المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

نحو تأصيل نظري لمفهوم "الدولة العميقة"

الثلاثاء 27/فبراير/2018 - 12:21 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
ريم أحمد عبد المجيد

يعد مفهوم الدولة العميقة من المفاهيم التي مازالت غامضة رغم قدم نشأته نسبياً، كما أنه أكثر المفاهيم إثارة للجدل حيث لا يوجد اتفاق على تعريف محدد له ولا على محدداته وأبعاده. بالإضافة إلى أنه يتشابك مع عدد من المفاهيم المستخدمة في الأدبيات السياسية، مثل مفاهيم  حكومة الظل، الدولة الموازية   parallel state، دولة داخل الدولة"state within the state . وفي هذا المقال نحاول الكشف عن نشأة هذا المفهوم وعلاقته بالمفاهيم قريبة الصلة، وأهم التعريفات التي قدمها الباحثون للمفهوم، وننهي المقال بعرض سمات الدولة العميقة العربية.

أولاً- تاريخ المفهوم

نشأت ظاهرة الدولة العميقة لأول مرة في القرن العشرين في تركيا(1) وكانت عبارة عن شبكة سرية أنشاها مصطفي كمال أتاتورك عام 1923م والتي عُرفت ب Derin Devlet أي الدولة العميقة، وكانت مكونة من مجموعات من ضباط القوات المسلحة والشرطة وبعض من رجال القضاء والبيروقراطيين وعناصر أخرى، وتمثلت مهمة تلك الشبكة في القيام بأعمال سرية تهدف إلى الحفاظ على علمانية الدولة التركية التي أنشأها أتاتورك ومحاربة أي فكر أو حركة أو حزب أو أعضاء الحكومة من شأنه تهديد العلمانية، وشملت هذه الأعمال اغتيال الشخصيات المعادية للدولة العلمانية كما أنها كانت موجهة بشكل خاص إلى الصحفيين والشيوعيين والأكراد.(2)

ثم انتقلت هذه الظاهرة من تركيا إلى روسيا وبعض دول الاتحاد السوفيتي مثل رومانيا، حيث ذكر بعض المسئولين السابقين في الاتحاد السوفيتي في سبعينات القرن الماضي أن الشرطة السياسية السوفيتية –المخابرات الروسية- كانت تعمل كدولة عميقة تعمل سراً للسيطرة على الحزب الشيوعي والحكومة السوفيتية وتم وصف المخابرات بأنها" دولة داخل الدولة"(3) وانتشرت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة في العديد من الدول العربية وكذلك الولايات المتحدة. وعند هذا الحد كانت الدولة العميقة مجرد أجهزة سرية تعمل بطريقة مشروعة أو غير مشروعة للمحافظة على كيان الدولة القائمة بالفعل. لكن هذا الوضع تغير بعد ذلك، وظهرت كيانات عميقة تسعى إلى استغلال أجهزة الدولة لتحقيق مصالحها، وفيما يلي نتعرض لطائفة من التعريفات للدولة العميقة.

ثانياً- التعريف الاصطلاحي للدولة العميقة

الحديث لأول مرة عن هذا المفهوم جاء في مقال بصحيفة نيويورك تايمز عام 1997 عن الدولة التركية وذكر أن "الدولة العميقة هو تعبير يُطلق على مجموعة من القوى الغامضة التي يبدو أنها تعمل بعيداً عن يد القانون"(4) . بينما يذهب كل من   Dana Priest and William Arkin(5)، إلى أن الدولة العميقة هي دولة غير مرئية وسرية وتوازي الحكومة العلنية الشرعية. وهو مايوضح لنا مظهرين من مظاهر الدولة العميقة وهما؛ الغموض والسرية، وعدم القانونية. ويؤخذ على التعريفين السابقين: عدم توضيحها لطبيعة القوى الغامضة، وآليات عملها، ومصادر قوتها التي تمكنها من الحفاظ على وضعها السري دون أن تُكتشف خاصة أنها تخترق القانون، ولم يتضح من التعريفين أهداف تلك القوى وأسباب تواجدها.

    غير أن Sina Odugbemi توسع في التعريف مجيباً عن بعض التساؤلات السابقة التي تُركت بدون جواب، فوضح في تعريفه للدولة العميقة طبيعة القوى الغامضة، وذكر أنها لا تقتصر على الضباط العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة، بل تشمل بعض الأشخاص والجماعات في المجتمع المدني، فضلاً عن عدد لا يحصى من الأشخاص غير المعروفين في المؤسسات الرئيسية للدولة والقطاعات الرئيسية في الاقتصاد(6). واتفق معه كل من عبد المعطي ذكي(7) وإبراهيم السيد(8) في توضيحهم لطبيعة القوى الغامضة وأضافوا عناصر أُخرى مثل القضاء والنخب الثقافية والإعلامية، وطبقة من رجال الأعمال، وتحالف اجتماعي عميق مع طبقات اجتماعية أو شرائح فيها. ميزة هذا الاتجاه أنه يوضح كيف أن الدولة العميقة لها امتداد رأسي وأفقي، فهي تتمدد داخل الدولة الواحدة، وتربط بعلاقات مصلحة دائمة مع الجماعات المناظرة لها على المستوى الاقليمي والدولي كما ذكر عبد المعطى. لكن مشكلة أنه يتسم بقدر كبير من العمومية، فلا يمكن واقعياً أن يحدث التحالف مع كافة الشرائح داخل أجهزة الدولة.  

    وقد تطرق كل منSina  وإبراهيم السيد إلى أهداف تلك القوى الغامضة أو التحالف السري،  فيشيران إلى أن الدولة العميقة تعمل على الحفاظ على مصالحها وتعرقل أي تغيير من شأنه الإضرار بمصالحهم المتشابكة، وذلك باستخدام كافة الوسائل لتحقيق تلك الأهداف، حتى وإن لجأوا إلى تنفيذ عمليات اغتيال نفر من رجال الاعلام  أو النشطاء الاجتماعيين أو المسئولين إن لزم الأمر.

     ويذهب  Sina  إلى  أن الدولة العميقة تظهر بقوة  في مراحل التحول الديمقراطي، خاصة في البلدان التي عانت من فترات طويلة من الحكم الاستبدادي مثل بعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا. ففي مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية تُقام انتخابات حرة ويتولى المناصب مسؤولون جدد سعياً لإحداث تغيير، وفي أحيان كثيرة تفشل علمية التحول الديمقراطي، بسبب وجود تشكيلات أو تحالفات كانت مستفيدة من الحكم الاستبدادي تعمل على حماية مصالحها ومكاسبها من ذلك الحكم بعرقلة التحول الديمقراطي. ولكن يجب ألا نأخذ هذه المقولة كمسلمة حيث توجد دول نامية وفقيرة مثل بنين نجحت في التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية دون أن تظهر بها الدولة العميقة وصنفتها فريدم هاوس كدولة حرة وديمقراطية وذلك على الرغم من أنها مرت بحكم استبدادى وسلسلة من الانقلابات العسكرية وصل عددها إلى تسعة انقلابات متتالية إلا أنها من 1990 وحتى 2016 أقيمت بها ستة انتخابات رئاسية كانت جميعها حرة ونزيهة ولم تعرقلها تلك القوى الغامضة(9).

    ويختلف Mike Lofgren في تشريحه للدولة العميقة في الولايات المتحدة، عن سابقيه(10)، فهو يرى أن الدولة العميقة ليست تحالفات سرية متآمرة فهي دولة داخل الدولة و تعمل على مرأى ومسمع الجميع -على عكس التعريفات السابقة التي وصفت الدولة العميقة بالغموض والسرية-، كما يرى أنها ليست مجموعة متماسكة وليس لها هدف واضح، بل هي شبكة مترامية الأطراف تمتد عبر الحكومة وفي القطاع الخاص.

ولكن إن كانت غير متماسكة كما يرى مايك لوفجرن فكيف تستمر في العمل لفترة طويلة، فعدم التماسك يؤدي إلى ظهور تعارض في المصالح وخلافات بين أعضاء التحالف والذي ينتج عنه تفكك التحالف وزوال الدولة العميقة. إلا إذا كانت الجماعات التي تشكل الدولة العميقة متفاوتة القوة. على معنى أن الجماعة القريبة من مركز صناعة القرار في الدولة المرئية، هي الجماعة التي تحدد شروط اللعب داخل الدولة العميقة. بمعنى أنها تستطيع التخلص من تعارض المصالح واستعادة التوازن داخل الدولة العميقة، وذلك بالتخلص من بعض الأفراد الذين يسببون التوتر وعدم الاتزان، ويتم التضحية بهم لكي يستمر الكيان العميق، وهناك العديد من الشواهد التي تثبت هذا الاستدراك على مستوى الدول العربية.

    ويضع وحيد عبد المجيد تصور آخر للدولة العميقة، بخلاف التعريفات السابقة التي ترى أن الدولة العميقة ظاهرة سلبية، فهو يرى أن العمق في الدولة أمر معتاد حيث أنه ينشأ نتيجة تراكم أنماط سلوك وقواعد في الإدارة، وتواتر هذه الأنماط لفترات طويلة يؤدي إلى تجذرها في مؤسسات الدولة، "هذا التجذر هو مايجعلها عميقة" (11) وبالتالي يصبح العمق سمة من سمات مؤسسات الدولة التي لا تقوم كل حكومة بتغييرها وفقاً لتوجهاتها وسياساتها الحزبية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن إذا قارنا هذا التعريف بالتعريفات السابقة وبالدولة العميقة التي نشأت في تركيا، نجد أنه ركز على المؤسسات الرسمية فقط في حين أن الدولة العميقة يتكون أعضائها من الأجهزة الرسمية والكيانات غير الرسمية مثل المجتمع المدنى والإعلام بالإضافة إلى النخبة الاقتصادية، وبعض النخب التقليدية (القبلية أو الاثنية مثلاً)، فمن المؤكد أن تحالف بعض أفراد النخبة الاقتصادية حيوي وضروري لهذا التحالف العميق. وأحيانا المصالح الاثنية تكون حاضرة بقوة كما في حالة الدولة العميقة العراقية.  كما أنه  اقتصر على القواعد الرسمية في حين أن الدولة العميقة لاتعمل بشكل رسمي وفق القواعد المعمول بها في الحكومة بل تخلق لنفسها قواعد وأساليب تخدم مصالحها الذاتية وعادةً ماتكون تلك القواعد غير قانونية.

    أما James Corbett فيرى أن ما يسمى الدولة العميقة أو حكومة الظل أو الفرق السرية جميعها تشير إلى نفس الظاهرة وهي وجود مجموعة غير منتخبة، غير خاضعة للمساءلة، وغير معروفة إلى حد كبير وراء الحكومة المرئية -أى الحكومة الشرعية- وتسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة(12). إن جيمس كوربت يؤكد في هذا التعريف على عدم رسمية وشرعية الدولة العميقة بالتأكيد على أنها غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة. ولكن في بعض الأحيان توجد قيادات تنفيذية وأعضاء في المجالس التشريعية، ومنهم القادم بطريق  الانتخابات، وهم في الأصل ينتمون إلى الجماعات المشكلة للدولة العميقة، ويسعون نحو مصالح ذاتية غير مصلحة الدولة، أي أنه لا يمكن أن نعمم حكم جيمس كوربت بأن تلك القوى غير منتخبة.

    ويعرف George Friedman الدولة العميقة بأنها قوى تحت النظم والمبادئ التي يمليها الدستور وهي أعمق وأقوى في السيطرة على الأمة من النظام حيث أنها تكون موحدة و متأصلة في كافة أجهزة الدولة، كما أن لها جدول أعمال خاص بها ووسائل لتقويض قرارات الرؤساء المنتخبين وأعضاء البرلمان. وتستمد قوتها من السيطرة على آليات السلطة وكونها غير مرئية.(13)

مايميز تعريف فريدمان عن التعريفات السابقه أنه فسر أسباب استمرار هذه القوى في العمل ومصادر قوتها التي تمكنها من الحفاظ على وضعها السري دون أن تُكشف، بسبب أنها موحدة ومنظمة وتحدد أهدافها وبرنامج عملها، بالإضافة إلى امتلاكها وسائل وآليات تقويض الرؤساء.

    من خلال التعريفات السابقة نخرج بملاحظتين:

1.  أن الكثير يعتبر أن المفاهيم التالية هي مفاهيم مترادفة: الدولة الموازية، دولة داخل الدولة، حكومة الظل، والدولة العميقة، ولكن كل مفهوم يختلف قليلاً عن الآخر، فمفهوم الدولة الموازيةparallel state الذي صاغه المؤرخ الأمريكي Robert Paxton يعني مجموعة المنظمات أو المؤسسات التي تشبه الدولة في تنظيمها وإدارتها وهيكلها، ولكنها ليست رسمياً جزء من الدولة الشرعية أو الحكومة. وهي تعمل في المقام الأول على تعزيز الايديولوجية السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة. وبذلك تختلف عن الدولة العميقة والتي تعمل على تعزيز مصالحها الخاصة دون الاكتراث لإيديولوجية الدولة، كما تختلف الدولة الموازية عن "الدولة داخل الدولة"state within a state، حيث أنها عادة ما تحظى بتأييد النخبة السياسية السائدة في بلد ما، في حين أن "الدولة داخل الدولة" هي عبارة عن مصطلح لوصف المؤسسات الشبيهة بالدولة التي تعمل ضد المصالح العليا الدولة القائمة.

2.  أن عمق الدولة له جانب سلبي وجانب إيجابي ومعيار التمييز بينهما الأساسي هو المصلحة، فالمعنى السلبي يكون عندما تعمل التحالفات السرية داخل مؤسسات الدولة لتنفيذ مصالحها الذاتية وتعليها فوق مصلحة الدولة، أما الجانب الإيجابي – ونادراً ما يظهر في تاريخ الدولة الحديثة-  يكون عندما تعمل هذه التحالفات على إرساء أنماط قواعد الإدارة والمبادئ التي من شأنها أن تحافظ على ديمقراطية واستقرار الدولة، أى أنها تعمل لتحقيق الصالح العام وليس مصالح ذاتية، بغض النظر عن القيادة السياسية الحاكمة للنظام.

ثالثاً- سمات الدولة العميقة

ويمكننا من خلال عرض التعريفات السابقة استنتاج بعض السمات الرئيسية للدولة العميقة:

1.    الغموض والسرية: فمعظم التعريفات أقرت أنهما سمتان رئيسيتان للدولة العميقة، فهي غير موجودة بشكل علني مرئي كالحكومة الرسمية لكن ما تقوم به من ممارسات يمكن ملاحظة آثاره ونتائجه.

2.    كيان غير قانوني: فهي تعمل خارج إطار القانون كما أن ممارساتها تخرق القانون والدستور بشكل واضح من خلال عمليات التزوير والفساد والاغتيالات للمعارضين لها. كما أنها لا تخضع للمحاسبة أمام القانون على أفعالها لما لها من نفوذ قوي يمكنها من حماية نفسها.

3.    حماية وتحقيق مصالحها: فالهدف من هذه التحالفات هو حماية مصالحها الذاتية حتى وإن تعارضت مع الصالح العام.

4.    تشابك المصالح: لأن ضمان استمرار هذه الدولة يكون في تنظيمها الشبكي، بمعنى اعتماد كل طرف على الآخر في تحقيق المصلحة الذاتية دون تعارض أو تناقض في المصالح، وبالتالي تكون مسئولية الحفاظ على الكيان وحماية أفراد الشبكة هي مسئولية جماعية، وأحيانا يتم دعم هذه الآلية    بعلاقات زواج ومصاهرة بين أعضاء تلك التحالفات.

5.    تحالف واسع النطاق: هذه التحالفات غير موجودة فقط في الجهاز البيروقراطي للدولة كما يعتقد الكثيرين، ولكنها تتسع لتشمل بعض عناصر القوات المسلحة والشرطة والقضاء والإعلام بالإضافة إلى البيروقراطيين، كما أن هذه التحالفات لا تنشأ فقط داخل المؤسسات الرسمية للدولة، فقد تنشأ من عناصر أهلية وغير رسمية ولكنها تبسط نفوذها وتتغلغل داخل المؤسسات الرسمية، هذه العناصر قد تكون أفراد، أو كيانات تقليدية (قبيلة، طائفة، أصحاب ديانة، عرق معين) رجال أعمال، منظمي المجتمع المدني، الأحزاب … إلخ.

6.    ازدواجية العمق: ونعني بذلك العمق الزمني، وعمق (قوة) التحالف. أما  العمق الزمني(14) فيشير إلى أن هذه التحالفات السرية تعمل على إبقاء الوضع الملائم لها ومصالحها أطول فترة ممكنة وتسعى جاهدةً لردع وإفشال أي محاولة من شأنها تغيير هذا الوضع وهو ما يفسر عدم وجود تغيير فعلي في الديمقراطيات الفتية، فكل ما يتم من إجراءات لتحقيق الديمقراطية يكون شكلي وذلك بسبب وجود الدولة العميقة التي تفشت في كافة أرجاء الدولة وأحكمت قبضتها جيداً على كل مؤسساتها لفترة طويلة من الزمن بشكل جعلها تنجح في إفشال التغيير، وهو مايحدث بوضوح في بعض الدول الأفريقية التي يستمر فيها الحكام لفترات طويلة في الحكم. والمعنى الثاني للعمق: هو عمق التحالفات وصلابتها وقوتها، فهذه التحالفات تتغلغل في كافة مؤسسات وقطاعات الدولة بشكل رأسي  وأفقي. كما أنه كلما استمر تطابق المصالح بينهما زادت صلابة وعمق التحالفات، ولتحقيق ذلك تستخدم أدوات ووسائل وألاعيب (نسب، مصاهرة، شراكات تجارية، الخ) حتى تتحكم في مفاصل الدولة. بحيث تنشأ علاقة عكسية بين الدولة القائمة والدولة العميقة، فكلما ضعفت الدولة القائمة قويت الدولة العميقة، والعكس صحيح. 

رابعاً- أدوات الدولة العميقة

    تستخدم الدولة العميقة أدوات متعددة منها: تدخل المؤسسة العسكرية في الاقتصاد والجهاز الإداري والتنفيذي للدولة(15) وذلك من خلال امتلاكها للشركات الاستثمارية والتي تتمكن من خلالها من التأثير على السوق، وكذا إشرافها على المشروعات الاقتصادية وبذلك تصبح لاعب أساسي في الحياة الاقتصادية، أضف إلى ذلك سيطرتها على الجهاز الإداري ومعظم المؤسسات الحيوية من خلال تعيين رجال القوات المسلحة المتقاعدين في المناصب العليا(16)، وفي بعض الدول لا تحتاج القوات المسلحة إلى تعيينهم في الجهاز الإداري، فنفوذهم يمكنهم من اختراق الجهاز الإداري وتحقيق أهدافهم دون اللجوء للتعيين، وبذلك تتمكن المؤسسة العسكرية من حماية مصالح الدولة العميقة كما حدث في الاتحاد السوفيتي سابقاً.  

ولا يمكن في هذا السياق، النظر إلى تدخل الجيش المصري في المشاريع الاقتصادية الكبيرة بعد 30 يونية 2013، على أنه من بين أدوات الدولة العميقة، لسبب بسيط، وهو أن الدولة الرسمية القائمة كلفت الجيش بأداة هذا الدور، لمجابهة الدولة العميقة في مصر. ومع ذلك، فإن هناك خطورة من استمرار هذا الدور في المستقبل، لأنه يخلق مع الوقت ظروفاً مواتية لتحالفات جديدة تزيد من قوة الدولة العميقة. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار العلاقة العكسية التي تربط الدولة القائمة بالدولة العميقة السابق ذكرها. 

    كما أن البيروقراطية أداة أخرى تستخدمها الدولة العميقة وذلك من خلال التمسك بأنماط وقواعد الإدارة وعدم تغييرها، فالبيروقراطيون هنا يمثلون قوة منظمة تقود المقاومة السلبية لأي برامج أو سياسات تضعها القيادة السياسية، مخالفة لمصالحهم.(17) بالإضافة إلى التحكم في الاقتصاد خاصة من قبل رجال الأعمال والشركات الخاصة(18)  فتلجأ الدولة العميقة إلى امتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الأسواق من خلال التحكم في العرض والطلب وذلك من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تستفيد بشكل ما أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو عليه.

    وفي بعض الأحيان تلجأ الدولة العميقة إلى استخدام أدوات أُخرى مثل العنف قمع المعارضة واغتيالهم أحياناً، كما يُعد المال الأداة الأكثر فعالية في يد الدولة العميقة والتي تتمكن من خلاله من تحقيق أهدافها والحفاظ على مصالحها.

الخاتمة

مما سبق يتضح أن الدولة العميقة، كيان حقيقي وليس خرافي كما ادعى البعض، وأنها تظهر في حالات الضعف والتحول غير المكتمل، بحيث تنشأ علاقة عكسية بين الدولة القائمة والدولة العميقة، فكلما ضعفت الدولة القائمة قويت الدولة العميقة، والعكس صحيح. ولا سبيل إلى اضعاف قوة الدولة العميقة إلا بالحكم الرشيد القائم على الديمقراطية الحقيقية، وتبني سياسات تنموية عادلة، وتطبيق القانون على الجميع، والتمسك بالشفافية والمحاسبة والمساواة في الحقوق والواجبات، كل ذلك من شأنه أن يضعف قوة الدولة العميقة.

الهوامش

[1] Robert Longley, “The ‘Deep State’ Theory, Explained”, Thought Co., 18\9\2017,available on: https://www.thoughtco.com/deep-state-definition-4142030 , 3\10\2017.

2  إبراهيم السيد، "ما هي الدولة العميقة"، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 2\8\2015، متاح على الرابط التالي: http://rawabetcenter.com/archives/10366 ، 24\9\2017.

3 Robert Longley, op.cit.

4 (د.م)، "بعد تركيا ومصر وروسيا.. كيف وصلت "الدولة العميقة" إلى أمريكا؟"، سي إن إن، 11\3\2017، متاح على الرابط التالي: https://arabic.cnn.com/world/2017/03/11/trump-deep-state-sean-spicer، 2\10\2017.

 

5 Dana Priest and William Arkin, Top Secret America: The Rise of the New American Security State, ( New York: Little Brown company, 2011) page 52.

6 Sina Odugbemi, “The 'Deep State' Confronts the Accountability Revolution”, World Bank blog, 12\7\2012, available on:  http://blogs.worldbank.org/publicsphere/deep-state-confronts-accountability-revolution , 25\9\2017.

7عبد المعطي ذكي، "الدوله العميقه فى مصر: الخصائص والركائز"، المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 11\6\2016، متاح على الرابط التالي: http://www.eipss-eg.org/، 24\9\2017.

 

8 إبراهيم السيد، مرجع سبق ذكره.

9  Freedom House, available on: https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2017/benin ,20\10\2017.

10 Mike Lofgren, “Anatomy of the Deep State”,Billmoyers,  21\2\2014, available on: http://billmoyers.com/2014/02/21/anatomy-of-the-deep-state/ ,8\10\2017.

11  وحيد عبد المجيد، " ماذا تعنى الدولة العميقة في مصر؟"، موقع العربية، 10\1\2014، متاح على الرابط التالي: http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/egypt/2014/01/10/ماذا-تعنى-الدولة-العميقة-فى-مصر؟.،24\9\2017.

 

12 James Corbett, “Deep State Rising: The Mainstreaming of the Shadow Government”, The corbett report, 5\1\2016, available on: https://www.corbettreport.com/deep-state-rising-the-mainstreaming-of-the-shadow-government/ , 2\10\2017.

13 George Friedman, “The deep state”, Geopolitical Futures, 15\3\2017, available on: https://geopoliticalfutures.com/the-deep-state/  , 2\10\2017.

14 عبد الله الأشعل، "خرافة الدولة العميقة في مصر"، الحياة اللندنية، 19\2\2014، متاح على الرابط التالي: http://www.alhayat.com/، 24\9\2017.

15  إبراهيم السيد، مرجع سبق ذكره.

16 يزيد صايغ، "فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر"، أوراق كارنيغي، بيروت،  أغسطس 2012، ص5.

17 George Friedman, op.cit.

18  Greg Grandin, “What Is the Deep State?”, The Nation, 17\2\2017, available on: https://www.thenation.com/article/what-is-the-deep-state/ , 3\10\2017.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟