المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

التحليل الأيقونولوجي لصور قناة السويس على موقع صور جوجل (1)

الأربعاء 10/أغسطس/2016 - 02:50 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان

يشكل التحليل الأيقونولوجي ارتباطًا ثلاثيًا بين التاريخ، والفن، وأوضاع المجتمع؛ فالتاريخ يرصد الوقائع رصدًا زمنيًا تسلسلياً، في حين يسجل الفن لحظة من التاريخ مقرونة بالمكان والحدث بشكل يجعل الفن سجلاً للتاريخ، من خلال وصف الفن للثنائيات المتعارضة: الحزن/ الفرح، الخوف/ الأمن، اليأس/ الأمل...الخ، التي ما أن تظهر أحدي هاتين الصفتين المتعارضتين إلا واختفت الصفة الأخرى. أما أوضاع المجتمع يتم تجسيدها بشكل مكتوب أو فني: مرسوم أو مصور، حيث يتسق الفن مع أوضاع المجتمع أو التاريخ أو يتنافر معهما، فهو يشكل الشق الآخر من التوثيق الخاص بالأحداث.

ونظراً لأن صور قناة السويس ترصد تاريخ مصر في حقب مختلفة، وكانت شاهدة علي التحولات السياسية بداية من حفرها في عهد إسماعيل وصولاً إلي احتلال مصر بسببها، مروراً بالعدوان الثلاثي، وتحرير سيناء وصولاً إلي كونها الأمل الاقتصادي بعد ثورة 25 يناير. لذا، فإن مشكلة الدراسة المهمة التي أجراها الباحث الدكتور حلمي محمود محسب رئيس قسم الإعلام الإلكتروني بكلية الإعلام جامعة جنوب الوادي عكفت على التحليل الأيقونولوجي لصور قناة السويس منذ إسماعيل حتي السيسي.

أولاً- أهمية الدراسة وأهدافها

تأتي أهمية الدراسة من خلال عدد من المحددات هى تطبيق منهجية جديدة في الدراسات الإعلامية تعتمد علي التحليل الأيقونولوجي الذي يفتت الصور إلي عناصرها الأولي ويعيد تركيبها وصولاً إلي المعنى الكامن خلف الصور، والتركيز علي الدراسات البينية التاريخية والثقافية والفنية والإعلامية في رصد الظواهر بشكل تكاملي، ووضع الدراسات البصرية والتصويرية في بؤرة اهتمام الدراسات المصرية شأنها شأن الدراسات الغربية من خلال التركيز علي السياقية البصرية Visual contextual. بوصفها موازية للسياقية النصية.

واستهدفت الدراسة رصد علاقة تناغم أو تنافر الأحداث التاريخية مع الصور وبخاصة المرسوم منها، والتعرف علي الدلالات الأيقونية المصاحية للأحداث التي مر بها قناة السويس منذ حفرها في عهد إسماعيل حتي قناة السويس الموازية في عهد السيسي، ورصد العلاقة التاريخية بين الصور والرسوم وتأثرها بالتوجهات السياسية وظروف المجتمع.

ثانيًا- منهجية التحليل

تنتمي هذه الدراسة إلي الدراسات الوصفية القائمة على النهج الكيفي، حيث تأخذ الوصف طريقاً للوصول إلى السببية وراء الأحداث من خلال رصد السياقات التاريخية المحيطة بالموضوع ومقارنتها بالسياق البصري، لذا تأخذ الدراسة المنهج المسحي نهجاً لها لمسح الصور منذ حفر قناة السويس في عهد إسماعيل وصولاً إلى قناة السويس 2015. بالاعتماد علي التحليل الأيقونولوجي.

وتنقسم مستويات تجريد المعني في الصورة وفقاً للعلامة (الصورة المراد تحليلها) إلي الدال Signier  الذي تدل عليه الصورة مثل شجرة، والمدلول signified الخاص بتمثيلها في ذهن المشاهد، وصولاً إلي الدلالة الكاملة وارتباطها بمعاني أخرى، وفقاً لهذه المستويات التجريدية تأخذ الصورة ثلاث طبقات layers تسهم مجتمعة في تشكيل المعنى وهي :

الطبقة الأولي: المادة الأولية للموضوع (التي تمثل المرحلة ما قبل الإيقونية) ويتم وصف المادة المراد تحليلها إلى مكوناتها الأولية مثل: الألوان والأشكال، بالإضافة إلي المكونات الطبيعية(مثل: الحيوانات، الرجل/المرأة، الكرسي) التي تحتوي عليها الصورة.

الطبقة الثانية: المادة الثانوية Secondary أو التقليدية Conventional للموضوع (التي تمثل المرحلة الأيقونوجرافية) وتشمل تحليل تكوين الدوافع أو الصور (مثل: الحكايات أو الرموز الموجودة في الصورة) حيث أن الفأس في الصورة تدل علي العمل، والشمس تدل علي الحرارة والثلج يدل علي البرودة.

الطبقة الثالثة: المعني الجوهري أو المضمون (الأيقونولوجي) ويقصد به تحليل المعنى أو المضمون أو العمل الفني من خلال المبادئ المؤسسة للأمة أو العصر أو الطبقة أو الدين أو القناعات الفلسفية، ويعني هذا أن المعنى الكامل يمكن أن يفهم فقط عندما يتم معرفة القدرات الفنية والشبكات الثقافية للمعنى والسياق الخطابي Discursive Context المكونة له.

ثالثًا- عينة الدراسة

يتناول البعد الموضوعي تحليل الصور التي تتناول الأحداث التي مرت بها قناة السويس بداية من عام 1854 الخاص بامتياز حفر القناة، حتى افتتاح قناة السويس الجديدة في 6 أغسطس 2015، فقد شهدت هذه الفترة الطويلة أحداثاً متنوعة منها: حفر القناة، واحتفالية الافتتاح، مروراً باحتلال مصر، ثم تحريرها، ونسف تمثال ديليسبس عقب العدوان الثلاثي، وحرب أكتوبر1973، وصولاً إلي بناء قناة السويس الجديدة، وتم أخذ عينة الصور الخاصة بالأحداث سالفة الذكر من موقع صور جوجل، ويرجع السبب في اختياره إلي شموليته، وكونه أكثر المواقع استخداماً في العالم.

 وقد استخدمت الدراسة كلمات مفتاحية داخل محرك بحث صور جوجل، هي : حفر قناة السويس في عهد إسماعيل، واحتفالية قناة السويس في عهد إسماعيل، عبد الناصر وقناة السويس، العدوان الثلاثي، نسف تمثال ديليسبس، السادات وقناة السويس، عبور قناة السويس، قناة السويس الجديدة. احتفالية قناة السويس الجديدة، ونظراً لكثرة الصور فقد تم تحديد عشرة صور لتحليلها أيقونولوجياً.

رابعًا- نتائج الدراسة

التحليل الأيقونوجرافي لصور قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل

ينطوي التحليل الأيقونولوجي على مسألتين؛ الأولي: الخلفيات التاريخية، الثانية: التحليل الأيقوني للصور ومقارنته مع الواقع التاريخي، وينطوي عصر إسماعيل بالنسبة لقناة السويس على حدثين أحدهما يتصل بحفر القناة، والآخر يتعلق بحفل افتتاحها.

(1) الملابسات التاريخية لحفر قناة السويس

أعطى امتياز حفر قناة السويس الصادر من قِبل الخديوي سعيد سنة 1854 والمرسوم المكمِّل له الصادر سنة 1856 لديليسبس الحق في إنشاء شركة مساهمة هي “شركة قناة السويس العالمية"  وقد انتزعت الشركة 133 ألف هكتار من الأراضي التي كانت تمتلكها الحكومة والشعب المصري الذي عوضته الشركة تعويضًا غير عادل؛ مما اضطرهم للعمل في القناة للعيش، كما حصلت الشركة علي كميات كبيرة من مواد البناء دون مقابل من المناجم والمحاجر الحكومية، وكذلك استيراد الآلات والمعدات بعد إعفائها من الرسوم الجمركية، كما قدمت الحكومة المصرية 80% من العمال اللازمين لأعمال الحفر، وكان امتياز القناة يُقر أن النسبة الكبرى وقدرها 85% تعود للمؤسسين والمساهمين في مقابل 15% للحكومة المصرية، وقد كان نصيب فرنسا من الأسهم 52% بعد شراء أسهم الدول الأخرى، في الوقت الذي كانت أسهم مصر 44%.

كما أن الحكومة المصرية بعد تعديلها لامتياز قناة السويس في 22 فبراير 1866 بعد رفض السلطان العثماني التوقيع عليه إلا بعد تعديل الشروط المجحفة لمصر، قام ديليسبس بتحكيم نابليون الثالث بين الشركة والحكومة المصرية، فقامت مصر بتعويض الفلاحين عن الأراضي، ودفعت أجور العمال، مما شكل عبئاً عليها، واستطاعت الشركة أن تنهي مهمتها في 17 نوفمبر 1869 بافتتاح القناة في حفل أسطوري قرَّب مصر من الإفلاس، مما دفعها للاقتراض من إنجلترا، وبعد عجز الحكومة المصرية عن السداد، اشترت إنجلترا أسهمها في القناة عام 1875 بأربعة ملايين جنية إسترليني. ومعنى هذا أن مصر حفرت القناة بالمجان وباعتها بالمجان.

(ب) التحليل الأيقونوجرافي لصور حفر وافتتاح قناة السويس في عهد إسماعيل

إن الصور التي تمثل مرحلة حفر قناة السويس وافتتاحها في عهد إسماعيل صوراً قليلة ونادرة ومرسومة باليد لأن التصوير في هذه الفترة كان في بداياته، ويتطلب أن يظل المشهد المراد تصويره ثابتاً لمدة خمس دقائق، مما يفقد الحدث حاليته. يؤكد ذلك أن أول صورة فوتوغرافية في الصحافة المصرية كانت لديليسبس على الصفحة الأولي من صحيفة الأهرام عام‏1891م.

تتميز الصور المرسومة بأنها ذاتية الطابع؛ وفقاً لمن يجسد هذا الواقع عن طريق الرسم، فيمكن أن يعكس الواقع أو لا يعكسه بشكل واقعي، لأنه يعتمد على انطباع الرسام المؤيد أو المعارض لأسرة محمد علي، وتركيز الرسام على بعض التفاصيل وإهمال تفاصيل أخرى سواء أكان ذلك بقصد أم بدونه، وثمة مجموعة من الأسئلة عن الفترة التي تم فيها الرسم هل متزامنة لحفر القناة أم فترة تالية لحفرها؟، وهل المكان الذي تم رسمه حقيقي أم من خيال الرسام؟ وهل الرسام يتأثر بأيديولوجية ما أثناء رسمه؟

ويدعم فرضية عدم عكس الرسوم للواقع تاريخيًا، وصف التصوير بأنه لا يمكن الوثوق به، حيث رأى أفلاطون أن الصور المرئية كاذبة، فهي تقليد شاحب للواقع تحتاج إلى سند. كما أن التطور التكنولوجي غير بعض الثوابت الخاصة بأن الكاميرا لا تكذب، والصورة تعادل ألف كلمة؛ فالصورة مثل: جميع الأشكال التصويرية ليست بريئة أو محايدة في نقل الحقيقة، فهي ليست مرآة تعكس الواقع وتنقله بصدق وموضوعية، ولكنها تقوم بدور تأويل الواقع، وتفسيره وإضفاء بعض اللمسات عليه (الرتوش) لتحقيق منفعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية معينة، أو تكرس لأيديولوجية ما.

 وهذا الطرح يضعنا بين فرضيتين بالنسبة لحفر قناة السويس، الأولى: أن هذه الرسوم قُدمَت في فترة حفر القناة، الثانية: أن هذه الصور رسمت في فترة لاحقة لحفر القناة، ودونما تحيز لهذه  الفرضية أو تلك، فإن التحليل سوف يثبت إحداهما، فإن شواهد حفر القناة وما عاد علي مصر منها يدعم حقيقة أن مصر عانت من حفر القناة اقتصاديًا وسياسيًا بشكل أثر علي سيادتها واقتصادها دفع ثمنه الشعب المصري من كرامته وسيادته انتهاءً باحتلال أراضيه، وتم تجسيد هذه الحالة في مجموعة من الصور والرسوم تعكس هذه المعاناة، وعلي الطرف الآخر، سجل الغرب تميزه التقني في حفر قناة السويس واشتراك مهندسيه فيها، فنحن أمام صور يطرحها الغرب وأخرى تطرحها مصر. 

صورة (1) حفر قناة
صورة (1) حفر قناة السويس

تمثل هذه الصورة سخرة مجموعة من المصريين يعملون في حفر قناة السويس يحملون فوق رؤوسهم وأكتافهم رمال الصحراء في جو يغلب عليه الحر، حيث أنهم يواجهون الشمس، فظلهم يظهر خلفهم مما يجعلهم يشعرون بحرارة الشمس أكثر، ولما كان ظلهم صغيراً، فإن ذلك يدل علي أنهم بالقرب من الظهيرة أو بعدها بوقت قليل حسب اتجاههم للغرب أم الشرق، فعندما تكون الشمس عمودية، فإن ظل الشخص يكون متعامدًا عليه، مما يوحي بأنه وقت الظهيرة، ومعنى ذلك معاناة من الصحراء وحرها والحمل فوق رؤوسهم وأكتافهم، كما أن الانحدار من أعلى إلى أسفل يدل علي الذل والهبوط والحمل الزائد، وهذه الأوصاف تصدق على أحوال مصر في هذا الوقت وليس الصورة فحسب.

        وعلى الرغم من كل أوصاف هذه الصورة السلبية، إلا أننا نرى أن هذه الصورة لا تمثل قناة السويس، نظرًا لأن فن التصوير لم يكن بهذه الدقة في هذه الفترة، كما أن وجود كاميرات التصوير في هذه الفترة كانت مع الأثرياء فقط الذين ليس من ضمن اهتماماتهم تصوير معاناة الآخرين، ولكن يتم استخدامها في تسجيل الحفلات والصور التذكارية، ويتطلب وقتاً لتثبيت المشهد، كما أن شركة قناة السويس ما كان لتجسد صور السخرة، ويدعم هذه الفرضية عدم وجود صوراً مسجلة لاحتفالات قناة السويس التي حضرها الملوك إلا من خلال الرسم.

صورة (2) حفر قناة
صورة (2) حفر قناة السويس (ب)

توضح هذه الصورة المرسومة الآلات التي تم استخدامها في حفر قناة السويس من فئوس وكوريكات (مجرفة) ، وتوضح كذلك الحمير التي تحمل الرمال، وجرة يشرب منها الماء، كما أننا نجد بالصورة ملابس مختلفة، مما يدل على تمايز الناس واختلافهم من حيث الطبقات الاجتماعية والعرق، فبعضهم ذو بشرة سمراء، والبعض الآخر بشرة شبه بيضاء، كما أن صور الأشخاص تدل على كبر أعمارهم نسبياً فهي لا تقل عن أربعين عاماً، مما يعني أنهم لا ينتمون إلي فئة الشباب الذين يتحملون العمل، وإن كان مراد صاحب الرسم أن شركة قناة السويس لا تفرق بين الشباب والشيوخ في العمل، إلا أننا لا نجد الشباب في هذه الصورة،  كما أن ملابس هؤلاء الأشخاص مختلفة، فهناك من يرتدون ملابس يغلب عليها الطابع التركي، كما أن عمائمهم مختلفة، فهذا الاختلافات تدل على أن هؤلاء الأفراد لا ينتمون إلي فئة واحدة يغلب عليها الفقر، فثمة تباين في المستويات وفقاً لمستوى اللبس وبنية الجسم، وربما يدل تباين الملابس علي تباين المناطق التي جلب منها الفلاحون لحفر القناة. مما يجعل الصورة غير واقعية، كما أن الاثنين اللذان يتحدثان تدل على الود، مما يفقد الصورة معناها الخاص بما لدى المصرين من صورة ذهنية حول حفر قناة السويس التي تتسم باستخدام القوة والسخرة.

فضلاً عن المبالغة وعدم الواقعية التي تدل عليها الصورة السالفة؛ فإن الأدوات المستخدمة في الحفر غاية في البساطة، لا يمكن أن تستخدم وحدها في حفر قناة السويس بطول 164 كم وبعمق 7.5م، وبعرض 304م  في هذه الفترة.

(1/2) صور حفر القناة من وجهة النظر الغربية

عادة ما يُخط التاريخ وفقاً للرؤى السياسية التي تدعم مواقف الدول السياسية والأيديولوجية ومصالحها؛ فالدول المستعمرة تحاول أن تقنع الآخرين بأن الاستعمار قدم فوائد للمُستعمر، ولم يجحفه حقه، ووفقا لهذه الرؤية، نرى أن هناك صوراً من الجانب الغربي تدعم تفوقه التكنولوجي في حفر قناة السويس.

صور (3) حفارات قناة
صور (3) حفارات قناة السويس والمهندسون الفرنسيون

يتبين من الصورة اليمنى التي تحتوي على حفارات حديثة تدعم تفوق الغرب التكنولوجي في هذه الفترة، واعتماده علي تقنيات حديثة في حفر القناة، تعزز تفوقه التقني والفني والعلمي من ناحية، وتدحض أعمال السخرة نوعاً ما من ناحية أخرى، كما أن الصورة الثانية التي يظهر فيها البخار كقوة محركة لهذه الآلات يدعم هذه الفرضية، ويظهر بالقرب من الحفار في الصورة اليسرى مجموعة من المهندسين الفرنسين الذين يخططون لأعمال الحفر وذلك من أجل تدعيم الغرب لتميزه وخبرته في هذا المجال، حيث كانت فرنسا وإنجلترا القوتين العظمتين في هذا الوقت.

على هذا الأساس، نحن إزاء فرضية السخرة المصرية، مقابل فرضية التقدم التكنولوجي للغرب، ودونما تحيز لهذه الفرضية أو تلك، فنحن أمام قناة حفرت بالمجان، وبيعت إلى إنجلترا لتسديد ديون مصر الخاصة بإسراف إسماعيل وتوسعاته في أفريقيا، وأمام حفل أسطوري لدولة تتهاوى سياسياً، فالمشهد برمته يقدم سذاجة سياسية أمام إمبريالية استعمارية تبحث عن مصالحها أينما وجدت، دفعت مصر استقلالها السياسي ثمنًا لها.

(2) صور احتفالية افتتاح قناة السويس

 تعود جذور صور افتتاح قناة السويس إلى الرسام الفرنسي إدوارد ريو Édouard Riou التي أدرجها في كتاب نادر صدر بالفرنسية تحت عنوان "افتتاح قناة السويس رحلة الملوك" في عام 1869 تضمن صور ومظاهر الاحتفال بافتتاح قناة السويس التي بدأت بالمراسم الدينية يوم 16 نوفمبر 1869، وقد رشح ديليسبس هذا الفنان للخديوي إسماعيل ليرصد ويسجل مظاهر الاحتفالية. وقد سبق افتتاح القناة مجموعة من الاحتفالات الدينية وإقامة الشعائر المسيحية والإسلامية، حيث أقيمت ثلاث منصات، الأولى: القريبة من الرصيف لكبار ضيوف الخديوي، والثانية لإقامة شعائر المسلمين جهة اليسار، والثالثة: جهة اليمين لصلاة الكنيسة المسيحية.

تم دعوة الآلاف من الضيوف منهم فرانز جوزيف Franz Josef إمبراطور النمسا، وأوجين زوجة إمبراطور فرنسا، والدوق الأكبر لروسيا، وولي عهد بروسيا و6 آلاف أخرين، وتم بناء دار الأوبرا، وكانت هناك ألعاب نارية تم إطلاقها ليلة 16 نوفمبر التي جسد صورها إدوارد ريو في صورة عامة تضم جموع المدعوين. وعلي الرغم من مهارة هذا الفنان في الرسم إلا أن صوره لا يمكن أن ترصد الواقع، فإن الرسام بصفة عامة  يمزج الواقع بالخيال لاستكمال ملامح الصورة التي يستدعيها من الذاكرة، وبصفة خاصة، فإننا نجد أن هذا الرسام مغرم برسم الجمال.

صورة (4) منصات الاحتفال
صورة (4) منصات الاحتفال بقناة السويس

 ففي هذه الصورة التي ترصد منصات الاحتفال الرئيسية نجده يُقحم جملاً وحمارين في الصورة، كما أن ملابس المشاركين في الحفل تدل على الثراء؛ ومثلت المرأة ضمن جمهور العوام الحاضر للاحتفال، ولكن النساء كان تمثيلهن قليل في الصورة، ويرتدين ثياب فاخرة وأرستقراطية، وتوحي ملابسهن بأنهن من طبقات أجنبية، وكذلك ملامحهن، فقلة عدد النساء يعني قلة انخراط المرأة المصرية في الاحتفالات، وذلك يتفق وطبيعة المجتمع المصري حينئذ.

 وحاول الرسام أن يُضمِّن الصورة الخاصة بالاحتفالية جميع الفئات قدر الاستطاعة، فإننا نجد قائدين عسكرين بجور الجمال، وملابس بدوية، وعربية، ورجال دين مسلم ومسيحي، وأجانب، ومعظم الملابس تنتمي إلي الجلباب باعتباره الزي السائد في هذه الفترة، فيما عدا الأجانب ورجال الدين والقادة العسكرين، والطبقة الحاكمة.

 وتظهر الصورة التمايز بين الحضور، فالذين هم في المنصات جلوس، ووضعهم مرتفع، إشارة إلى مكانتهم العالية، أما رجال الدين المسيحي والإسلامي فإنهم مرتفعون أيضاً، دليلاً علي مكانتهم، ولكنهم واقفون، وهذا يدل علي الترتيب الطبقي في المجتمع الساسة والأمراء ثم رجال الدين ثم العوام الذين في وضع الوقوف والانخفاض، فالصورة بها جزء واقعي، ولكن معظمها من وحي خيال الرسام الذي يضفي عليه سماته وطابعه الخاص.

صورة (5) قوافل الجمال
صورة (5) قوافل الجمال والخيام أثناء الاحتفالية

إن صورة قوافل الجمال والخيام الموجودة في الصورة تُثبت في المخيلة ما يتناقله الغرب عن العرب بأنهم يعيشون في مجموعة من الخيام، ووسيلة التنقل الخاصة بهم هي الجمال، بيد أن هذه الصورة تحتوي علي دلالة غاية في الخطورة المتمثلة في رفع علم فرنسا فوق ساري عَلم عالٍ في سماء مصر، فهذا يدل إما أن الرسام وضعها بقصد لإظهار عظمة فرنسا وسيطرتها علي الأوضاع السياسية في مصر خاصة منطقة قناة السويس، وربما وضعها نظراً لانتمائه إلي فرنسا، أياً ما كانت الدلالات إلا أن رفع علم فرنسا في صورة تاريخية نادرة لقناة السويس في أيام الاحتفال هو دلالة تاريخية خاطئة، إلا إذا كانت مقرونة بعلم مصر، وسكوت إسماعيل على هذه الصورة فيه انتهاك لسيادة مصر، فالرسم يمثل الشق التاريخي للوثائق، وربما يرجع السبب في تعبيره هذا إلى أنه احتمى بديليسبس.

ويمكن رصد مجموعة من الدلالات التي لم تظهرها صور الاحتفالية، فلم تذكر المراجع التاريخية أن السلطان العثماني أو من ينوب عنه قد حضر احتفالية قناة السويس، وكذلك لم تشر الرسوم إلى السلطان العثماني، مما يشير إلى عدم الرضاء لدى العثمانيين عن القناة، وعدم رغبتهم في المشاركة بالاحتفالية على الرغم من حضور العديد من الملوك والأمراء البارزين على مستوى أوروبا، فلا يمكن القول أن إسماعيل لم يوجه الدعوة للسلطان العثماني لتبعية مصر إلي الولايات العثمانية، وتجدر الإشارة إلى تعديل بعض بنود القناة من قِبل السلطان العثماني لصالح مصر، والتي تنازلت مصر عنها طواعية من أجل إرضاء فرنسا، مما يدل على قرب إسماعيل للدول الأوربية وعدم رضا السلطان العثماني عن تصرفات إسماعيل.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟