المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

النماذج والدروس: العلاقات المدنية العسكرية، مساهمة في وضع نموذج مصري (2)

الخميس 31/مارس/2016 - 12:16 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. علاء الدين عرفات*

        اختار الباحث ستة نماذج مختلفة في العلاقات المدنية العسكرية: النموذج الباكستاني؛ النموذج الإندونيسي؛ النموذج البرتغالي؛ النموذج التركي؛ النموذج الإسباني؛ وأخيرًا، نموذج بعض دول أمريكا اللاتينية، خاصة البرازيل وتشيلي. وقد تناول الباحث في العدد 26 من "مجلة أفاق سياسية" كل من نموذجي باكستان وإندونيسيا، وفي هذا الدراسة يتم بالرصد والتحليل باقي النماذج. وبشكل عام، تنطلق الدراسة من ثلاث فرضيات أساسية. أولًا: الصراع بين كل من الأحزاب والنخب المدنية والمؤسسة العسكرية حول إصلاح العلاقات المدنية العسكرية، تنتج إصلاحًا جزئيًا في تلك العلاقات؛ وربما تزيد من قبضة الجيش وتدخله في السياسة والحكم.

         ثانيًا: الدول التي بها تيار إسلامي قوي أو أحزاب دينية، أو حركات انفصالية، وتوتر على حدودها السياسية، يكون من الصعب أن تتبنى إجراء إصلاح في العلاقات المدنية العسكرية، بل تزيد قبضة الجيش على الشئون السياسية، ويزيد تدخله في السياسة، وربما يكون من المستحيل ترك دوره المركزي في صنع السياسة. ثالثًا، الدول التي بها جيوش ذات نفوذ وإمبراطورية اقتصادية، يكون من الصعب إجراء علاقات مدنية عسكرية، دون الاتفاق على ضمانات وترتيبات دستورية تضمن استقلالا وامتيازات للجيش لفترة مؤقتة، تطول أو تقصر، حسب درجة قوة اتحاد واتفاق الأحزاب والنخب السياسية ورغبة الجيش في إجراء إصلاح العلاقات المدنية العسكرية وترك السياسية للسياسيين المدنيين.  

 

أولاً- النموذج التركي

أما الحالة التركية فتقدم نموذجًا لنجاح جزئي في العلاقات المدنية العسكرية، حيث تطورت تلك العلاقات من خلال صراع القوى بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين. وبشكل عام فقد تميزت العلاقات المدنية العسكرية في تركيا بالاستمرارية والتغيير. فمنذ الثلاثينيات اعتبر الجيش نفسه الضامن للاستقرار الداخلي، وسلامة الأراضي التركية، والوصي على التراث الأيديولوجي لكمال أتاتورك وتجسيد للأمة التركية (1). فدور الوصي والحارس الذي اتخذته لنفسها القوات المسلحة التركية Turkish Armed Forces (TAF)  في الحفاظ على الطبيعة العلمانية للجمهورية التركية عبر عن نفسه من خلال وسيلتين مختلفين للتدخل في السياسة؛ تراوحت من التدخل التقليدي المباشر من خلال تنظيم أربعة انقلابات عسكرية إلى التدخل غير المباشر عن طريق وسائل جديدة لما بعد الحداثة مثل نشر مذكرات الاحتجاج على الإنترنت، والحصول على دعم المجتمع المدني. وعلى الرغم من التعديلات التشريعية الأخيرة التي قلصت بعض الأدوات التي يستخدمها الجيش لممارسة نفوذ سياسي، ظل الأساس القانوني لدوره والتزاماته دون تغيير لأكثر من 70 عامًا. ومع ذلك فالطريقة التي أستخدمها الجيش لتفسير تلك المسئوليات ولتأكيد أن سياسة الحكومة مازالت ضمن الإطار المقبول لديه كانت تخضع دائما للتغيير(2).

       وفي الواقع فقد لعبت ثلاثة عوامل متداخلة دولية ومحلية دورًا رئيسيًا في تطور العلاقات المدنية العسكرية في تركيا. أولًا، صراع القوى بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين على الدور الذي يجب أن يلعبه الجيش في تركيا. ثانيًا، استثمار حزب العدالة والتنمية Justice and Development Party (JDP)  رغبة الشعب التركي في الانضمام للاتحاد الأوربي، كأداة لإضعاف سيطرة الجيش على الدولة. ثالثًا، الدور الذي لعبه الناتو في تحسين إصلاح العلاقات المدنية العسكرية، خاصة فيما يتعلق بالاحتراف. والواقع أن كل تلك العوامل متداخلة ومتشابكة بشكل كبير.

      أما فيما يتعلق بصراع القوى بين الجيش والمؤسسة العسكرية، فعلى الرغم من أن تأسيس الجمهورية التركية على يد ضابط عثماني سابق، مصطفى كمال أتاتورك، فقد أصر أتاتورك على أن جميع الضباط الذين يرغبون في المشاركة في الحياة السياسية يجب أن يستقيلوا أولًا من القوات المسلحة. وكانت النتيجة غياب الجيش كمؤسسة من الساحة السياسية، وأصبحت هيئة الأركان العامة التركية Turkish General Staff (TGS) تابعة لوزارة الدفاع (3). ومع ذلك، فقد أستخدم الجيش بشكل فعال التهديد الإسلامي أو الدعوات الانفصالية في ممارسة سيطرته على الحكم المدني. وقد تدخل الجيش في الحياة المدنية التركية عندما تصل المؤسسات المدنية إلى طريق مسدود، أو عندما يكون هناك تهديد شديد لتلك المؤسسات. وقد قام الجيش خلال الستين عامًا الماضية بأربعة انقلابات (1961، 1971، 1980، 1997) وأزاح عن السلطة أربع حكومات مدنية. وبعد كل تدخل من كل تلك التدخلات يعيد الجيش الحكم إلى المدنيين، ويعود الجنرالات بسرعة الثكنات(4). وفي هذا الإطار فقد اعتبرت الانقلابات العسكرية المتتالية، تعبيرًا عن دور الحارس الدستوري الذي اتخذته القوات المسلحة التركية لنفسها، كما وظف أيضا في وضع إطار للعلاقات المدنية العسكرية. فقد وظفت القوات المسلحة التركية الانقلابات العسكرية كآلية لوضع طابع مؤسسي على الصلاحيات والامتيازات التي تتمتع بها القوات المسلحة في الدستور، والتي استخدمت بشكل متبادل كمبرر قانوني لتدخل الجيش في السياسة. وفي هذا الصدد، أستخدم الجيش المادة 35 من القانون رقم 211 كتبرير قانوني عندما قام بانقلاب 1980، والمادة 34 من القانون رقم 2771 عندما استولى على السلطة في عام 1960(5).

فعلى سبيل المثال، في 27 مايو 1960، شنت القوات المسلحة التركية أول انقلاب لها ضد الحزب الديمقراطيDemocrat Party  الذي مارس آليات سلطوية في الحكم. وتزامن ذلك مع تدهور ظروف العمل بالنسبة لضباط  الجيش، وتدخل الحزب في كثير من الأحيان في التعيينات والترقيات العسكرية والشئون العسكرية للجيش (6). وردًا على الاحتجاجات الشعبية المستمرة ضد تلك الحكومة، أعلن رئيس الوزراء عدنان مندريس  Adnan Menderes (1899-1961)، الأحكام العرفية، وأمر الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين، مما اضطر الجيش إلى التورط في السياسة الداخلية بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحكم المدني في تركيا. فانحاز الجيش للشعب، ورفض إطلاق النار عليهم، وبدلًا من ذلك قام الجيش بانقلاب، وأسقط حكومة الحزب الديمقراطي (7). وأخيرًا، أعيد الحكم المدني في عام 1961. ونتيجة للانقلاب تم إصدار دستور 1961 الذي أحتفظ بشكل مؤسسي بامتيازات هائلة للجيش في التدخل في الحياة السياسية التركية. فدستور عام 1961 زاد من نفوذ الجيش سواء بحكم بالقانون أو بحكم الاستقلال الفعلي لهيئة الأركان العامة التركية، وذلك من خلال جعل تلك الهيئة ترفع تقاريرها مباشرة إلى رئيس الوزراء، بدلًا من وزارة الدفاع. كما استحدث الدستور إنشاء مجلس الأمن القومي National Security Council (NSC)، التي يضم أعضاء بارزين في الحكومة المدنية والقيادة العليا لهيئة الأركان العامة التركية، لتكون بمثابة هيئة استشارية لمجلس الوزراء.(8).

          ومع ذلك لم يضع دستور 1961 حدًا لصراع القوي بين المؤسسة العسكرية والسياسيين المدنيين. ولكن على العكس فقد عمق من ذلك الصراع، وزاده تفاقمًا. ولذلك فقد قام الجيش بانقلابه الثاني في 12 مارس 1971، وذلك حينما أدى القتال بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان إلى وصول الحكومة إلى طريق مسدود. ولكن هذه المرة وقفت هيئة الأركان العامة التركية من وراء الكواليس وأزاحت الحكومة المنتخبة، واستبدلتها بحكومة تكنوقراط (9).

        وبالمثل، ففي 12 سبتمبر عام 1980، وضع القتال بين المتطرفين اليساريين واليمينيين في الشوارع التركية البلاد على حافة الحرب الأهلية، فقام الجيش بانقلابه الثالث. وفي هذه المرة تولى الجيش السيطرة المباشرة على الإدارة وبقي في السلطة لمدة ثلاث سنوات. وفي عام 1982 أصدر الجيش الدستور الجديد، الذي لا يزال ساريًا حتى اليوم، ثم أعاد الحكم المدني في عام 1983م (10). ومع انقلاب 1980، وإصدار دستور 1982، جدد وزاد الجيش من امتيازاته. حيث جدد الدستور دور مجلس الأمن القومي. وعين الجيش ممثلين من صفوفه في مجلس إدارات العديد من المؤسسات، مثل هيئة الإذاعة والتليفزيون، والمجلس الأعلى للتعليم(11). وفي المستويات الأعلى، أصبح رئيس هيئة الأركان قادرًا على إبلاغ مخاوف الجيش خلال لقائه الأسبوعي مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية على التوالي(12). بالإضافة إلى ذلك، أعطي القانون رقم 2945 لسنة 1983 المتعلق بمجلس الأمن القومي الأمين العام لذلك المجلس حق التواصل بشكل غير محدود مع أي هيئة مدنية، ومنحه السلطة لمراقبة تنفيذ التوصيات المحالة من مجلس الأمن القومي إلى مجلس الوزراء(13). ونتيجة لذلك، فمنذ عودة الحكم المدني في عام 1983، نادرًا ما أملت هيئة الأركان سياسات إلى الحكومة. حيث فضلت تقديم توصيات على أن يتم تنفيذها، أو على الأقل، لا يتم اتخاذ سياسات تتناقض معها. وتختلف الطرق المستخدمة لتوصيل تلك التوصيات، وفقًا لنطاقها ودائرتها ومجالها السياسي، وطبيعة التهديد المتصور، وأهميتها أو إلحاحيتها، ومدى استجابة السلطات المدنية. وفي المناطق التي لعبت فيها المؤسسة العسكرية دورًا رئيسيًا في صياغة السياسة، تميل إلى استخدام مؤسستها الرسمية داخل جهاز الدولة. وكان أهم هذه المؤسسات مجلس الأمن القومي(14). ويترأس اجتماعات مجلس الأمن القومي الرئيس التركي. وحتى عام 2003 عقدت اجتماعات عادية مرة كل شهر. وبالإضافة إلى الرئيس، يتألف مجلس الأمن القومي من أربعة ممثلين للحكومة، وخمسة من أفراد الجيش. وهذا يعني من الناحية النظرية، أن السلطة كانت مقسمة بالتساوي بين الجيش والمدنيين. لكن في الواقع، كان التكوين العددي للـ NSC ليس له أهمية كبيرة، حيث لم تخضع أبدًا القضايا داخل المجلس للتصويت. وكان الجيش قادرًا على نحو فاعل على إملاء ما يجب وما لا يجب مناقشته. وكان الأمين العام لمجلس الأمن القومي دائما جنرالا أو أدميرالا في الخدمة. كما هيمن أيضا أعضاء الجيش المتقاعدين على الأمانات الفرعية والفنية للمجلس، حيث هنالك ما يقرب من 400 من تلك الفئة، والتي كانت مسئولة عن وضع وثائق إعلامية، وأوراق معلومات وسياسات، وأوراق خلفية Background Papers  ليتم توزيعها على أعضاء المجلس تحت إشراف الأمين العام لمجلس الأمن القومي(15). وقد احتفظت رئاسة الأركان التركية بعلاقات وثيقة مع عناصر من البيروقراطية المسئولة عن السياسة، مثل وزارة الشئون الخارجية. وكانت أيضا قادرة على الاستفادة من البنية التحتية الخاصة بها، خاصة الخبرة الفنية، والتي يتم استثمارها من خلال نظام ما كان يسمى بـ "مجموعات العمل"، التي تتألف من ضباط الأركان، أما الذين يعملون في هيئة الأركان نفسها أو الذين يعملون في مقر القوات البرية والبحرية أو الجوية. ولم تكن مجموعات العمل دائمة بل تتشكل وتحل وفقًا للحاجة(16).

تميزت العلاقات المدنية العسكرية في تركيا بالاستمرارية والتغيير. فمنذ الثلاثينيات أعتبر الجيش نفسه الضامن للاستقرار الداخلي، وسلامة الأراضي التركية

وخلال أواخر الثمانينيات والتسعينيات، خفت القيود المفروضة من الجيش ببطء، وهو ما دعا العديد من المعلقين الأتراك والأجانب للقول إن عصر التدخلات العسكرية في السياسة قد أنتهي. ومع ذلك، فقد تزامن تدهور الأوضاع الأمنية مع تراجع الثقة العامة في القادة السياسيين، وزيادة الفساد المستشري، وارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع معدلات البطالة، مما أدى إلى زيادة الدعم الانتخابي للأحزاب السياسية الإسلامية، التي لم تُجرب أجندتها الإسلامية بعد (17)، ونتيجة لذلك، ففي مارس 1994، فاز حزب الرفاه الإسلاميIslamist Welfare Party (WP)  بالنصيب الأكبر من الأصوات في الانتخابات المحلية، وسيطر على العديد من المدن التركية الكبرى، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة. وبعد الانتخابات العامة في 25 ديسمبر 1995 أصبح حزب الرفاه أكبر حزب في البرلمان، وإن كان فقط بنسبة 21.4% من أصوات الناخبين، و 158 مقعدًا في البرلمان ذي الغرفة الواحدة المكون من 550 مقعدا. وفي يونيو 1996، شكل  حزب الرفاه حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم True Path Party (TPP)، الذي حصل 135 مقعدًا، وأصبح زعيم حزب الرفاه الإسلامي نجم الدين أربكان Erbakan أول رئيس وزراء إسلامي معترف به في تركيا (18). وخلافًا لما حدث في عام 1980، اختارت رئاسة الأركان عدم الاستيلاء على السلطة بشكل مباشر، ولكن فضلت التنسيق وحشد المعارضة ضد حزب الرفاه، وتشجيع الاحتجاجات العامة والتواصل من وراء الكواليس في محاولة للتخطيط لإخراج الحزب من السلطة. ففي 3 فبراير 1997، انتهز الجيش الفرصة لتذكير حزب الرفاه أن انقلاب دموي كامل سيظل الخيار والملاذ الأخير وذلك عندما أرسل الجيش رتل من الدبابات في ضواحي شوارع أنقرة، وردًا على ذلك  ألقى رئيس بلدية Yildiz  المنتمي لحزب الرفاه الإسلامي، خطابًا عن دعم الشريعة الإسلامية (19). ولم يكن الخلاف بين الطرفين في واقع الأمر حول تطبيق أو عدم تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لكنها رغبة الرجل في التلاعب بالدين. وبالمثل، ففي اجتماع مجلس الأمن القومي في 28 فبراير 1997، قدم الجيش للحكومة المدنية قائمة من 18 إجراء يرغب في أن تنفذ لوقف التهديد الذي يقوم به حزب الرفاه للعلمانية التركية. ووافق البرلمان على تلك الإجراءات في 14 مارس. لكن المسئولين الرسميين لحزب الرفاه أصروا بأن الحزب لا يمكن أن يتحمل تنفيذ تلك التدابير دون استعداء قاعدته الشعبية. وفي أبريل ومايو 1997، وبعد عديد من المناورات قام بها الحزب الإسلامي، صعدت رئاسة الأركان التركية من الضغط على الحزب من خلال عقد سلسلة من اللقاءات لوسائل الإعلام والقضاء ومجتمع رجال الأعمال حول التهديد المتزايد للعلمانية التي يقوم بها حزب الرفاه. وفي كل مؤتمر تلقى رئاسة الأركان حفاوة بالغة. وفي يوم 22 مايو عام 1997، أرسل النائب العام طلبًا للمحكمة الدستورية حكمًا بإغلاق حزب الرفاه على أساس أنه يحاول تقويض مبدأ العلمانية المنصوص عليها في الدستور التركي (20). واستقالت حكومة حزب الرفاه في النهاية في 18 يونيو 1997، واستبدلت بحكومة تضم ائتلاف من ثلاثة أحزاب. وفي 16 يناير 1998 أغلقت المحكمة الدستورية العليا حزب الرفاه، ومنعت أربكان من ممارسة أي نشاط سياسي لمدة خمس سنوات (21). وعلى الرغم من أن أعضاء حزب الرفاه المنحل أعادوا تأسيسه تحت اسم حزب الفضيلة  Virtue Party (VP) بدون قيادة أربكان، فإن الحزب حقق نجاحًا سيئًا في الانتخابات العامة في 18 أبريل 1999، حيث حصل على 15.4% فقط من أصوات الناخبين. وبعد ثلاثة أسابيع تقدم النائب العام بطلب إلى المحكمة الدستورية لإغلاق حزب الفضيلة على أساس أنه امتداد لحزب الرفاه الذي حاول قادته تقويض العلمانية التركية. فأغلقت المحكمة الدستورية رسميًا الحزب في 22 يونيو 2001."(22) ومع ذلك، ومع التراجع الواضح للحركة الإسلامية بداية من عام 1999، بدأ الائتلاف الثلاثي الحاكم في تقليص النفوذ المؤسسي لرئاسة الأركان. ففي يونيو تم إبعاد القضاة العسكريين من محاكم أمن الدولة.وكانت تلك الخطوة الكبرى الأولى، والتي اتخذت من قبل حكومة ائتلافية بقيادة رئيس الوزراء بولنت أجاويد Bülent Ecevit  المنتمي لحزب اليسار الديمقراطي Democratic Left Party (DLF)، تعني إعادة تأكيد لسلطة الحكومة على تقليص النفوذ السياسي للجيش. ولذلك، ففي عام 2001، عدلت حكومة أجاويد الدستور في عدد من النقاط المهمة، من بينها تكوين مجلس الأمن القومي. وبالتالي حصل المدنيين على أغلبية المقاعد في مجلس الأمن القومي، وخفضت مكانة التوصيات التي يصدرها المجلس(23).

       ومع كل ذلك التطور بدأت الحركة الإسلامية تطل برأسها مرة أخرى، لكن هذه المرة مع جيل شاب أكثر برجماتية. وفي هذا السياق، فعندما تم حظر حزب الفضيلة، وانشقت الحركة الإسلامية؛ أسس الجيل الأكبر سنًا حزب السعادة Felicity Party (FP) في يوليو 2001. وبعد شهر، وفي أغسطس 2001، أسس جيل الشباب، برئاسة رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan، حزب العدالة والتنمية.وفي عام 2002، جاء حزب العدالة والتنمية ورجب طيب أردوغان إلى السلطة، وبدأ في تقليص، وخفض نفوذ مجلس الأمن القومي؛ حيث تم إلغاء سلطاته التنفيذية، ولم تعد عضويته مقصورة فقط على الجنرالات ذوي الأربعة نجوم. كما تولي مدني وظيفة الأمين العام للمجلس. ولذلك فقد تغير مشهد المؤسسة العسكرية التركية منذ عام 2004، وذلك من خلال تحويل سلطة اتخاذ القرار بعيدًا عن الجيش. فسابقًا كان مجلس الأمن القومي يشكل سياسة الأمن القومي تحت التأثير القوي للقوات المسلحة التركية(24). كما اتخذت إجراءات أخرى، مثل استبعاد ممثلي القوات المسلحة من مجلس التعليم العالي، والمجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون، وإلغاء محاكم أمن الدولة، التي تتكون من قضاة مدنيين وعسكريين، والتي كانت مسئولة عن محاكمة الجنود والمدنيين المتهمين بارتكاب بعض الجرائم(25). وتم استبدالها بمحاكم خاصة مدنية، مخولة أيضا بمحاكمة الجنود عن بعض الجرائم. كما بدأ الحزب يتحدى الجيش من خلال تعيين القادة العسكريين. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن جميع الضباط الأتراك قد خضعوا أو تبنوا السيادة والسيطرة المدنية على القوات المسلحة. كما أنه لا يعني أيضا أن تركيا لديها علاقات مدنية عسكرية كاملة. إنما يعني أن إصلاح العلاقات المدنية العسكرية يمكن أن يحدث حتى في ظل جيش ذي تأثير ونفوذ قوي، مثل الجيش التركي. وهو درس جيد لمصر لكي تتعلمه.

       بالإضافة إلى كل ما سبق، فالدور الدولي، سواء من الاتحاد الأوربي أو الناتو، قد أسهم في تحسين العلاقات العسكرية في تركيا بشكل غير مباشر. حيث وظف حزب العدالة والتنمية رغبة الشعب التركي في الانضمام للاتحاد الأوربي وعضوية تركيا في الناتو كأداة لإضعاف هيمنة الجيش على الدولة (26). هذا يدل على أن إصلاح العلاقات المدنية العسكرية لم تكن مدفوعة بشكل رئيسي بسعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي(27). وبالمثل، فالجيش نفسه كان داعمًا في البداية لتلك الإصلاحات التي تؤدي للانضمام للاتحاد الأوربي، حيث وافق معظم القادة داخل المؤسسة العسكرية على الشروط التي طلبتها أوربا لتحديث القوات المسلحة. لكن حينما بدأ أردوغان يصرح بأن حكومته مهتمة بالإصلاح حتى بدون ضمانات العضوية في الاتحاد الأوربي، بدأ الجيش يشك في عملية الإصلاح، والحذر من حزب العدالة والتنمية(28). وقد تفاقمت هذه الشكوك، عندما بدأ حزب العدالة والتنمية تحدي دور قيادة الجيش في المجالات التي لم تحدد من قبل الاتحاد الأوربي كمجالات للإصلاح". وأصبح الشك عميقًا عندما أتضح من أحد استطلاعات الرأي في أواخر ديسمبر عام 2006 أن "الدعم للانضمام إلى الاتحاد الأوربي في تركيا قد انخفض إلى 35-30 % (29). وثبت ذلك الشك من خلال السلوك السلبي لحكومة أردوغان تجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، حيث أصبحت حكومته أقل اهتمامًا في الانضمام للاتحاد الأوربي عما كانت عليه قبل عدة سنوات، ومن خلال أيضا غلق مفاوضات الانضمام (30). ومع ذلك استمرت حكومة أردوغان في استثمار فكرة الانضمام للاتحاد الأوربي كوسيلة لتحدي دور الجيش؛ وليس كوسيلة لإصلاح العلاقات المدنية العسكرية. فلم يكن الانضمام للاتحاد الأوربي هو الدافع وراء موقف أردوغان، وإنما رغبته في تقطيع أوصال الجيش انتقامًا منه على الدور الذي قام به في إضعاف الحركة الإسلامية منذ غلق حزب الرفاه.

ومع ذلك فاستغلال أردوغان لرغبة الشعب التركي في الانضمام للاتحاد الأوربي ساعدت على إصلاح العلاقات المدنية العسكرية. فبشكل عام، فمن أجل أن تصبح تركيا عضوًا في الاتحاد الأوربي عليها تحقيق الفصل السياسي من معايير كوبنهاجن Copenhagen criteria. وكان من بين أهم شروط تلك المعايير السياسية، الرقابة الديمقراطية على الجيش التركي(31). وفي هذا السياق، قام حزب العدالة والتنمية بإصلاحات جذرية من أجل تلبية متطلبات الاتحاد الأوربي منذ عام 2002. وعارض الجيش هذه التغييرات، ولكن لأن حزب العدالة والتنمية يضم ائتلافا واسعا من الأتراك الملتزمين دينيًا، وبعض رجال الأعمال الكبار، وأصحاب المصالح التجارية الكبيرة، والأكراد، والمواطنين العاديين الذين يتطلعون إلى الفوائد السياسية والاقتصادية لعضوية الاتحاد الأوربي، كان الجيش مقيدًا عن العمل على إحباط تلك الإصلاحات(32). فقد تطلبت عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي إصلاحات مختلفة، مثل التغييرات في وظيفة رئيس هيئة الأركان (الذي سيقدم تقريرًا إلى وزير الدفاع بدلًا من رئيس الوزراء)؛ ومجلس الأمن القومي (الذي يجب أن يكون ذا مظهر مدني أكثر، وزيادة في عدد الأعضاء المدنيين، وأن يعطي دورًا ثانويًا في الشؤون الأمنية بعد الحكومة المدنية)؛ وإلغاء محاكم أمن الدولة، والقيود المفروضة بشأن قانون حالة الطوارئ (ففرض حالة الطوارئ منذ فترة طويلة في جنوب شرق تركيا أعطي سلطة مفرطة للجيش في تلك المنطقة)(33). كل هذه الإصلاحات استهدفت الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة Democratic Control of the Armed Forces (DECAF) ، لكنها مثلت تحديا للوضع القائم، والذي بموجبه احتل الجيش مكانة متميزة، وعزز هيمنته على الحكومات المدنية في تركيا(34). ونتيجة لذلك، فمنذ عام 2010، وإمكانية تدخل البيروقراطية العسكرية في النظام السياسي قلت بسبب عملية الإصلاح المطلوبة للانضمام للاتحاد الأوربي، وظهور مناخ من الانفتاح في المجتمع، وقد بدأ القضاء التركي يأخذ دور الوصي على النظام، وهو الدور الذي كان يقوم به الجيش، وهو ما أدي إلى خضوع الجيش أكثر نحو السيطرة المدنية (35). ولهذا السبب، ففي سبتمبر 2011، لخص نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم، حسين تشيليك Hüseyin Celik، خطط الحكومة المتعلقة بالجيش في تسع نقاط. كان أول اثنتين منها، تبعية هيئة الأركان العامة لوزارة الدفاع، وإلغاء المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة، والذي يستخدمها عادة الجيش كأداة للتدخل في السياسة (36). ومع ذلك، فعلى الرغم من أن عملية الإصلاح المطلوبة للانضمام للاتحاد الأوربي قد أسهمت في إضفاء الطابع  "المدني" على الجيش التركي، فإنه لا تزال هناك معوقات لمعايير الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة وفق المعترف بها دوليًا.

إن إصلاح العلاقات المدنية العسكرية لم تكن مدفوعة بشكل رئيسي بسعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي

أما بالنسبة للدور الذي قامت به منظمة حلف شمال الأطلسي، فقد كانت تركيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي منذ عام 1952. وتم تحديث وزيادة احترافية Professionalizationالجيش التركي إلى حد كبير في السنوات التالية لانضمامها إلى الحلف."(37) وعلى الرغم من أن تطبيق معيار الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة لم يكن شرطًا مسبقًا لعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فقد أدي انضمام تركيا للحلف إلى زيادة الاحتراف العسكري للجيش التركي، وتحويل مهمته العسكرية بعيدًا عن الشئون السياسة والداخلية، وتركيزه على الدور الخارجي، والذي يعد شرطًا لإصلاح العلاقات المدنية والعسكرية.

وبصفة عامة، وعلى الرغم من كل التغييرات والإصلاحات التي حدثت في العلاقات المدنية العسكرية في تركيا، لا يزال الجيش يتدخل في السياسة التركية بتقنيات جديدة، وضمن إطار من الشرعية. فحاليًا، يفضل الجيش عادة تقديم توصيات وإقناع الحكومات المدنية من أجل تنفيذ سياسات تتماشى مع المخاوف الأمنية الرئيسية للجيش. وفي المناطق التي يلعب فيها الجيش دورًا رئيسيًا في صياغة السياسة، مثل القضية الكردية، والإسلام السياسي، يميل الجيش إلى استخدام كل الأدوات الرسمية مثل مجلس الأمن القومي، والقنوات غير الرسمية، مثل التأثير من وراء الكواليس على السياسيين والبيروقراطيين. هذه الآليات غير الرسمية تتراوح من التصريحات العلنية والإحاطات القصيرة للصحفيين، إلى الاتصالات غير الرسمية مع البيروقراطيين والسياسيين. وعادة ما تتم التصريحات العلنية من قبل أعضاء هيئة الأركان العامة التركية في المناسبات الرسمية العامة، مثل الاحتفالات والمناسبات، أو حفلات التخرج، حيث يعرب الجيش عن قلقه إزاء القضايا الداخلية بشكل عام. وينظر إلى البيانات الصادرة عن الجيش كتحذيرات للحكومة المدنية. وكذلك فإنها تضغط على الجمهور لاتخاذ الإجراءات اللازمة ضد الحكومة(38).

وبشكل عام فتركيا لم تحقق إصلاحًا كاملًا في العلاقات المدنية-العسكرية. فهناك عاملان مترابطان تسببا في عدم إكمال هذا الإصلاح. أولًا، تفتقر تركيا إلى الخبراء المدنيين في شئون الدفاع والأمن والشئون العسكرية. فرئيس الوزراء لديه العديد من المسئوليات الملحة، وليس لديه الوقت ولا الخبرة ولا الموظفين لإعطاء الأركان العامة التوجيه السياسي يوميًا، كما يفعل وزراء الدفاع في أوربا، ودول حلف شمال الأطلسي (39). وبالتالي، لا تزال القوات المسلحة، وحدها تقريبًا، تشكل السياسة الدفاعية التركية، تحت السلطة السياسية لرئيس مجلس الوزراء. كما لا تزال هناك حفنة من المدنيين، معظمهم في رئاسة الوزراء، تشارك في صياغة السياسة الدفاعية. وهذا يعني أن السياسي المدني المسئول عن السياسة الدفاعية، أي رئيس الوزراء، لا يزال يعتمد بشكل كبير على خبرة هيئة الأركان العامة في ذلك. هذا هو كل ما تم الحصول عليه من خلال الصراع على السلطة التي استمرت لسنوات عديدة بين رئيس الوزراء والجيش.

      ثانيًا، تفتقر تركيا إلى الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة؛. التي تشمل ركيزتين أساسيتين: الأولى، هي خضوع القوات المسلحة لسلطة مدنية منتخبة ديمقراطيًا، أي وزير دفاع مدني. والثانية، هو الرقابة البرلمانية على جميع النفقات العسكرية والدفاع، الذي يتمثل في وضع إشراف ومراقبة على كل من الحكومة والجيش من البرلمان ومن بعض الجهات الرقابية الأخرى، مثل وسائل الإعلام والمجتمع المدني (40). ولكي نكون منصفين، حققت تركيا تقدمًا في الركيزة الثانية. فالبرلمان قد زاد بشكل كبير من سلطات ديوان المحاسبة على مراقبة كيفية استفادة القوات المسلحة ووزارة الدفاع الوطني من ميزانيتهما. وقد أدت هذه الإصلاحات أيضا إلى تعزيز سلطة الجمعية الوطنية التركية الكبرى Turkish Grand National Assembly على ممارسة سلطاتها فيما يتعلق بالميزانية. هذا هو المجال الوحيد الذي حقا يمكن أن يقال إن البرلمان استطاع فيها مراقبة المؤسسة الدفاعية. وعلى الرغم من ذلك، فحتى الآن، لم يستخدم البرلمان التركي تلك الأداة بشكل فاعل ونشط جدًا. فالبرلمانات في الديمقراطية تعتبر النقاش حول ميزانية الدفاع أفضل فرصة لاستعراض خطط، ومعدات الدفاع بالتفصيل، ولكن الجمعية الوطنية التركية الكبرى لم تقم بذلك (41).

ثانياً: التشابه والاختلاف بين النموذج التركي والحالة المصرية

بعد الثورة المصرية عام 2011، كانت هناك دعوات من الجيش المصري نفسه لمحاكاة "النموذج التركي"(42). وقد بذل المجلس العسكري جهدًا بشكل ملحوظ لصياغة الدستور المصري بما يتماشى مع النموذج التركي الذي أعطي للجيش وضعًا قانونيًا ودستوريًا للتدخل في السياسة. ومع ذلك، وبعد ثورة 30 يونيو، لم يعر الجيش والشعب المصري أي اهتمام بالنموذج التركي، نتيجة الدعم الدبلوماسي واللوجيستي الذي تلقته جماعة الإخوان من حزب العدالة والتنمية التركي. وقد نتج هذا التناقض من حقيقة أن هناك بالفعل اثنين من النماذج التركية، ليس من السهل على مصر محاكاة أي منهما. فمعظم الناس يشيرون إلى النموذج الذي ينطوي على التدخل العسكري في العملية السياسية لإسقاط الحكومات التي انحرفت عن مبادئ مصطفى كمال أتاتورك، وبالتالي خلق الديمقراطية عن طريق جعل تجاوزات السياسيين المدنيين، سواء اليمينيين واليساريين أو الإسلاميين، مقيدة وخاضعة لرقابة الجيش(43). ومع ذلك، فوفقًا لستيفن كوك Steven Cook  فهذا النموذج هو نموذج "مختلق"، فتركيا حققت الديمقراطية ليس بسبب الجيش، ولكن نكاية في الجيش ورغمًا عنه(44). ولكن السؤال الأهم، هل تركيا دولة ديمقراطية فعلًا وفقًا للمعايير الديمقراطية، أم دولة تسير نحو الديمقراطية؟ هي دولة تسير نحو الديمقراطية بالفعل وأمامها طريق طويل لكي تصبح ديمقراطية.

أما النموذج التركي الثاني، فهو النموذج الذي يتحدث عنه العرب أكثر من الغربيين، ويشير إلى حكومة إسلامية ديمقراطية تمكنت من فرض سيطرتها على المؤسسة العسكرية القوية في تركيا، مما يجعلها دولة ديمقراطية أقل تهديدًا من قبل امتيازات وصلاحيات الجيش. ومع ذلك، فإن الإصلاحات التي حدثت في القطاع الأمني، والتي مكنت تركيا من الوصول لهذه النتيجة، وخاصة فيما يتعلق بقضايا الأمن الوطني، والقضايا المتعلقة بالميزانية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمساعي تركيا للانضمام لعضوية الاتحاد الأوربي. ولذلك ففي حالة عدم وجود مثل هذا العامل الخارجي، فسوف تستغرق مصر وقتًا طويلًا قبل الوصول إلى إصلاحات سياسية مماثلة(45). وإلى جانب عدم وجود العامل الخارجي، فقد انخفض دعم وشعبية الإسلاميين في مصر بشكل كبير حتى قبل عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي.

       ومع ذلك، ولكي نكون أكثر تحديدًا، فإن البلدين يتقاسمان بعض أوجه التشابه الرئيسية؛ فكليهما لديه جيش كبير ومؤثر في الحياة السياسية والاقتصادية. وكل من الجيشين يعتبر نفسه حاميا ووصيا على النظام السياسي القائم. وكلا البلدين لديهما عدد ضخم من السكان، وجماعات إسلامية قوية، وطبقات وسطى ورعة ومتدينة على نحو متزايد(46). ومع ذلك، فعلى الرغم من أوجه التشابه بين تركيا ومصر، فالاختلافات بينهما عميقة جدًا. ففي مصر لا يوجد الفاعل الخارجي لكي يلعب الدور الحاسم الذي لعبه الاتحاد الأوربي ويقيد دور الجيش المصري في تهديد الديمقراطية "(47). فالجيش المصري، على عكس الجيش البرتغالي والتركي، ليس عضوًا في أي تحالفات دولية ديمقراطية من شأنها تعويد ضباط المؤسسة العسكرية على المعايير الديمقراطية(48). فمن الواضح أن الاتحاد الأوربي كان له تأثير حيوي على النظام السياسي التركي. وفي الواقع، فإن احتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوربي قد غيرت مصالح الإسلاميين في تركيا، وقيدت الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، وخلقت بيئة خصبة لإحداث إصلاح مؤسسي للمؤسسة العسكرية وواسع النطاق. فالعلاقة بين أوربا وتركيا مختلفة تمامًا عن علاقة الولايات المتحدة بمصر، فعلاقة الاتحاد الأوربي بتركيا تبرز كيف يمكن أن تشجع الجهات الخارجية التغيير السياسي من خلال الحوافز(49)

          وأهم الاختلافات بين النموذج التركي والحالة المصرية هي أن الجيش التركي، على عكس الجيش المصري، لم ينتج ضباطًا استمروا في السلطة لعقود طويلة. ولم يكن هناك أوغستو بينوشيه Augusto Pinochet التركي مثلا، أو فرانسيسكو فرانكو Francisco Franco  الإسباني، أو أنطونيو دي أوليفيرا سالازار Oliveira Salazar  البرتغالي، ولم يكن هناك بالطبع ناصر أو مبارك. فالجيش التركي تحاشى الحكم المباشر، وسعى الجيش التركي بدلًا من ذلك إلى ترسيخ ومأسسة قنوات التأثير، وذلك باستخدام الأحكام والترتيبات الدستورية لهذا الغرض(50).

أهم الاختلافات بين النموذج التركي والحالة المصرية هي أن الجيش التركي، على عكس الجيش المصري، لم ينتج ضباطًا استمروا في السلطة لعقود طويلة

       وأخيرًا، فإن الصراع على السلطة بين الجيش التركي وحزب العدالة والتنمية كان له تأثير هائل على العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا. ولكن هذا ليست هي الحال في مصر. فالنظام الحالي في مصر، لا يوجد أي تناقض بينه وبين المؤسسة العسكرية. فعلى رأس مؤسسة الرئاسة الرئيس السيسي، وهو وزير دفاع سابق، ويحظى باحترام المؤسسة العسكرية، وتقدير شريحة كبيرة من الشعب المصري، ووزير الدفاع الحالي، الفريق صدقي صبحي، وثيق الصلة بالرئيس ومن أخلص حلفائه. بالإضافة إلى أن دور الجيش في الحرب على الإرهاب يقلل من إمكانية هذا التناقض. وتجعل من الصعب حاليًا من الناحية الفنية اتخاذ أي خطوات، حتى ولو قصيرة المدى، لوضع الجيش تحت سيطرة مدنية منتخبة ديمقراطيًا وفقا للمعايير الغربية.

           وفي الختام، على الرغم من أن تركيا قد حققت بعض التقدم في إصلاح العلاقات المدنية العسكرية، فقد حققت ذلك، وهي تحت قيادة جيش يمارس نفوذًا تقليديًا قويًا في البلاد. وهو درس من بين الدروس التي يمكن أن تتعلمها مصر من النموذج التركي. ووفقًا لذلك، فنموذج تركيا يدل على أن إصلاح العلاقات المدنية-العسكرية يمكن أن يحدث حتى عندما يكون الجيش يمارس تقليديًا تأثيرًا ونفوذًا قويًا في البلاد(51). ثانيًا، أثبتت الحالة التركية أنه حتى الجيش المؤثر بشكل كبير يمكن أن يعود إلى الثكنات، إذا كان لدى المدنيين ما يكفي من الشرعية والدعم الشعبي للقيام بذلك. ولكنها تظهر أيضا أن الاختلاف الأيديولوجي بين الجيش والقيادة المدنية، في هذه الحالة، والاشتباكات المتكررة بين الإسلاميين وحزب العدالة والتنمية والمواقف العلمانية للجيش، يمكن التغلب عليها(52) إذا ما توفر الشرط السابق. وأخيرًا، ضرورة التفاوض لإحداث الخروج التدريجي للجنرالات من الشئون المدنية. وهو من الدروس المهمة جدًا المستفادة الأكثر من النموذج التركي. لهذا السبب فالنموذج التركي قد بجلب الدروس المهمة لمصر، لكن مصر قد تجد صعوبة في محاكاة ذلك النموذج.

الهوامش

(1)Jenkins, Gareth, Continuity and change: prospects for civil–military relations in Turkey, International Affairs 83: 2 (2007) 339–355, P. 340.

(2) Ibid., PP. 354-355.

(3) Ibid., PP. 339-341.

(4) Ülgen, Sinan, From Inspiration to Aspiration, Turkey in the New Middle East, PP. 7-9.

(5) Jenkins, Gareth, Continuity and change, PP. 342-343.

(6) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 339-341.

(7)Varol, Ozan O., The Military as the Guardian of Constitutional Democracy, Lewis & Clark Law School Legal Research Paper Series, Paper No. 30, 2012, PP. 53.

(8) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 339-341.

(9) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 339-341.

(10) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 339-341.

(11) Ülgen, Sinan, From Inspiration to Aspiration, Op cit.,, 2011, PP. 7-9.

(12) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 343-344.

(13) Ibid.

(14) Ibid.

(15) Ibid.

(16) Ibid.

(17) Ibid.

(18) Ibid.

(19) Ibid, PP. 345-346.

(20) Ibid.

(21) Ibid.

(22) Ibid.

(23) Faltas, Sami, The Prime Minister and the Imam: Civil-Military Relations in Turkey today, (Turkish Policy Quarterly, Vol. 1, No. 1, 2012, PP. 133-143) PP. 137-139.

(24) Ibid.

(25) Ibid.

(26) Tuininga, Alexander, The Emerging Pattern of Civil-Military Relations in Islamist States, thesis Submitted in Partial Fulfillment of the Requirements for the Degree of Master of Arts in Security Studies, Thesis Advisor Robert Springborg, Second Reader, Thomas Bruneau, Naval Postgraduate School, March 2013, PP. 61-78.

(27) Faltas, Sami, The Prime Minister and the Imam, Op cit.,PP. 136-137.

(28) Tuininga, Alexander, The Emerging Pattern of Civil-Military Relations, Op cit.,PP. 61-78.

(29) Jenkins, Gareth, Continuity and change, Op cit.,PP. 352-353.

(30) Faltas, Sami, The Prime Minister and the Imam, Op cit.,PP. 136-137.

(31) Ari, Leman Basak, Civil-Military Relations in Turkey, Master Degree in Public Administration, Texas State University, Summer 2007, PP. 43-44.

(32) Steven A. Cook, Q&A on Egypt's Post-Mubarak Future, Foreign Affairs, February 10, 2011.

(33) Toktas, Şule, and Kurt, MIT, The Impact of EU Reform Process on Civil-Military Relations in Turkey, SETA Foundation for Political, Economic and Social Research, policy brief, No., 26, November, 2008, PP. 1-2.

(34) Toktas, Şule, and Kurt, MIT, The Impact of EU Reform, Op cit.,PP. 3-4.

(35) Mahmoud, Faiqa, Evolving Civil-Military Relations, Op cit.,PP. 8-12.

(36) Faltas, Sami, The Prime Minister and the Imam, Op cit.,PP. 139-141.

(37) Ari, Leman Basak, Civil-Military Relations in Turkey, Op cit.,PP. 43-44.

(38) Toktas, Şule, and Kurt, MIT, the Impact of EU Reform, Op cit.,PP. 3-4.

(39) Faltas, Sami, The Prime Minister and the Imam, Op cit.,PP. 139-141.

(40) Ibid.,PP. 141-143.

(41) Ibid.

(42) وقد كان أبرز مثال على ذلك وثيقة السلمي، التي صدرت باسم نائب رئيس الوزراء للتحول الديمقراطي، الدكتور على السلمي. وقد صدرت الوثيقة في أعقاب ثورة يناير 2011، وبناء على رغبة المجلس العسكري الحاكم في ذلك الوقت. لمزيد من التفاصيل انظر على سبيل المثال:

El-Ghobashy, Mona, Egyptian Politics Upended, Middle East Research and Information Project, available at:http://www.merip.org/mero/mero082012

(43) Mahmoud, Faiqa, Evolving Civil-Military Relations, Op cit.,PP. 12-13.

(44) Ibid.

(45) Ibid.

(46) Ibid.

(47) Ibid.

(48) Varol, Ozan O., The Military as the Guardian of Constitutional Democracy, Op cit.,PP. 74.

(49) Cook, Steven A., Ruling but not Governing, The Military and Political Development in Egypt, Algeria, and Turkey, John Hopkins University Press, 2007, PP. x.

(50) Ülgen, Sinan, From Inspiration to Aspiration, Op cit., PP. 7-9.

(51) Diamint, Rut and Mikail, Barah, Militaries, Civilians and Democracy in the Arab World, FRIDE, Policy Brief Series, Nº 112 – Jan. 2012, PP. 3.

(52) Ibid.

*أستاذ مساعد بقسم الدراسات الاستراتيجية، بجامعة السلطان قابوس

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟