة للقيام بالمهام البابوية مكونة من خمسة من الأساقفة، وتشكيل لجنة عليا للوحدة الوطنية برئاسة نائب رئيس الجمهورية وعضوية كل من وزير الدولة للتعليم والبحث العلمى ووزير الدولة لشئون الثقافة والإعلام ووزير الدولة للشئون الاجتماعية ووزير الدولة للأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة وخمسة من الشخصيات العامة يصدر بتعينهم قراراً من رئيس الجمهورية، ويجوز للجنة أن تدعو لحضور اجتماعاتها من ترى الاستعانة بخبراتهم، وتختص هذه اللجنة بوضع الخطط اللازمة للدعوة الدينية السلمية ودعم وحماية الوحدة الوطنية بما يكفل البعد بالمجتمع عن التطرف أو التعصب أو الإلحاد كما تقرر إنشاء فروع لها فى المحافظات.
  وقد أشار الرئيس السادات إلى أنه على المؤسسات الدستورية - كل فى مجال اختصاصه - اتخاذ الإجراءات اللازمة فى هذا الشأن، وكذلك يجرى الاستفتاء يوم الخميس الموافق العاشر من سبتمبر لسنة 1981 على ما تضمنه هذا البيان من إجراءات تم اتخاذها، وقد جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم لإجراءات حماية الوحدة الوطنية بنسبة 99.45%، أى أنه من بين 12 مليون ناخبًا هناك 60 ألف فقط قالوا "لا" لإجراءات الوحدة الوطنية59.

د. شريف درويش اللبان رئيس وحدة الدراسات الإعلامية بالمركز. وأسـماء فـؤاد حافـظ مدرس مساعد بالمركز القومى
 للبحوث الاجتماعية والجنائية وباحثة دكتوراه بكلية الإعلام جامعة القاهرة

الهوامش:
36-    طارق البشرى، المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية، مرجع سابق، ص 109.
37-    محمد عمارة، الفتنة الطائفية (متى وكيف ولماذا؟)، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2009، ص 15.
38-    رامى عطا، صحافة الأقباط وموقفها من قضايا المجتمع المصرى من 1877 إلى 1930، رسالة ماجستير. غير منشورة، جامعة القاهرة، كلية الإعلام، قسم الصحافة، 2005، ص 31.
39-    سليم نجيب، أوضاع الأقباط فى العصر الملكى والجمهورى، موسوعة تاريخ أقباط مصر.
40-    فهمى هويدى، مرجع سابق،  ص 54.
41-    سامح فوزى، سمير مرقص، مرجع سابق، ص 6.
42-    عادل داود، القضية القبطية، دراسات مصرية، 2006.
43-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، مرجع سابق، ص ص 24 – 25.
44-    أبو سيف يوسف، المشكلة الطائفية والأوضاع الطبقية فى مصر، مرجع سابق، ص ص 64- 65.
45-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، مرجع سابق، ص ص 25 – 26
46-    راغب السرجانى، مرجع سابق، ص 29.
47-    سامح فوزى، سمير مرقص، مرجع سابق، ص 7.
48-    ميلاد حنا، نعم أٌقباط لكن مصريون، القاهرة، مكتبة مدبولى، 1980، ص 88.
49-    سامح فوزى، سمير مرقص، مرجع سابق، ص 7.
50-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، مرجع سابق،ص ص 31 – 32.
51-    الفتنة الطائفية أسبابها وعلاجها، منتدى المحامين العرب.
52-    Available at:  http://www.mohamoon-montada.com/Default.aspx?Action=Display&ID=116716&Type=3
53-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، العلاقات الإسلامية القبطية، مرجع سابق، ص ص 37 – 38.

54-    سامح فوزى، سمير مرقص، مرجع سابق، ص ص 7- 8.
55-    راغب السرجانى، مرجع سابق، ص ص 30 - 31.
56-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، مرجع سابق، صص 39 - 40.
57-    مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، مرجع سابق، صص 44 - 47.
58-    المرجع السابق نفسه، صص52 - 63.
59-    راغب السرجانى، مرجع سابق، ص 29.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟