الفاشر بين المأساة الإنسانية والصراع الجيوسياسي في السودان
مقدمة
تشهد
مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، مأساة إنسانية وسياسية غير مسبوقة في تاريخ
السودان الحديث. تحوّلت المدينة خلال الأسابيع الأخيرة إلى مقبرة مفتوحة؛ حيث
اختلطت السياسة بالدم، والخرائط بالرماد، وصار صوت السلاح هو اللغة الوحيدة
السائدة.
ما يجري
في الفاشر ليس مجرد اشتباك عابر بين جيش وميليشيا، بل هو صراع على هوية الدولة
السودانية وموقعها في خريطة النفوذ الإقليمي والدولي. هذه
الكارثة لم تولد فجأة، بل هي نتيجة تراكم طويل من الانقسامات، والتنافس على
الموارد، والتدخلات الخارجية التي حوّلت دارفور إلى مسرحٍ مفتوحٍ لتصفية الحسابات
الجيوسياسية.
من
الناحية الإنسانية، تشير التقارير والصور الفضائية الأخيرة الصادرة عن مختبر جامعة
ييل إلى حجم دمار يصعب وصفه؛ جثث في الشوارع، مستشفيات أُفرغت بالرصاص، وأحياء
أُبيدت بالكامل في مشاهد تكرّر مآسي رواندا وسوريا من جديد.
أما من
الناحية السياسية، فقد كشفت هذه الأحداث عن تحوّل بنيوي في طبيعة الصراع السوداني: لم يعد الصراع على السلطة فحسب، بل أصبح على
الخرائط، والهويات، والثروات، والمنافذ الاستراتيجية.
إن الميليشيات
المسلحة — وعلى رأسها قوات الدعم السريع — تمارس العنف الممنهج كوسيلة لتحقيق
أهداف سياسية عميقة، بدءًا من إعادة توزيع السكان وفرض وقائع ديموغرافية جديدة،
وصولاً إلى بناء اقتصادٍ موازٍ يقوم على الذهب والتهريب والعلاقات الإقليمية
المعقّدة.
وفي ظل
هذا كله، يظهر صمت دولي وإقليمي يُثير تساؤلات حول المصالح المتشابكة، خاصة مع
ورود تقارير عن شبكات تمويل وتجارة ذهب تمر عبر دول في الخليج وشمال إفريقيا، مما
يجعل الصراع في دارفور جزءًا من لعبة نفوذ تتجاوز حدود السودان.
النتيجة
أن الفاشر لم تعد فقط رمزًا للمأساة، بل أصبحت مفتاحًا جيوسياسيًا في معركة إعادة
تشكيل السودان وربما منطقة الساحل والصحراء بأكملها.
فالسيطرة
على الفاشر تعني السيطرة على الطرق التجارية والمعابر الحدودية، والتحكم في موارد
الذهب والأسواق الموازية، وضمان النفوذ على جزء حيوي من القارة الإفريقية يمكن أن
يتحوّل إلى منطقة عازلة أو قاعدة نفوذ دولي.
التحليل الجيوسياسي:
لماذا الفاشر ودارفور هدف استراتيجي؟
إن دارفور
ليست مجرد إقليم منسي في غرب السودان، بل عقدة وصل بين شمال إفريقيا وعمق القارة،
تمتد حدودها لتلامس تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، ما يجعلها نقطة حيوية لأي مشروع
يسعى للهيمنة على طرق الإمداد والتجارة والسلاح.
الفاشر
تحديدًا تمثل قلب هذه العقدة، فهي تجمع بين الرمزية السياسية (كونها عاصمة شمال
دارفور) والقيمة اللوجستية (شبكة الطرق والممرات المؤدية إلى المناجم والأسواق
والحدود).
ومن هنا
يتضح أن السيطرة عليها ليست هدفًا عسكريًا فحسب، بل أداة لإعادة هندسة السودان
جيوسياسيًا، عبر:
·
التحكم
في الموارد الطبيعية، وعلى رأسها الذهب الذي يشكّل الوقود المالي للصراع.
·
استخدام
السيطرة على الأرض والسكان لإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية والسياسية.
·
بناء
اقتصادٍ موازٍ يسمح بتمويل الحرب واستقطاب المرتزقة دون الاعتماد على مؤسسات
الدولة.
·
تكوين
شبكات نفوذ عابرة للحدود تمتد إلى تشاد وليبيا وغيرها، وتخلق اقتصاد حرب إقليمي
يصعب تفكيكه.
·
الفاشر
إذًا ليست مجرد مدينة، بل بوابة نفوذٍ واستراتيجيةٍ وأداة صراعٍ دولي تتقاطع عندها
مصالح الذهب والسياسة والدم.
·
وما يحدث
فيها اليوم لا يمكن فصله عن مشروعٍ أوسع يسعى لتقسيم السودان وإعادة توزيع القوة
داخله بما يخدم ترتيبات جديدة في الإقليم الإفريقي والعربي على حد سواء.
أولاً- الكارثة
الإنسانية والسياسية في الفاشر
في قلب دارفور، وفي مدينة كانت
يومًا تُعرف بأنها “عروس الغرب السوداني”، تحوّلت الفاشر إلى مشهدٍ مرعبٍ تختصر
فيه المأساة السودانية بأكملها.
فمنذ
أسابيع، لم تعد المدينة ساحة صراع عسكري فحسب، بل أصبحت رمزًا لانهيار الدولة
السودانية أمام فوضى الميليشيات، وانكشاف المجتمع الدولي أمام اختبارٍ أخلاقي وإنساني
قاسٍ.
في شوارع
الفاشر، امتزجت رائحة التراب المحترق بالدماء، وتحوّلت المستشفيات إلى أهداف،
والمنازل إلى مقابر جماعية. التقارير القادمة من مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة
ييل وصور الأقمار الصناعية لشركة Maxar أظهرت
بقعًا حمراء داكنة تُغطي مساحات مترامية من الأرض — تحليل الصور أكد أن هذه ليست
ظلالًا أو بقايا حرائق، بل آثار دماء بشرية، تُمثّل مشهدًا لجريمة إبادة جماعية
تُرتكب في القرن الحادي والعشرين على مرأى العالم.
المأساة
لم تتوقف عند القتل في الشوارع، بل امتدت إلى المستشفيات والمراكز الإنسانية، حيث
أعلن حاكم دارفور مني أركو مناوي أن أكثر من 460 مريضًا
ومصابًا تمت تصفيتهم بالرصاص داخل المستشفى السعودي في الفاشر. مشهد كهذا يُلخص
معنى “غياب الدولة” و“انهيار المعايير الإنسانية”؛ حين يصبح المريض هدفًا،
والمستشفى ساحة حرب، والقاتل يتباهى بعدد ضحاياه كما لو كانت بطولة.
لكن ما يحدث في الفاشر لا يمكن
فهمه فقط من زاوية إنسانية.
فوراء هذا الدمار مشروع سياسي
واضح المعالم، يُراد له أن يُعيد رسم خريطة السلطة والهوية في السودان.
الميليشيات
التي ترتكب الجرائم — وعلى رأسها قوات الدعم السريع — لا تتحرك بدافع الكراهية
فقط، بل وفق استراتيجية مركبة تقوم على التهجير المنهجي للسكان الأصليين من
القبائل الإفريقية غير العربية، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي يخدم أهداف السيطرة
المستقبلية على الأرض والثروة.
النتيجة
أن الكارثة في الفاشر تُعبّر عن تحوّل نوعي في طبيعة الحروب داخل السودان:
فلم تعد
حربًا من أجل النفوذ السياسي فقط، بل حربًا لإعادة هندسة المجتمع نفسه، وتحويل
الأرض والسكان إلى أوراق تفاوض في معادلة الصراع الإقليمي والدولي.
في ظل
هذه الكارثة، يبرز سؤال أخلاقي وسياسي في آنٍ واحد:
هل يمكن
أن تُترك مدينة كاملة لمصيرها بينما تُرسم خرائط جديدة في غرف السياسة المغلقة؟
وهل
تتحمل المنظمات الدولية، بصمتها، مسؤولية المشاركة غير المباشرة في الجريمة؟
الفاشر
اليوم ليست مجرد ضحية، بل مرآة تعكس انهيار النظام الإقليمي العربي والإفريقي في
مواجهة أزمات الهوية والسيادة.
وما يجري
فيها قد يكون -إذا استمر الصمت- الشرارة التي تُعيد إنتاج
الفوضى على امتداد حزام الساحل الإفريقي بأكمله.
ثانيًا- توصيف ما حدث —
من المذبحة إلى الإبادة الجماعية
ما جرى
في الفاشر لا يمكن وصفه بأنه “اشتباكات مسلحة” كما تورد بعض البيانات الدبلوماسية
الباردة؛ إنه فعل إبادةٍ جماعيةٍ مكتمل الأركان، تتوافر فيه كل عناصر الجريمة كما
يحددها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:
النية،
والتنظيم، والاستهداف القومي أو العرقي، والسلوك المنهجي المتكرر.
لقد
تحوّل القتل إلى أداة سياسية منظمة، لا إلى حادث عارض في حرب فوضوية.
فوفقًا
لتقارير الأمم المتحدة وشهادات الأطباء الفارين من المستشفى السعودي، كانت عمليات
التصفية تُنفذ وفق قوائم محددة، تُستهدف فيها فئات بعينها من المدنيين — خصوصًا
المنحدرين من قبائل الزغاوة والفور والمساليت — وهي القبائل التي تمثل العمود
الفقري للمجتمع الدارفوري غير العربي.
هذا يعني أن ما يحدث ليس مجرد قتال بين طرفين، بل هندسة عرقية
متعمدة تهدف إلى محو هوية جماعية من الوجود.
صور
الأقمار الصناعية وتقارير المنظمات الميدانية وثّقت أنماطًا متكررة من الحرق
الجماعي للقرى، ودفن الجثث في مقابر مؤقتة، فضلًا عن استخدام الاغتصاب كسلاح ممنهج
لبث الرعب وتفكيك النسيج الاجتماعي.
هذه ليست
لغة الصحافة، بل مصطلحات قانونية تُستخدم لوصف جرائم الإبادة، وهي ذاتها التي
استُخدمت في رواندا عام 1994 والبوسنة عام 1995.
الفارق الوحيد أن العالم هذه المرة يرى ويسمع ويصمت.
وحتى
اللحظة، تشير تقديرات منظمات الإغاثة إلى أن أكثر من 100 ألف
مدني نزحوا من الفاشر خلال أسابيع قليلة، بينما قُطعت الطرق المؤدية إلى المدينة
لإحكام الحصار وتجويع السكان، في تكرارٍ لأساليب “الحرب الشاملة” التي تهدف إلى
كسر إرادة المجتمعات المدنية.
لم تعد المسألة
فقط في من يموت ومن ينجو، بل في محاولة اقتلاع ذاكرة كاملة من جذورها.
سياسيًا،
يُمكن قراءة ما جرى باعتباره تحولًا من صراع على السلطة إلى مشروع لإعادة تعريف من
هو “السوداني”.
فقوات
الدعم السريع، المدعومة بتسليح خارجي وتمويل غير رسمي، تتصرف كما لو أنها دولة
موازية تفرض تعريفها الخاص للوطن والمواطنة والهوية.
وفي
المقابل، يظهر ضعف الحكومة المركزية في بورتسودان وكأنه اعتراف ضمني بالعجز أو
التواطؤ، إذ لم يصدر منها أي تحرك فعّال لوقف النزيف أو لفتح ممرات إنسانية.
إن توصيف
ما حدث في الفاشر ليس لغرض اللغة فحسب، بل لأنه يحدد مسؤولية العالم تجاه ما يجري:
فعندما
نُسمّي الأشياء بأسمائها — "إبادة جماعية" لا "اشتباكات" —
يصبح الصمت جريمة ثانية، ويصبح التدخل واجبًا أخلاقيًا لا خيارًا سياسيًا.
ثالثًا- من يقف وراء
المجازر؟ — بنية الميليشيا وأدوار القادة
لفهم ما
جرى في الفاشر، لا بد من تفكيك البنية الفعلية للميليشيا التي قادت هذه المذابح،
وعلى رأسها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والتي تحوّلت من
تشكيل أمني محدود في دارفور إلى قوة عسكرية اقتصادية عابرة للحدود.
1- النشأة والبنية: من "الجنجويد"
إلى "الدعم السريع"
تعود
جذور قوات الدعم السريع إلى ميليشيات "الجنجويد" التي ظهرت مطلع الألفية
في دارفور بدعم مباشر من نظام الرئيس السابق عمر البشير، كأداة لقمع التمرّد
المسلح.
ومع مرور
الوقت، تمّ إعادة هيكلتها رسميًا عام 2013 تحت مسمى “قوات الدعم السريع”، ومنحت
صلاحيات شبه مطلقة، بما في ذلك حق التجنيد والتمويل الذاتي والتدخل في أي منطقة
داخل السودان.
هذه
البنية الهجينة جعلت القوة لا تخضع لوزارة الدفاع فعليًا، بل ترتبط شخصيًا بقائدها
حميدتي، الذي أسّس لنفسه نظامًا موازياً داخل الدولة: جيش
خاص، واقتصاد خاص، وتحالفات خارجية مستقلة.
2- القيادة والتخطيط: حميدتي وإخوة السلطة
يقف
حميدتي في مركز هذه المعادلة، فهو لا يرى نفسه تابعًا للدولة بل فاعلًا سياسيًا
واقتصاديًا إقليميًا.
وقد أسّس
خلال السنوات الماضية شبكات معقّدة من المصالح، تمتد من تجارة الذهب السوداني إلى
شركات الأمن الخاصة في ليبيا وتشاد ودول أخرى.
هذا
الثراء غير المشروع مكّنه من تمويل آلته العسكرية والإعلامية، وجعل ولاء المقاتلين
شخصيًا له لا للمؤسسات.
إلى
جانبه يبرز عبد الرحيم دقلو، شقيقه ونائب قائد الدعم السريع، الذي يقود العمليات
الميدانية في دارفور، ويُعدّ المسؤول المباشر عن توجيه وحدات الإبادة في الفاشر.
أما على
الأرض، فتقوم وحدات صغيرة بتطبيق أوامر “التطهير” وفق منهجية منظمة: تطويق القرى،
فصل الرجال عن النساء، ثم تنفيذ الإعدامات الجماعية أو عمليات الاغتصاب الممنهج
لإرهاب المجتمع.
3-شبكات الدعم والتمويل الخارجي
وراء
الدعم السريع تقف منظومة مصالح دولية وإقليمية تستفيد من استمرار الفوضى في
السودان، وعلى رأسها شبكات تهريب الذهب والأسلحة، وبعض القوى التي ترى في تفكك
السودان فرصة لإعادة رسم النفوذ في منطقة القرن الإفريقي.
تشير
التقارير إلى وجود خطوط تمويل غير رسمية تمر عبر الحدود مع ليبيا وتشاد، وتشارك
فيها شركات خاصة ووسطاء يعملون في تجارة الذهب مقابل السلاح أو الدعم اللوجستي.
4-الجيش والدولة الغائبة
أما
الجيش السوداني، بقيادة عبد الفتاح البرهان، فيظهر في المشهد كجسم مشلول الإرادة،
ينشغل بالدفاع عن وجوده أكثر من حماية المدنيين.
إن
ازدواجية السلطة بين الجيش والدعم السريع لم تعد صراعًا بين مؤسستين وطنيتين، بل
تحوّلت إلى حرب بين دولة مركزية تتآكل وميليشيا تتغوّل.
وهنا
تكمن المأساة: فحينما يغيب مركز القرار، تُصبح المدن رهينة للسلاح.
5-الأهداف العميقة: السلطة والهوية والموارد
ليست
دوافع الميليشيا عسكرية فحسب؛ بل هي مشروع متكامل للهيمنة على هوية السودان
الجديدة، يُعيد تعريف الانتماء من معيار المواطنة إلى معيار الولاء القبلي
والمصلحي.
إضافة
إلى ذلك، تمثل ثروات دارفور الطبيعية -خصوصًا الذهب والنفط والمعادن النادرة - جوهر الصراع الحقيقي.
الفاشر
إذًا ليست مجرد ساحة قتال، بل نقطة ارتكاز في خريطة المصالح الإقليمية والدولية.
إن ما يجري في الفاشر لم يكن
صدفة، بل مشروع مُعدّ بعناية لاقتلاع مراكز المقاومة التاريخية في دارفور، وإعادة
هندسة التوازن الديموغرافي والسياسي في السودان لصالح نخبة جديدة لا تؤمن بالوطن
بل بالمكسب.
رابعًا- الدوافع
السياسية العميقة — من الصراع على السلطة إلى إعادة رسم الجغرافيا
ما يحدث
في الفاشر ودارفور لا يمكن اختزاله في صراع عسكري بين الجيش والدعم السريع، بل هو
انعكاس لصراع أعمق على هوية الدولة السودانية وموقعها الجيوسياسي في الإقليم.
فمنذ
سقوط نظام البشير عام 2019، لم يستطع السودان أن يبلور عقدًا سياسيًا جديدًا يضمن
توازن القوى بين المركز والأطراف، وبين الجيش والنخب المحلية، وبين الداخل والضغوط
الخارجية.
ومن هنا، أصبح الصراع على السلطة متشابكًا مع الصراع على
الجغرافيا والهوية.
1-الصراع على الدولة لا داخلها
القضية
الجوهرية اليوم ليست من يحكم السودان، بل ما هو السودان أصلًا؟، فالتحالفات
العسكرية والقبلية والاقتصادية باتت تتجاوز فكرة الدولة المركزية.
في
دارفور مثلًا، تسعى قوات الدعم السريع إلى إقامة واقع ميداني جديد يمنحها السيطرة
الكاملة على الإقليم الغني بالذهب والحدود المفتوحة على تشاد وإفريقيا الوسطى، ما
يتيح لها أن تكون كيانًا سياسيًا شبه مستقل.
بهذا
المعنى، يتحول الصراع من صراع على الخرطوم إلى صراع على الخريطة نفسها.
2-الجغرافيا كأداة في الصراع
دارفور
ليست مجرد إقليم ناءٍ؛ إنها نقطة التقاء الجغرافيا الإفريقية والعربية، وممر
استراتيجي يربط غرب إفريقيا بالبحر الأحمر.
ومن
يسيطر عليها يمتلك مفاتيح التجارة والتهريب والمعادن، ويستطيع أن يؤثر في موازين
القوى بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب.
ولهذا،
تسعى الأطراف الإقليمية والدولية إلى ترسيخ نفوذها هناك عبر دعم وكلاء محليين،
سواء عبر التسليح أو التمويل أو حتى عبر الإعلام.
إنها
جغرافيا تُدار بالعنف لأنها تحمل ثروات لا يمكن اقتسامها بسهولة.
3-الاقتصاد المحرّك الخفي
يُعدّ
الذهب السوداني أحد أهم محركات الحرب الحالية.
فالسيطرة على مناجم الذهب في جبل
عامر ودارفور تمنح الدعم السريع قدرة مالية ضخمة، تمكّنه من تمويل عملياته وشراء
الأسلحة والولاءات.
في
المقابل، يرى الجيش السوداني أن فقدان هذه الموارد يعني نهاية سلطته الاقتصادية
والسياسية.
وهكذا، تحوّل الصراع على الموارد إلى جوهر الصراع على الدولة
نفسها، حيث لم يعد الحكم وسيلة للسلطة، بل وسيلة للثروة.
4-تفكك النسيج الوطني وإعادة رسم الخريطة
إن تعدد
مراكز القوة في السودان - من الجيش والدعم السريع إلى الحركات المسلحة والإدارات
القبلية - جعل من البلاد دولة فسيفسائية مفتتة.
ومع
تزايد الانقسامات العرقية والقبلية، بدأ الحديث في بعض الدوائر الدولية عن “إعادة
ترسيم الحدود الداخلية” أو “الفيدرالية القسرية”، وهو ما يعني عمليًا تقسيم
السودان على أسس إثنية واقتصادية.
الفاشر
في هذا السياق ليست مجرد مدينة تُباد، بل بوابة لتقسيم محتمل يرسم خريطة جديدة
للقرن الإفريقي.
5-البعد
الجيوسياسي-السودان في مرمى المصالح الكبرى
من زاوية
أوسع، فإن ما يجري في السودان يعكس صراعًا بين القوى الكبرى على ممرات البحر
الأحمر وطرق التجارة الإفريقية.
الولايات
المتحدة تسعى إلى منع تمدد النفوذ الروسي عبر شركة “فاغنر” في دارفور، بينما تحاول
روسيا تأمين موطئ قدم على البحر الأحمر.
أما بعض
القوى الإقليمية، فترى في انهيار الدولة السودانية فرصة لتوسيع نفوذها الاقتصادي
والأمني.
وهكذا
يتحول السودان إلى رقعة شطرنج في صراع عالمي صامت، يدفع ثمنه المدنيون في الفاشر
ودارفور.
6-من السلطة إلى الوجود
إن الدوافع
السياسية في جوهرها تتجاوز مجرد الصراع على الحكم؛ فكل طرف يسعى لتثبيت روايته
الخاصة عن السودان:
·
الجيش
يقدّم نفسه حامي وحدة الدولة.
·
الدعم
السريع يقدّم نفسه ممثلًا للهوامش والمهمشين.
·
والقوى
الخارجية تدّعي حماية الاستقرار بينما تغذي الفوضى.
·
لكن
الحقيقة المؤلمة أن النتيجة واحدة: شعب يُباد، وأرض تُقسم،
ودولة تُختزل في صراع الميليشيات.
خامسًا- الأبعاد
الإقليمية والدولية — الصمت الذي يقتل
لا يمكن
فهم ما يحدث في الفاشر ودارفور دون النظر إلى شبكة العلاقات والمصالح التي تمتد
خارج حدود السودان. فالصراع هناك لم يعد مسألة داخلية، بل أصبح عقدة جيوسياسية
تتقاطع فيها مصالح إقليمية ودولية معقدة، تتغذى من الفوضى أكثر مما تتأثر بها.
إن صمت
العالم، بل أحيانًا تواطؤه الصامت، لم يكن ناتجًا عن الجهل، بل عن حسابات دقيقة
للمصالح والنفوذ.
1- الدور
الإقليمي — المصالح قبل المباديء
في قلب
هذا المشهد نجد دولًا إقليمية تتعامل مع السودان وفق منطق النفوذ والموارد، لا وفق
مبادئ الاستقرار أو الإنسانية.
تشاد
مثلًا تنظر إلى دارفور من زاوية أمنية بحتة؛ فهي تخشى من تدفّق اللاجئين وانتشار
السلاح والقبائل المسلحة عبر حدودها الغربية.
ليبيا
تمثّل معبرًا لوجستيًا للجماعات العابرة للحدود، حيث تتقاطع شبكات تهريب الذهب
والسلاح والبشر.
أما بعض
المراكز التجارية الإقليمية، فقد ذُكرت في عدة تحقيقات دولية (مثل The
Sentry وChatham House) بوصفها محطات عبور رئيسية
لتجارة الذهب القادم من مناطق النزاع، والذي يُستخدم كوقود لتمويل الميليشيات.
وبهذا
المعنى، تحوّل الإقليم إلى سوق مفتوحة للعنف، حيث يجد كل فاعل مكانًا يناسب
مصالحه، حتى لو كان الثمن آلاف القتلى من المدنيين.
2- الموقف العربي - الحذر والحياد السلبي
في
المشهد العربي، يخيّم الحرج والصمت.
فالجامعة
العربية لم تتجاوز حدود البيانات الشكلية، بينما تلتزم أغلب الدول بسياسة
"الحياد"، بحجة أن الصراع “سوداني–سوداني”.
لكن هذا
الحياد ليس بريئًا، إذ يمنح الميليشيات الوقت الكافي لترسيخ سلطتها على الأرض،
ويُضعف فرص الحل السياسي.
بل إن
بعض الدول تنظر إلى انهيار السودان على أنه فرصة لتعزيز أدوارها الإقليمية، وليس
تهديدًا يجب احتواؤه.
وهكذا
يتحوّل الصمت العربي إلى شكل آخر من أشكال المشاركة غير المباشرة في المأساة.
3-القوى الدولية — لعبة التوازن البارد
تبدو
القوى الكبرى وكأنها تدير الأزمة من بعيد:
الولايات
المتحدة ترفع شعارات حقوق الإنسان، لكنها تتحرك ببطء لأن السودان ليس أولوية
جيوسياسية أمام ملفات مثل أوكرانيا وغزة.
أما روسيا
تسعى لترسيخ وجودها في البحر الأحمر عبر اتفاقيات سابقة، وتُتهم بتقديم دعم لوجستي
لبعض الفصائل عبر شبكات فاغنر.
الصين،
من جهتها، تراقب المشهد من منظور اقتصادي بحت، إذ يهمها تأمين استثماراتها في
الموارد والمعادن، لا الدخول في نزاعات سياسية.
والاتحاد
الأوروبي يركز على ملف الهجرة ومنع تدفق اللاجئين إلى المتوسط، أكثر من اهتمامه
بحماية المدنيين داخل السودان.
وهكذا،
يتحول السودان إلى منطقة رمادية في السياسة الدولية: الكل
يراقب، ولا أحد يتحمّل المسؤولية.
3- المنظمات
الدولية - شهادات بلا فعل
رغم صدور
تقارير موثّقة من الأمم المتحدة، ومراكز أبحاث مثل Yale
Humanitarian Lab وHuman Rights Watch، فإن الاستجابة الميدانية تبقى محدودة.
فالأمم
المتحدة عاجزة عن التدخل الفعلي بسبب انقسام مجلس الأمن، ورفض بعض القوى الكبرى
لأي تدخل عسكري جديد في إفريقيا.
أما
الإدانة الإنسانية، فتبقى في حدود البيانات والصور الفضائية التي تُوثّق الجرائم
بعد وقوعها، دون قدرة على وقفها.
النتيجة
أن الدماء تجفّ قبل أن تصل إلى قاعات الأمم المتحدة.
4-لماذا هذا الصمت؟ - معادلة المصالح لا
المبادئ
الصمت
الدولي ليس مصادفة، بل هو نتاج حسابات دقيقة للمصالح.
فالموارد
التي تخرج من دارفور (الذهب، الثروات المعدنية، الأراضي الزراعية) تغذّي أسواقًا
إقليمية ودولية، وتجعل من استمرار الفوضى وضعًا مريحًا للبعض.
أما
التدخل الحقيقي، فيُعد مكلفًا سياسيًا وعسكريًا، لذا يفضَّل الإبقاء على “إدارة الأزمة” لا حلها.
وبين المصلحة والإنسان، ينتصر المنطق البارد: ليست هناك كلفة للصمت، بل مكافأة عليه.
5- الفاشر
كرمز دولي للخذلان
تحوّلت
الفاشر إلى رمز للخذلان العالمي، كما كانت سربرنيتسا رمزًا لأوروبا في التسعينيات.
المدنيون يُبادون أمام الكاميرات، والمنظمات تكتفي بالتوثيق.
ومع كل
يوم تأخير في الضغط الدولي، تتوسع رقعة الإبادة وتترسخ معادلة “من يملك الأرض يملك
الشرعية”.
وبذلك
يصبح الصمت الدولي أحد أشكال الجريمة، لأنه يمنح القتلة الوقت والغطاء السياسي.
سادسًا- التداعيات
السياسية المحتملة
إن الأحداث
في الفاشر ليست مجرد مأساة إنسانية عابرة، بل هي نقطة تحوّل مفصلية في مستقبل
السودان السياسي، وقد تكون لحظة كاشفة لما سيأتي لاحقًا على مستوى الدولة والمجتمع
والنظام الإقليمي بأسره. فما حدث في دارفور لا يمكن فصله عن السياق العام للصراع
على السلطة، ولا عن تنافس القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في السودان.
من هنا،
تتبلور عدة تداعيات محتملة يمكن أن تُعيد رسم المشهد السوداني داخليًا وخارجيًا.
1-تفكّك الدولة السودانية وتحولها إلى أقاليم
منفصلة
إن أخطر
ما يهدد السودان اليوم هو التآكل التدريجي لوحدة الدولة.
فسيطرة
الميليشيات على مناطق بأكملها، وتحويلها إلى “إدارات ميدانية”، يعني عمليًا ظهور
كيانات شبه مستقلة.
دارفور،
بهذا المعنى، قد تصبح نواة كيان سياسي جديد غير معلن، خاصة إذا استمرت السيطرة
العسكرية والاقتصادية لقوات الدعم السريع (RSF) على
الموارد والمنافذ الحدودية.
هذا
السيناريو يُعيد إلى الأذهان تجربة جنوب السودان قبل الانفصال عام 2011، حيث بدأ
التآكل من السيطرة الميدانية وانتهى بانفصال رسمي.
ولذلك،
يخشى كثير من المحللين أن تكون مجازر الفاشر تمهيدًا لتكريس واقع سياسي جديد يقوم
على التقسيم الناعم للسودان إلى أقاليم نفوذ.
2-انهيار الشرعية السياسية المركزية
الحكومة
السودانية الحالية، التي تتنازعها أطراف متعددة، فقدت السيطرة على أجزاء واسعة من
البلاد.
ومع سقوط
الفاشر، خسر المركز أحد أهم معاقله في الغرب، ما يضعف أي ادعاء بوجود “سلطة وطنية
جامعة”.
وبهذا،
يدخل السودان مرحلة فراغ شرعي، تُملؤها القوى المسلحة والفاعلون غير الدوليين، مما
يمهّد لولادة أنظمة موازية:
سلطات
محلية، محاكم ميدانية، اقتصاد ظلّ، وجيش خاص بكل إقليم.
في هذه
الحالة، تتحول الدولة من وحدة سياسية إلى سلسلة من مراكز القوى المتصارعة، دون
مؤسسة جامعة قادرة على فرض القانون.
3- تحوّل
الصراع إلى نموذج “ليبي–إفريقي”
مع دخول المرتزقة الأجانب، وتدفّق
السلاح عبر الحدود، يصبح الصراع في السودان شبيهًا بما حدث في ليبيا بعد 2011.
بل إن السودان مهيأ لأن يكون
نموذجًا أكثر خطورة:
·
لأن
أراضيه أوسع،
·
وحدوده
مفتوحة مع سبع دول،
·
وموارده
أكبر، ما يجعل كل طرف خارجي يجد مصلحة في البقاء داخل اللعبة.
في هذه
الحالة، ستتحول دارفور إلى ساحة حرب إقليمية بالوكالة، تُستخدم فيها الفصائل
كأدوات لصراع القوى الكبرى والإقليمية.
4- تفاقم
الأزمة الإنسانية وتسييس المساعدات
مع
استمرار القتال، يزداد عدد النازحين داخليًا واللاجئين إلى دول الجوار، خاصة تشاد
وجمهورية إفريقيا الوسطى.
لكن
المأساة لا تتوقف عند الجانب الإنساني، بل تتعداه إلى تسييس المساعدات:
الميليشيات
ستستخدم الغذاء والدواء كأداة ضغط على السكان لتأمين الولاء أو إذلال المجتمعات
التي تعتبرها “معادية”.
هذا
النمط من التحكم الإنساني في مناطق النزاع سبق أن ظهر في سوريا واليمن، ويبدو أنه
يُعاد إنتاجه في السودان اليوم.
5-إعادة تشكيل التحالفات الداخلية
الجرائم التي ارتُكبت في الفاشر
ستترك أثرًا عميقًا في الوعي الجمعي السوداني.
القبائل والمجتمعات التي كانت
متعايشة نسبيًا في دارفور ستجد نفسها أمام ذاكرة مثقلة بالدم والكراهية، ما يصعّب
أي مشروع مصالحة قريب.
في المقابل، قد تنشأ تحالفات
جديدة من رحم الصدمة — بين فصائل مدنية ومجموعات قبلية متضررة — بهدف مقاومة هيمنة
الميليشيا.\لكن نجاح هذه التحالفات سيتوقف على الدعم
الدولي والإقليمي، وعلى قدرتها على تقديم بديل سياسي منظم.
6-تغير موقع السودان في المعادلة الاقليمية
من منظور
جيوسياسي، سيؤدي انهيار الأمن في دارفور إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في القرن
الإفريقي والساحل.
فكل من
مصر، وتشاد، وليبيا، وإثيوبيا، ستحاول حماية حدودها عبر دعم أطراف معينة داخل
السودان.
وفي حال
طال أمد الصراع، قد تظهر مناطق نفوذ متداخلة، بحيث تتعامل كل دولة مع جهة مسلحة
باعتبارها “السلطة الواقعية”.
وهذا
يعيد السودان إلى مرحلة التبعية الجيوسياسية، حيث تتحكم القوى الخارجية في قراره
الداخلي.
7-على المدى المتوسط — فرص محدودة للحل
السياسي
في المدى
القريب، يبدو أن أي حل سياسي شامل صعب التحقيق، لأن موازين القوة تميل إلى منطق
السلاح لا الحوار.
لكن على
المدى المتوسط، ومع تزايد الضغط الدولي وتفاقم الكارثة الإنسانية، قد تُفرض تسوية
سياسية “اضطرارية”، تقوم على تقاسم السلطة بين القوى المتحاربة.
ومع ذلك،
سيظل خطر الانقسام حاضرًا، لأن الجراح الاجتماعية والنفسية الناتجة عن المجازر لا
تندمل بسهولة.
الخلاصة — دارفور تصرخ
دارفور
تصرخ اليوم لا لأن صوتها لم يُسمع، بل لأن العالم اختار أن يصمّ أذنيه.
تصرخ من
تحت الرماد والأنقاض، ومن فوق المقابر الجماعية، ومن داخل مخيمات النزوح التي تحوّلت
إلى مدن منسية على أطراف الجغرافيا.
إن ما
جرى في الفاشر ليس حادثة عابرة في تاريخ السودان، بل علامة فارقة في الصراع على مستقبل
البلاد، حيث يتقاطع المحلي بالإقليمي، والإنساني بالجيوسياسي.
فالإبادة
في دارفور لم تعد مجرد فعلٍ وحشي، بل أداة لإعادة رسم الخريطة السياسية والقبلية
والجغرافية للسودان.
تتحرك
القوى الفاعلة في الإقليم — من دول الجوار إلى اللاعبين الدوليين — وفق مصالح تمتد
من الذهب والنفط والممرات الحدودية إلى التحكم في عمق إفريقيا الوسطى والساحل.
في هذا
المشهد يصبح السودان، ودارفور تحديدًا، ساحة اختبار لتوازنات جديدة في القرن
الإفريقي، حيث تُعاد صياغة الحدود والنفوذ تحت غطاء الفوضى الإنسانية.
لقد
تحوّلت دارفور إلى مرآة تعكس مأزق العالم العربي والإسلامي، الذي اكتفى بالمراقبة
بينما تُعاد هندسة المنطقة سياسيًا وديموغرافيًا.
صرخة
دارفور إذن ليست مجرد استغاثة، بل تحذير من مستقبل تتفكك فيه الدول أمام تمدد
الميليشيات والمصالح الدولية.
إن
دارفور تصرخ مطالبةً بالإنصاف لا بالشفقة، وبـ عدالةٍ دولية حقيقية لا ببياناتٍ
شكلية، وبموقف عربي وإسلامي يعيد الاعتبار للإنسان قبل الجغرافيا.
صرختها
اليوم دعوةٌ لإيقاظ الضمير العالمي، وتذكيرٌ بأن السكوت على الإبادة هو مشاركة
فيها.
دارفور تصرخ...
لا لتستنجد، بل لتقول للعالم: إن
الإنسان حين يُنسى، تتحول الخرائط إلى مقابر، والجغرافيا إلى شهادة وفاةٍ للأخلاق
والسياسة معًا.

