سادت مؤخراً حالة من التوتر داخل المجتمع الأمريكى بعد إعلان الإغلاق الحكومي فى سبتمبر 2025 ويعد هذا الإغلاق الثانى الذى يحدث أثناء فترة حكم الرئيس "ترامب"  فقد سبق أن حدث إغلاق عام 2018 أثناء العهدة الأولى لحكم الرئيس "ترامب"، ولكن فى هذه المرة تم امتناع أعضاء البرلمان من الحزب الديمقراطى عن التصويت لإقرار ميزانية عام 2025:2026 المالية ورغم سيطرة الجمهوريين على مقاعد البرلمان إلا أن فارق عدد سبعة أصوات عن النصاب القانونى أوقف تمرير الميزانية وقد كان حتمياً تصويت هذا العدد من نواب الحزب الديمقراطى، وقد أرجع الحزب الديمقراطى ذلك إلى إعتراضهم على قرارات "وزارة الكَفاءه الحكومية" التى تعمل على خفض الإنفاق وإعادة توجيه الإنفاق، ومن أبرزها خفض الكثير من الميزانيات المخصصة إلى برامج مختلفة وأفراد وإلى جهات ِفدرالية وحكومية وإقالة عشرات الآلاف من الموظفين الِفدراليين .

ما هو الإغلاق الحكومي الأمريكي؟

غالباً ما يحدث هذا الإغلاق فى شهر سبتمبر وهو موعد انتهاء السنة المالية وإقرار ميزانية السنة المالية للعام الجديد لدى الولايات المتحدة الأمريكية إذا لم يتم التصويت من النواب على ميزانية العام الجديد بالحد الأدنى للأصوات الذى يسمح به البرلمان أو أكثر، ويمكن للبرلمان إعتماد "ميزانية جزئية" لمدة عدة أسابيع لتيسير الأعمال حتى يتوصل الحزبين (الجمهورى و الديمقراطى) إلى تعديل الميزانية بما يتناسب مع كليهما ويمكن أيضاً رفض إقرار "الميزانية الجزئية" من البرلمان وفى هذه الحالة يحدث الإغلاق الحكومي مثل ما حدث هذا العام 2025 عند تقديم الحزب الجمهورى (الحزب الحاكم) ميزانية عام 2026.

إن فترة الإغلاق الحكومي غير محددة المدة وخلال هذة الفترة تجرى المفاوضات بين الحزبين لإقرار الميزانية كما هى أو بإدخال تعديلات عليها, كما  يتبع إجراء آخر حيث يتم التفاوض مع عدد من النواب للتصويت لصالح إقرار الميزانية حتى يكتمل نصاب التصويت، والإغلاق يكون جزئى أى أن مؤسسات الدولة لا تغلق كلياً فالخدمات الأساسية مثل الصحة، الأمن , الجيش، إدارة  الطيران  تستمر فى العمل بدون صرف رواتب لبعضُهم على أن يحصلوا عليها بآثر رجعى كاملة بعد إنتهاء الإغلاق الحكومي أما الموظفين الغير أساسيين يُمنحون أجازة مؤقتة دون رواتب وهناك مؤسسات ذات تمويل خاص مثل "البريد الامريكى " تستمر فى العمل وصرف الرواتب و المصروفات ولا تتأثر بالإغلاق، ولا يعنى الإغلاق الحكومي أن خزانة الدولة الأمريكية خاوية  بل يعنى أن الإنفاق  من خزينة الدولة متوقف إلى أتمام الإتفاق بين الحزبين و التصويت على ميزانية العام الجديد، ويوصف الإغلاق الحكومي بحالة شلل عام للحكومة حيث يحد من قدرة الحكومة الِفدرالية على الإنفاق على الرواتب و بنود الإنفاق المتعددة الأخرى.

ما هى وزارة الكَفاءة الحكومية  DOGE؟

هى وزارة خاصة لا تتبع [ رئاسة الوزراء الأمريكية ] ولا تحظى بمميزات وقوانين إدارة الوزارات الحكومية لقد تم إنشاءها بأمر تنفيذى من الرئيس الامريكى"دونالد ترامب" فى اليوم الأول من تولية فترة ولايتة الثانية الموافق 20 يناير 2025 وهى لم تستحدث من عدم لقد قام الرئيس "ترامب" بإعادة تسمية وهيكلة وتعديل مهام (مكتب الخدمة الرقمية الأمريكى) التابع إلى (المكتب التنفيذى للرئيس الأمريكى) الذي أنشيء عام 2014 خلال فترة حكم الرئيس الأسبق "باراك أوباما" إلى المسمى الحالي  (وزارة الكَفاءة الحكومية).

وتتكون من 40 شاب أغلبهم متخصصين فى البرمجيات ومن ذوى الخبرة السابقة فى العمل لدى شركات "إيلون ماسك" ولم يسبق لهم تقلد أى منصب فى العمل الحكومي الأمريكى و تم تعيين "إيمى غيلسون" قائم بأعمال مدير (وزارة  الكَفاءة الحكومية) كما تم تكليف الملياردير " إيلون ماسك " من قِبل الرئيس ترامب ليرأسهم جميعاً ويدير هذه الوزارة، وطبقاً لتصنيف الموظفين الحكوميين يعد "ماسك" موظف خاص لا يتقاضى راتب من الخزينة الأمريكية ولا من أى جهة، وهو موظف يعمل لمدة 130 يوم فقط بحد أقصى خلال السنة، وتهدف الوزارة إلى خفض الإنفاق الفيدرالي والدين الحكومي ومراجعة اللوائح والنفقات الحكومية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ودولياً من خلال تقديم المشورة و التوجيه إلى الوكالات الفيدرالية وتحديث البرمجيات والتكنولوجيا الفيدرالية  لتحقيق أعلى كفاءة للحكومة وخفض الإنفاق الفيدرالى و الدين الحكومي بالتعاون مع البيت الأبيض ومكتب الإدارة و الميزانية، حيث صرح الرئيس "ترامب" أنه يرى إهداراً كبيراً للمال العام وسوف يستخدم هذه الوزارة لإيقاف هذا الهدر و ترشيد الإنفاق من خلال جهتين تابعتين للوزارة هم؛ أولاً (لجنة خدمة وزارة كَفاءة الحكومة المؤقتة) مدة عملها 18 شهراً ينتهى فى يوليو2026، يرأس اللجنة "مدير وزارة الكَفاءة الحكومية" ويقدم التقارير المتعلقة بعملة إلى "رئيس موظفي البيت الأبيض"، وثانياً (فريق كفاءه لكل وكالة فِدرالية) يتكون من عدد 4 موظفين كحد أدنى يمكن أن يكونوا من موظفين الوكالة نفسها بصفتهم موظفين حكوميين خاصيين ويتم إنشاء الفريق  بالتنسيق بين (رئيس الوكالة ومدير خدمة كَفاءة الحكومة) يعمل كل فريق ضمن الوزارة ثم يقدموا مقترحاتهم وأستشاراتهم الى رؤساء وكالاتهم.   

مكاسب قطبي الخلاف:

    للمرة الأولى فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية سادت حالة من الهدوء لدى قطبين الخلاف [الحزب الديمقراطى و الحزب الجمهورى] عقب إعلان الإغلاق الحكومي سبتمبر2025 فقد رأى كل من الحزبين إمكانية تحقيق مكاسب له من هذا الإغلاق الحكومي؛ فالحزب الديمقراطى أراد إحراج الحزب الجمهورى بإدعائة أن قرارات [وزارة الكَفاءة الحكومية] التى تنفذها حكومة "ترامب" ستعمل على رفع أسعار الخدمات الصحية فى المستقبل وطالبوا بتمديد الأعفاءات الضريبية التى تخفض تكلفة التأمين الصحى لملايين المواطنين الأمريكيين، كما طالبوا بإلغاء التخفيضات التى أجراها الرئيس "ترامب" على برنامج الرعاية الطبية "المعروف برنامج أوباما" والمعروف أيضاً  بـ"ميديكير" وأنهم رفضوا التصويت على الميزانية لصالح عشرات الآلاف من الموظفين الذين تم تسريحهم , بالاضافه الى خفض ميزانيات الإنفاق على عدد من الكيانات والأفراد والمشاريع المحلية والدولية وهم بذلك يعملون على زيادة شعبية الحزب الديمقراطي بإظهاره الحزب المدافع عن مشكلات المجتمع الأمريكي بهدف الحصول على نسبة تصويت أكبر فى إنتخابات (التجديد النصفي لعام 2026)، وعلى النقيض الحزب الجمهوري يجد أن الحزب الديمقراطي أوقع نفسه فى فخ حيث يظهر التاريخ أن الحزب الذي يخطط إلى الإغلاق الحكومي من خلال المطالبة بشىء ما مقابل التصويت هو الذى يتحمل اللوم والمسؤلية, كما أن رفض الحزب الديمقراطي مساعي مجلس الشيوخ  الأمريكي إقرار ميزانية جزئية لعدة أسابيع فقط بهدف تيسير الأعمال وتجنب الإغلاق الحكومي حتى يصل قطبي الخلاف إلى اتفاق لتمرير الميزانية أثر بالسلب على شعبية الحزب الديمقراطي لدى أفراد المجتمع الأمريكي، ووجد الرئيس "ترامب" أن الإغلاق فرصة لتوفير مليارات الدولارات التى تنفق من خزينة الدولة وتوفيرها سيؤدى إلى إحداث توازن نسبي فى الميزانية ولتحديد فرص العمل الغير ضرورية التى يمكن التخلص منها, وبالنظر إلى شعبية الحزب الجمهوري نجد أن التدابير التى اتخذتها حكومة "ترامب" قد سبقها فى تطبيقها العديد من الدول حول العالم خوفاً من حدوث الأسوء وأن حالة الغضب من تلك القرارات اجتاحت أغلب قارات العالم .

عينة بحثية :

نتناول عينة بحثية لإجراءات سادت المجتمع الدولى مماثله لأمريكا :-

دولة الكويت : النطاق الجغرافي للعينة منطقة الشرق الأوسط – قارة آسيا – دولة نفطية ذات اقتصاد قوي؛ حيث فى عام 2024 أعلن وزير المالية الكويتي أن الكويت ستحقق الاستدامة المالية من خلال ترشيد الإنفاق الحكومي وأنها ستعمل على خفض العجز المالي بميزانية 2024 - 2025 بحزمة قرارات أبرزها وقف صرف دعم العمالة الوطنية للعاملين بالقطاع الخاص لمن يبلغ إجمالى راتبه حد 3000 دينار كويتى فأكثر وإعادة تسعير قيمة إيجارات وأراضى ومباني أملاك الدولة، وقد سبق أن اتخذت الكويت تلك التدابير فى أعوام سابقة أبرزها عام 2021 حين انتهجت خفض الإنفاق بإعلان رئيس الوزراء تكليف جميع الوزارات والجهات الحكومية بخفض ميزانية السنة المالية 2021 -2022 بحد أدنى 10% بناء على توصية من لجنة الشؤن الاقتصادية، وقد حققت الكويت توفير مليارات الدولارات كنتيجه لتنفبذ هذه الاجراءات.

المملكة المتحدة: النطاق الجغرافى للعينة منطقة اليورو سابقاً – قارة أوروبا – فى عام 2025 أعلنت وزيرة المالية للمملكة المتحدة أن المملكة تستهدف خفض عدد موظفي الخدمة المدنية بمقدار 10.000 عشرة آلاف موظف تقريباً بهدف خفض تكاليف التشغيل الحكومي بنسبة 15% كما أعلنت خفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية لتوفير 6.5 مليار دولار تقريباً وخفض ميزانية المساعدات الخارجية من 0.5% إلى 0.3% من ناتج الدخل، لقد قلصت الإنفاق المستهدف لمواجهة التباطؤ الاقتصادي.

دولة فرنسا: النطاق الجغرافى للعينة قارة أوروبا – ثانى أكبر أقتصاد فى منطقة اليورو سجلت فى عام 2025 عجز قياسي فى الميزانية وسط مخاوف أن تجد فرنسا نفسها تحت إشراف صندوق النقد الدولي مثلما حدث فى دولة اليونان عام 2010، لذا انتهجت سياسة التقشف فى ميزانية العام الجديد  لخفض العجز تدريجياً خلال السنوات القادمة، ولكن رفض البرلمان الفرنسي إقرار ميزانية عام 2026 ووصفها بالقاسية، وأبرز ما جاء بها تجميد الإنفاق على الرعاية الصحية  وتجميد النفقات العمومية باستثناء الدفاع وإلغاء يومين عطلة.

مقاومة التغيير Resist change

       إن العالم تغير ولن تتوقف عجلة التغيير التى تم زيادة وتيرتها بسبب الانتقال إلى مجتمع الفضاء السيبراني والتحول الرقمي العالمي، وهذا ما يجب أن تدركه الحكومات والشعوب، ولقد طال هذا التغيير الاقتصاد والسياسات أيضاً، وأصبح خفض الإنفاق وتعديل أوجه الإنفاق وتغير الوظائف المطلوبة فى سوق العمل هو سمة العصر، ولكن الدول التى حَظِىِ أفراد مجتمعها بحزم حماية إجتماعية كبيرة ولفترات زمنية طويلة (تكون لديهم منطقة الراحة)، لذا أبدوا حالة من الغضب والمقاومة لهذا التغيير قد تصل إلى العنف و نشر الفوضى فى المجتمع رغبة منهم فى الحفاظ على مكتسباتهم، أما الدول التى يحظَى سكانها بحزم حماية إجتماعية متوسطة أو ضعيفة ( تَكَوّنَ لديهم منطقة النمو) فهم يدعمون حكوماتهم فى هذه التغييرات آملين فى تحسين الأوضاع بهدف حصولهم على حزم رعاية إجتماعية واقتصادية أفضل فى المستقبل وخوفاً من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى مجتمعاتهم، فهناك علاقة عكسية كلما حظيت المجتمعات بحزم حماية إجتماعية ومستوى معيشي مرتفع كلما ارتفع معدل المقاومة للتغيير والغضب وبالعكس، ولكن استخدام علوم مثل علم الاجتماع النفسي وعلم إدارة الأزمات وغيرهم من العلوم المتعددة يمكن أن تقلل حالة الغضب ومقاومة التغيير إلى أقل حد و يمكن القضاء عليها واستبدالها بحالة تقبل مجتمعي،  لذا، يجب على الحكومات والنظام العالمي مواكبة الأساليب العلمية الحديثة لتحديد أولويات التغيير فى كل دولة واستخدام نتائج الإبحاث الميدانية  للعمل على تقبل أفراد المجتمع لتلك التغييرات وخفض معدل الغضب والمقاومة إلى أقل حد وهذه الإجراءات يجب اتباعها خلال الفترة القادمة من الحزب الجمهوري ليتمكن من تنفيذ الإصلاحات التى يرغب فى تنفيذها خلال السنوات القادمة وبالمثل يجب على الحزب الديمقراطي أن يعتمد تلك الأساليب العلمية لكى يقدر أن يقيم أداء وزارة الكفاءة الحكومية بشكل صحيح وإذا رغب في تقديم حلول بديلة أو رفض بعض  القرارات يجب أن يقدم ذلك بشكل علمي.