المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

هبّة شعبية أم انتفاضة؟: مآلات المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي

الأربعاء 02/ديسمبر/2015 - 11:43 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
عزام شعث
انتهجت حركات التحرر الوطني "الكفاح المسلح" و"المقاومة السلمية" تعبيرًا وأداة للمطالبة بتقرير المصير، ونيل التحرر وإشباع التطلعات الوطنية، ومنذ نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وانخراط فصائل العمل الوطني في إطارها، زاوج الفلسطينيون بين الكفاح المسلح والمقاومة السلمية سعيًا لتلبية حقوقهم الوطنية: تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ثبّتت منظمة التحرير الفلسطينية الكفاح المسلح، الذي بدأته حركة "فتح" مطلع العام 1965، كخيارٍ وحيد في أدبياتها وبرنامجها السياسي، وزادت قناعة الفلسطينيين بضرورة تبني خيار المقاومة، وتعزيز العمل الفدائي بعد هزيمة العرب عام 1967، واحتلال إسرائيل أراضٍ تابعة لثلاث دول عربية هي، مصر وسوريا والأردن.
ثمة عوامل عديدة ساعدت على انطلاق المقاومة الفلسطينية، بشقيها، المدني والمسلح، ضد الاحتلال الإسرائيلي عقب حرب عام 1967، ومن أهمها(1):
1-    الصحوة الوطنية قبل الحرب، والرغبة بالحفاظ على الهوية الفلسطينية، ووجود مساحة من حرية الممارسة السياسية والتنظيمية في السنوات التي سبقت الاحتلال.
2-    تعّمق حالة الإحباط لدى اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، فبعد أن طال انتظار يوم العودة إذا بالاحتلال يتكرس ويزداد شراسة.
3-    شدة القمع الذي تعرض له أهالي الأراضي المحتلة أثناء الحرب.
4-    وجود كوادر عسكرية جيدة، تلقت تدريباتها في جيش التحرير الفلسطيني، ووجود كميات من الأسلحة والذخائر، إلى جانب التربية الوطنية والقومية التي تلقاها الطلبة في المدارس.
5-    اللاءات الثلاث: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف" التي تمخضت عن القمة العربية في الخرطوم العام 1967، مما أدى إلى تحسن نسبي في العلاقات العربية، ووفّر الحماية لقوات الثورة الفلسطينية الناشئة.
6-    جاءت معركة الكرامة في شهر آذار (مارس) 1968، لتزيد من رباطة جأش الفدائيين، ودفعت باتجاه ضرورة مقاومة قوات الاحتلال الإسرائيلي.
مثّل احتكام قيادة منظمة التحرير للبرنامج السياسي المرحلي - ويعرف أيضًا بـ" برنامج النقاط العشر(2)"- العام 1974، تحولًا في الفكر السياسي، وتراجعًا عن خيار الفلسطينيين الوحيد "الكفاح المسلح" في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، حتى وإن قيل إنّ المنظمة وفصائلها لم تُسقط خيار المواجهة المسلحة مع إسرائيل من برامجها، وخططها وأهدافها. والمعنى أن منظمة التحرير تجاوبت مع نداءات المجتمع الدولي لإحراز مكاسب سياسية عبر طريق المفاوضات مع إسرائيل.
تأكدّت هذه المعاني بعد أقل من عشرين عامًا من خلال انخراط قيادة المنظمة في مفاوضات التسوية السياسية مع حكومة إسرائيل، أعقبها التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ "أوسلو" واعتراف المنظمة بإسرائيل وعودة قيادة منظمة التحرير إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وقيام السلطة الفلسطينية بعد عامٍ واحد من الاتفاق.
وكانت إسرائيل قد استخدمت كل الوسائل لوقف المقاومة الشعبية الفلسطينية (انتفاضة الحجارة 1987)، لكنها لم تتمكن، فذهبت إلى مدريد ومن ثم إلى مفاوضات أوسلو، ورغم مراوغتها- المعهودة- اضطرت للتعامل مع القيادة الفلسطينية والاعتراف بمنظمة التحرير، الأمر الذي مهّد لمرحلة أوسلو وما بعدها.

إن منظمة التحرير تجاوبت مع نداءات المجتمع الدولي لإحراز مكاسب سياسية عبر طريق المفاوضات مع إسرائيل
أولًا: تطور المقاومة الشعبية الفلسطينية
قام الفلسطينيون طوال تاريخ مواجهتهم للمشروع الاستعماري بأكثر من 18 هبّة وانتفاضة وثورة، أبدعوا خلالها أساليب مقاومة عديدة (الأسلحة النارية، إلقاء الحجارة، القنابل الحارقة، الطعن والدهس). وقد مثلتا الانتفاضتين الفلسطينيين في الأعوام 1987 و 2000، النموذج الحي والأبرز للجمع بين الإبداعات النضالية التي تفتقت عن العقل الجماعي الفلسطيني.
1-    انتفاضة الحجارة الأولى (1987)
في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت العام 1982، وبالتالي ابتعاد القيادة الفلسطينية عن خطوط التماس مع الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدأ الإحساس لدى الفلسطينيين يتعمق بأهمية نقل المعركة ضد إسرائيل إلى عمق الأراضي المحتلة للتصدي للممارسات الإسرائيلية اليومية والمتواصلة ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي دفع الشعب الفلسطيني - بدعم من قيادته-إلى خوض الانتفاضة الفلسطينية التي عرفت بـ "انتفاضة الحجارة" أواخر العام 1987، وذلك على إثر صدم شاحنة إسرائيلية، عمدًا، لسيارتين فلسطينيتين كانتا تقلان عمالًا من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، وأسفر الحادث عن مقتل أربعة فلسطينيين وجرح تسعة آخرين من ركاب السيارتين، مما أثار سكان المخيم الذين خرجوا إلى الشوارع يرشقون جنود الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة. انتشرت التظاهرات المعادية للاحتلال في جميع أراضي قطاع غزة والضفة الغربية، واستقطبت جميع فئات الشعب الفلسطيني وتنظيماته، واستمرت مدة ست سنوات(3).
استطاعت الانتفاضة بفعلها الاحتجاجي والمقاوم أن تفرض نفسها على إسرائيل التي عجزت عن وقفها والقضاء عليها حتى باستخدامها أعتى وسائل القتل والتحريض والمواجهة المباشرة مع الشبان الفلسطينيين العزل في ساحة المعركة.
أوجدت الانتفاضة حالة من الوعي الوطني في صفوف الفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الخارج، ولدى الجماهير العربية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وسرت إلى وجدان الأمة العربية وشعوبها من المحيط إلى الخليج، فضلًا عن تأثيرها المباشر في النطاقين الإقليمي والدولي، والالتفاف الواسع حولها بحسبانها حركة انتفاض شعبي تنتصر لحقوق شعب رازح تحت الاحتلال لسنوات مديدة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير وإنهاء الاحتلال.
2-    انتفاضة الأقصى (2000)
أدت الزيارة التي قام بها زعيم حزب الليكود الإسرائيلي أرئيل شارون، وهو محاط بـ ( 1000) من الإسرائيليين المسلحين في 28 أيلول (سبتمبر) 2000، إلى باحات المسجد الأقصى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى"، وقد انتفض الفلسطينيون في الأراضي المحتلة تعبيرًا عن غضبهم وسخطهم جراء الزيارة التي اعتبروها انتهاكًا لحرمة المقدسات، وتحديًا لمشاعر المسلمين.
تطورت المواجهة الشعبية الفلسطينية في أثناء انتفاضة الأقصى إلى اشتباكات مسلحة على نقاط التماس والحواجز العسكرية الإسرائيلية وإلى عمليات فدائية داخل الخط الأخضر. وتميزت الانتفاضة بالمشاركة الشعبية الواسعة في كل أرجاء فلسطين المحتلة، وبمشاركة التيارات الفلسطينية كافةً، كما تميزت بشدة القمع الإسرائيلي الذي تمادى في قتل الأطفال الأبرياء واستخدام الأسلحة المحّرمة دوليًا.  فخلال الفترة من (28/9/2000 وحتى 31/12/2005) بلغ عدد الشهداء (4242) شهيدًا، بينهم (793) طفلًا، و(270) سيدة.  وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعمليات اغتيال وتصفية جسدية ميدانية لـ ( 376) مواطنًا(4).
وقد شهد العام 2005، خفوُت موجة انتفاضة الأقصى، وكان ذلك نتيجة الأوضاع التي تلت وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وانتخاب محمود عباس رئيسًا للسلطة الفلسطينية، وبسبب انشغال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في الانتخابات البلدية، وفي التحضير للانتخابات التشريعية، فضلًا عن إعلان الفصائل الفلسطينية في 22/1/2005، التهدئة، ثم إعلان وقف إطلاق النار بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في 8 شباط (فبراير)(5).
ما بين الانتفاضتين الفلسطينيتين الكبيرتين (1987- 2000)، تبنى أنصار التسوية السياسية مقولة أن الاتفاق الفلسطيني-الإسرائيلي هو اتفاق مرحلي يبدأ بسيطرة فلسطينية على إقليم محدد في الضفة الغربية وقطاع غزة، وينتهي بعد 5 سنوات- أي في العام1999 وهو التاريخ المتفق عليه لانطلاق مفاوضات الحل النهائي أو الدائم(6)- بالتحرر الدائم وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.  
تنكّرت إسرائيل للتعهدات، ولم تفِ بالتزاماتها للفلسطينيين وللوحدات الدولية التي مهدت للاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي ورعته منذ مرحلته الأولى، فخابت آمال وتطلعات الفلسطينيين حيال الانعتاق من الاحتلال، حتى بعد انقضاء (16) عامًا بالتمام والكمال على موعد مفاوضات الحل النهائي التي لم تبدأ بعد، فلا السلطة الفلسطينية مُكنت من بسط سيطرتها على الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، ولا تقيدت إسرائيل ببنود الاتفاق الموقع معها أصلًا، فهي من ناحية أمعنت في سياسة الفصل بين المدن والقرى الفلسطينية، وعزّزت الاستيطان لآفاقٍ غير مسبوقة، فاقت حتى خطّطها في بناء الوحدات الاستيطانية منذ قيام كيانها في مايو 1948، وتجرأت على الحقوق الفلسطينية وأحكمت حصارها على قطاع غزة لتسع سنوات متتالية، ودخلت في ثلاثة حروب(7) مفتوحة ضد المدنيين الفلسطينيين خلال السنوات الست الأخيرة (2008- 2015)، ومن ناحية ثانية داست دباباتها بنود اتفاق أوسلو وتجاوزته، ومنعت عنه أسباب الحياة، ومن ناحية ثالثة ورابعة استمرت إسرائيل في انتهاكات حرمة المقدسات الإسلامية في مدينة القدس المحتلة، واستمر المستوطنون، برعاية رسمية، في اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم في الضفة الغربية.
3-    المقاومة الشعبية السلمية بعد انتفاضة الأقصى
مع استمرار المسيرة الأسبوعية ضد الجدار والاستيطان في الضفة الغربية، تطورت المقاومة الشعبية الفلسطينية من حيث الشكل والأسلوب والأداء، ومن أهم أشكال هذا التطور ما يلي:
-    مؤتمر بلعين الدولي للمقاومة الشعبية: يعقد سنويًا في قرية بلعين، وقد انطلقت فعاليات المؤتمر الأول تحت مسمّى المؤتمر العالمي للنضال الشعبي ضد الجدار والاحتلال في بلعين في 20/2/2006، وأوصى المشاركون فيه ببناء حركة كفاحية إنسانية تناضل من أجل الحرية والسلام للشعب الفلسطيني والشعوب الأخرى الواقعة تحت وطأة الاحتلال(8).
-    إقامة القرى الفلسطينية: صعّد الفلسطينيون من مقاومتهم الشعبية للاستيطان الإسرائيلي، من خلال إقدامهم على إقامة قرى فلسطينية من الخيام على الأراضي التي صادرتها إسرائيل لإقامة المستوطنات عليها، ومن هذه القرى، "قرية باب الشمس، قرية باب الكرامة، قرية حي المناطير، قرية كنعان، قرية أحفاد يونس، قريتي عين حجلة والعودة"(9).
-    إقامة الأعراس الرمزية: أقام الفلسطينيون أعراسًا رمزية في القرى المقامة تحديًا للاستيطان الإسرائيلي فوق أراضي الضفة الغربية، ومنها، "عرس قرية باب الشمس، عرس قرية حزما، عرس قرية أحفاد يونس"(10).
-    مسيرات العودة في الداخل والشتات: في الذكرى الثالثة والستين للنكبة نظمت مسيرات الزحف العربية والفلسطينية على ثلاث جبهات حدودية، هي: "الأراضي الفلسطينية المحتلة والجولان المحتل وجنوب لبنان".
قام الفلسطينيون طوال تاريخ مواجهتهم للمشروع الاستعماري بأكثر من 18 هبّة وانتفاضة وثورة، أبدعوا خلالها أساليب مقاومة عديدة
ثانيًا: تصاعد المواجهة الشعبية الفلسطينية (2015): الخلفية والأسباب
أدت الاعتداءات الإسرائيلية إلى تنامي حالة الغضب الشعبي عند الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48، فلم يجد الشبان الفلسطينيون أمامهم من خيار سوى تجديد المواجهة مع إسرائيل بأشكال وآليات جديدة للمقاومة اختزنوها منذ وقوع بلادهم تحت الاحتلال الإسرائيلي قبل (48) عامًا.
لقد أخذ هؤلاء الشبان زمام مبادرة التحرك ضد عدوان الاحتلال، من دون أن يقف خلفه أي تنظيم أو فصيل معين، حيث يلاحظ أنهم من مختلف التوجهات والتيارات، فأعلن انتفاضته الشبابية العفوية بأدواته المتوافرة من الدهس، والسلاح الأبيض، للمقاومة ضد آلة الحرب الإسرائيلية العدوانية(_11).
دفعت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على المسجد الأقصى من خلال إجراءات تهويده ومخطط تقسيمه زمانيًا ومكانيًا والتنكيل بالمصلين المسلمين في رحابه، ومنع وصول آلاف المسلمين لأداء الشعائر الدينية، وهدم المنازل ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، لصالح تعزيز البناء الاستيطاني وزيادة طرح العطاءات لإنشاء وحدات لإقامة المستوطنين الذين تجاوز عددهم (800 ) ألف مستوطن موزعين على مستوطنات الضفة الغربية، وتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في الضفة الغربية تمهيدًا لتقويض المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية ضمن حدود الرابع من حزيران عام 1967. أدت هذه الاعتداءات إلى ارتفاع وتيرة الغضب الشعبي الفلسطيني في مدينة القدس، وامتدت إلى باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وزاد من ذلك انسداد الأفق السياسي مع اشتراط حكومة نتنياهو اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل، وفشل مسار مفاوضات التسوية الممتد منذ (22) عامًا، دون أن يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة في إنهاء الاحتلال وتقرير المصير، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، في مقابل استمرار الانقسام المرير بين الضفة الغربية وقطاع غزة للعام الثامن على التوالي، وفشل الوساطات الإقليمية والمحلية على صعيد إتمام المصالحة الفلسطينية بين الحركتين الفلسطينيتين الأكبر "فتح" و"حماس"، أو توحيد النظام السياسي الفلسطيني المنقسم إلى نظامين: أحدهما في الضفة الغربية والثاني في قطاع غزة، منذ أحداث غزة في الرابع عشر من تموز (يوليو) 2007، على الرغم من توقيع اتفاق المصالحة وتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة رامي الحمد الله في 2 حزيران (يونيه) 2014.
ثالثًا: ساحات المواجهة الشعبية الفلسطينية
شكلت مدينة القدس بمركزيتها الوطنية والدينية رافعة للهبات الفلسطينية، فمنها وحولها انطلقت شرارة المواجهة الشعبية مع الاحتلال الإسرائيلي، لتمتد إلى جميع المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48.  
مع إطلالة شهر أكتوبر، انتفض الشبان الفلسطينيون انتصارًا للمدينة المقدسة ودفاعًا عن حرمتها، في المقابل كثّفت إسرائيل من اعتداءاتها عبر استهدافها المباشر للمشاركين في الفاعليات الوطنية السلمية، الأمر الذي أدى إلى تعاظم ردود الفعل وتصاعد المواجهة.  فوفقًا لبيان وزارة الصحة الفلسطينية بتاريخ 31/10/2015، أي مع انتهاء الشهر الأول من المواجهة الشعبية ودخولها الأسبوع الخامس، وصل عدد الشهداء في الضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 48 إلى (72) شهيدًا، بينهم (15) طفلًا (54 شهيدًا في الضفة الغربية بما فيها القدس، و17 شهيدًا في قطاع غزة، وشهيد واحد في منطقة حورة بالنقب داخل الأرض المحتلة عام 48)، فيما بلغ عدد الجرحى (2240) مواطنًا، من بينهم (2000) مواطن بالرصاص الحي والرصاص المعدني المغلف بالمطاط، فيما أصيب (220) مواطنًا بالرضوض والجروح والكسور، و(20) مواطنًا بالحروق، وأكثر من (5000) آخرين بالاختناق نتيجة استنشاق الغاز السام.
1-    مدينة القدس والضفة الغربية
أخذت المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية ومدينة القدس منحى تصاعديًا منذ حادثة إحراق عائلة دوابشة في قرية دوما بتاريخ 31/7/2015. انطلقت في اليوم التالي المواجهات في نابلس وامتدت إلى مدن وقرى الضفة الغربية، وتعمقت مع انطلاق العمليات الفردية "الدهس والطعن" التي نظمها فلسطينيون في مدينة القدس المحتلة والضفة الغربية، وما ترافق معها من اعتداءات المستوطنين الجماعية والفردية، بحماية قوات الاحتلال، وتنفيذ جرائم إعدام خارج نطاق القانون على خلفية الاشتباه بنية تنفيذ عملية طعن، والتهديد الرسمي الإسرائيلي باتخاذ إجراءات عقابية مشددة بحق الفلسطينيين المشاركين في المواجهة، وهدم منازل منفذي العمليات الفردية وتهديد واعتقال ذويهم والتنكيل بهم.
2-    الأراضي المحتلة عام 48
انضم العرب الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 48 إلى دعم الحراك الشعبي والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي عبر تنظيم وقفات احتجاجية للضغط على القوات الإسرائيلية المحتلة لوقف اعتداءاتها على الفلسطينيين في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة، ففي 13 تشرين الأول (أكتوبر) عمّ الإضراب كل المدن والبلدات الفلسطينية في أراضي 48، وشمل كل القطاعات، بما فيها السلطات المحلية والمؤسسات العامة والتعليمية.  وقد نظم آلاف الفلسطينيين (يقدر عددهم بـ 40 ألفًا) مظاهرة مركزية بمدينة سخنين دعت إليها لجنة المتابعة العليا لعرب 48، دعمًا للهبة الشعبية في الضفة الغربية والقدس. ورغم أن أحداث القدس والضفة هي العامل المحرّك لفلسطينيي الـ 48 للتظاهر، لكن هناك جملة أسباب أخرى تدفعهم إلى ذلك، أبرزها استمرار حملات التحريض والكراهية وازدياد أشكال العنصرية ضدهم من قبل الحكومة الإسرائيلية(12).
3-    قطاع غزة
من الممكن القول: إن مفهوم "المقاومة الشعبية" يتمثل بصورة أشمل وأوضح في الضفة الغربية أكثر من قطاع غزة، وذلك يرجع إلى وجود احتكاك مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي يغيب عن قطاع غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي من مدن القطاع تطبيقًا لاتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل العام 1993، وبعد إخلاء إسرائيل لمستوطنات قطاع غزة العام 2005، الأمر الذي أدى إلى حصر الاحتكاك المباشر لسكان القطاع مع قوات الاحتلال في مناطق الشريط الحدودي شرق وشمال قطاع غزة وعند الحدود الغربية قبالة مياه القطاع.
ومع انطلاق موجة المواجهة الشعبية الحالية - أكتوبر 2015- في قطاع غزة تضامنًا مع الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة واعتداءات المستوطنين وقوات الاحتلال الإسرائيلي فيها؛ حيث تركزت المواجهة في أقصى الحدود الشرقية لمدن غزة، البريج وخان يونس، وعند أقصى الحدود شمالي قطاع غزة، بالقرب من معبر بيت حانون "إيريز" وجميعها تسمى "المناطق البرية العازلة" التي تفصل قطاع غزة عن الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.
أعاد أهالي قطاع غزة في مواجهتهم الآنية مع الاحتلال الإسرائيلي الأساليب البدائية التي بادروا إليها في أثناء انتفاضة الحجارة 1987، ومنها، تنظيم المسيرات الشعبية المنددة بالاحتلال الإسرائيلي، إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة، المقاليع، والإطارات المشتعلة.
وقد شهدت مدن قطاع غزة مواجهات محدودة استخدم خلالها الفلسطينيون أساليب المقاومة البدائية المتاحة لديهم، فيما رد جنود الاحتلال المتمركزون في مواقعهم المحصنة على حدود القطاع باستخدام أسلحتهم النارية والقنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيلة للدموع والمحرمة دوليًا، الأمر الذي أدى إلى وقوع عددًا من الشهداء والمصابين في صفوف الشبان الفلسطينيين المنتفضين.
تطورت المواجهة الشعبية الفلسطينية في أثناء انتفاضة الأقصى إلى اشتباكات مسلحة على نقاط التماس والحواجز العسكرية الإسرائيلية وإلى عمليات فدائية داخل الخط الأخضر
رابعًا: المواجهة الشعبية الفلسطينية في سياقها المحلي والإقليمي والدولي
تباينت ردود الأفعال بشأن المواجهة الشعبية مع الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين التأييد، كما هو موقف الفلسطينيين والعرب وإن بدرجات مختلفة، أو الرفض ووصف المواجهة الشعبية بـ"الإرهاب وأعمال العنف" كما عبر عنه الإسرائيليون حكومةً وشعبًا والولايات المتحدة الأمريكية المنحازة تمامًا لإسرائيل وخياراتها في المنطقة، أو الدعوة إلى تهدئة وتهيئة المناخات لتحقيق انجازات سياسية تعيد الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى مفاوضات التسوية المتوقفة أصلًا، مثلما عبر عنه الأوروبيون قديمًا وحديثًا دون انخراط عملي وجاد في دفع مسار التسوية قدمًا وتحقيق انجازات ملموسة على أرض الواقع.
1-    موقف السلطة الفلسطينية
تزامنت المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي مع خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 سبتمبر 2015، الذي أكد فيه على تحّلل  السلطة الفلسطينية وعدم تقيدها بالاتفاقات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية ما لم تحترمها وتلتزم بها نصًا وروحًا، ومطالبته المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته القانونية تجاه القضية الفلسطينية، وإرغام إسرائيل على وقف اعتداءاتها اليومية ضد المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة(13).
لم تؤدِ المواجهة الشعبية والاعتداءات الإسرائيلية إلى تغيير جوهري في موقف الرئيس الفلسطيني الثابت حيال أشكال المقاومة الفلسطينية وآلياتها، وهو الذي آمن طوال سنوات حكمه بخيار المفاوضات والتسوية السياسية،وجاهّر بتأييده ودعمه للمواجهة الشعبية السلمية مع إسرائيل ورفضه "عسكرة" الانتفاضة.
وفي سياق موقفه من المواجهة الشعبية الفلسطينية ورده على الممارسات الإسرائيلية، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 6/10/2015:" إذا لم تعد إسرائيل إلى رشدها، فنحن أيضًا من واجبنا أن نقوم بما يمليه علينا واجبنا، وإذا كانت إسرائيل لا تريد هذه الاتفاقات فنحن لا نريد تنفيذها، نحن لا نريد تصعيدًا عسكريًا وأمنيًا بيننا وبينها، لا نريد هذا، وكل تعليماتنا الى أجهزتنا وتنظيمنا وشبابنا وجماهيرنا، بأننا لا نريد التصعيد، لكن نريد أن نحمي أنفسنا"(14).
2-    موقف القوى السياسية الفلسطينية
على الرغم من أن المواجهة الشعبية الفلسطينية مع إسرائيل انطلقت دون قرارٍ من أحد، فإن القوى والفصائل السياسية الفلسطينية أيّدتها ودعت إلى تصعيدها واعتبرتها "انتفاضة حقيقية" ردًا على جرائم الاحتلال المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني.
نستعرض، فيما يلي، ثلاثة مواقف للتيارات السياسية الفلسطينية الرئيسية: التيار الوطني، ممثلًا بحركة فتح، والتيار الإسلامي، ممثلًا بحركة حماس، والتيار اليساري، ممثلًا بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين:  
-    حركة فتح: عبرت حركة فتح، في نظامها الأساسي، عن موقفها ورؤيتها للمقاومة الشعبية، فقد تبّنت الثورة الشعبية المسلحة كطريق وحيد لتحرير فلسطين، إلا أن تاريخ الحركة لا يخلو من المقاومة السلمية كالإضرابات، والمسيرات، والاعتصامات، والمقاطعة منذ عام 1969، مرورًا بانتفاضة 1987، وانتفاضة الأقصى 2000، والمقاومة السلمية بعد انتفاضة الأقصى.
وفي سياق دعمها للمواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي الدائرة هذه الأيامقال عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عباس زكي:"إن حركته مع انتفاضة شعبية منظمة، تربك إسرائيل، وتشل أمنها واقتصادها وتضع تساؤلًا مشروعًا أمام العالم: كيف ننهي آخر احتلال في العالم؟"، لافتًا النظر إلى أن "خيار الكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال حق مشروع ولن يسقط".
-    حركة حماس: اعتمدت حركة حماس في دستورها على الجهاد كخيار وحيد لتحرير فلسطين، ولم يلق خيار المقاومة الشعبية قبولًا في أجندة الحركة إلا إبان اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تم توقيعه في القاهرة أيار (مايو) 2011، وقد اتفقتا حركتا فتح وحماس على تفعيل جهود الشعب الفلسطيني للتصدي للاحتلال ومظاهره من خلال حشد طاقات الشعب الفلسطيني في مقاومة شعبية ووطنية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل: "نحن في هذه المرحلة نريد أن نتعامل في هذه القضايا المشتركة المتفق عليها؛ أي المقاومة الشعبية، وهي من العناوين المشتركة رغم أننا نؤمن بالمقاومة المسلحة"(15).
وحول الموقف من المواجهة الفلسطينية- الإسرائيلية 2015، اعتبر الناطق الرسمي باسم حركة حماس، سامي أبو زهري، الهبة الجماهيرية بذور انتفاضة جديدة في وجه الاحتلال، داعيًا إلى تصعيد الانتفاضة من خلال توحيد الموقف الفلسطيني في ظل فشل كل الرهانات على التسوية مع الاحتلال، ودعا جماهير الضفة الغربية إلى الاستمرار في هذه الهبة في ظل جرائم الاحتلال المستمرة.
الواقع أنّ حركة "حماس" ورغم تأييدها لتصاعد واستمرار المواجهة الشعبية في الضفة الغربية، فإنها تتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل ونقل المعركة إلى قطاع غزة، فقد اكتفت الحركة طوال الوقت بدعوة أنصارها إلى تنظيم فعاليات وطنية ومسيرات مؤيدة للمواجهة الشعبية في الضفة الغربية، فضلًا عن دعوتها إلى ضرورة "عسكرة" الانتفاضة في الضفة.  تجلى ذلك بوضوح في تصريحات(16) قيادة الحركة والناطقين باسمها، وآخرها لعضو المكتب السياسي محمود الزهار، الذي دعا إلى ضرورة "عسكرة" الانتفاضة في الضفة لمواجهة "عسكرة" الاحتلال الإسرائيلي.
-    الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: تبنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في دستورها الكفاح المسلح كخيار وحيد لتحرير فلسطين، فقد نص الدستور على أن "الوسيلة الرئيسة للتحرير تتمثل في حرب التحرير الشعبية التي تمر بأربع مراحل: مرحلة التحضير، مرحلة التثبيت والبناء، مرحلة بناء الجيش الثوري، ومرحلة حرب التحرير الشعبية التي تسهم فيها الجماهير العربية كون الأرض الفلسطينية غير مناسبة لحرب العصابات".  إلا أن تاريخها النضالي لا يخلو من وسائل المقاومة اللاعنفية خصوصًا أثناء القيادة الوطنية الموحدة 1987، وانتفاضة الأقصى عام 2000(17).  
وقد أيدت الجبهة الشعبية المواجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعا عضو المكتب السياسي، رباح مهنا، أعضاء جبهته للمبادرة وتوسيع مشاركتهم في الانتفاضة المشتعلة، والتصدي للاحتلال. وجدد مهنا مطالبته بتشكيل قيادة وطنية موحدة لإدارة وتنظيم المواجهات، وضمان تعاظمها واستمرارها. كما اعتبرت الجبهة الشعبية أن العمليات الفردية التي ينفذها الشباب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هي عمليات مشروعة يجب أن تستمر وتتصاعد وتتطور، مطالبة بضرورة إسناد الهبة الشعبية في الضفة والقدس بمختلف الاشكال في ظل استمرار الاحتلال، وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني(18).
3-    الموقف العربي
لقد حدث تلازم ما بين القضية الفلسطينية والعالم العربي، بحيث كانت أية تحولات أو متغيرات كبيرة تحدث في العالم العربي تنعكس مباشرةً على القضية الفلسطينية، فعندما تنتكس الحالة العربية؛ تنتكس القضية الفلسطينية، وعندما تنهض الحالة العربية؛ تنهض معها القضية الفلسطينية. تأكدت هذه المقولات بوضوح منذ وقوع الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما مثله من تحديًا واختبارًا حقيقيًا للالتصاق بالقضية الفلسطينية ودعمها، بوصفها قضية العرب الأولى التي لا تغيب عنهم، بل وتتصدر جدول اهتمامهم، إن في وقت المواجهة مع إسرائيل أو حتى في زمن المبادرات السياسية والجنوح إلى خيار التسوية والمفاوضات مع إسرائيل.  لقد استمر هذا التلازم في أصعب الظروف العربية وأشدّها قسوة، حيث كان للدعم العربي أن مكّن القيادة الفلسطينية من مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل معًا بتبنيها خيار التوجه إلى الأمم المتحدة، ونيل صفة الدولة المراقب العام 2012، وانضمامها تباعًا إلى وكالات الأمم المتحدة واتفاقاتها ومعاهداتها الدولية، وانضمامها إلى محكمة الجنايات الدولية أخيرًا.
ومع ارتفاع وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، واندلاع المواجهة الشعبية في الأراضي المحتلة، أكدت جامعة الدول العربية دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه والوقوف إلى جانبه في الدفاع عن المقدسات، وتبنّت موقفًا داعمًا لخيارات الفلسطينيين ومطالباتهم بإنهاء الاحتلال وتقرير المصير، ودعت الأمم المتحدة إلى ضرورة توفير نظام حماية دولية للشعب الفلسطيني من إرهاب المستوطنين الإسرائيليين والاعتداءات والجرائم الواقعة بحقهم(19)
4-    الموقف الإسرائيلي
سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى مواجهة الشباب الفلسطيني المنتفض، واتخاذ عدة إجراءات لمواجهة حالة الغليان في الضفة الغربية والقدس، وتمثلت في جملة من الإجراءات العقابية(20) أبرزها :تسريع سياسة هدم منازل منفذي العمليات، والدفع بقوات كبيرة إلى مدينة القدس وأحيائها تحت شعار: "لن تكون هناك حصانة لأحد في أي مكان"، ومطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالتحقيق مع التجار المقدسيين الذي كانوا في محالهم التجارية عند تنفيذ عملية قتل المستوطنين التي نفذها الشهيد مهند الحلبي داخل البلدة القديمة(21).
أتت قرارات المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، لتدفع نحو استمرار المواجهات، إذ خولت الشرطة بفرض حظر التجول، كما صادقت على هدم بيوت منفذي العلميات ومصادرة ممتلكاتهم وسحب الهوية منهم، فضلًا عن تشجيع المستوطنين على حمل السلاح، فقد نقلت صحيفة ها آرتس الإسرائيلية عن مسؤول في وزارة الأمن الداخلي قوله: إنه "خلال أسبوعين، ارتفع عدد الطلبات لحيازة السلاح، من 150 طلبًا في اليوم، إلى 8 آلاف طلب خلال الأسبوعين الأخيرين، وتحديدًا بعد إصدار وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، قرارًا بتخفيف القيود على عملية الحصول على تصريح لحيازة سلاح"(22).
5-    الموقف الدولي
في ظل الانشغال الدولي بقضايا وملفات كبرى مثل ملف اللاجئين، وملف التدخل العسكري الروسي في سوريا، والملف النووي الإيراني، وملف تنظيم الدولة الإسلامية؛ تراجعت مكانة القضية الفلسطينية من الاهتمام الدولي، كان ذلك جليًا في غياب القضية الفلسطينية عن اجتماعات ومداولات الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر شهر سبتمبر، إلا أن المواجهة الشعبية الفلسطينية التي تلت الاجتماع الأممي أعادت الاهتمام بالقضية الفلسطينية، فقد بدأت الدبلوماسية الدولية بالتحرك من أجل استعادة الهدوء ووقف المواجهات خشيةً من تحول الهبة الشعبية إلى انتفاضة شاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد دعت اللجنة الرباعية الدولية إلى اتخاذ خطوات جوهرية لاستعادة الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وأعرب ممثلو الرباعية الدولية في لقاءٍ جمعهم في فيينا بتاريخ 23/10/2015، عن قلقهم العميق من تواصل التوتر في الأراضي الفلسطينية، وأدانوا كل أعمال "الإرهاب والعنف" ضد المدنيين، مؤكدين على الحاجة الملحة لاستعادة الهدوء.  ودعت اللجنة الرباعية الدولية إسرائيل والقيادة الفلسطينية إلى إظهار أقصى درجات ضبط النفس وتجنب الخطاب والإجراءات الاستفزازية(23).
وخشيةً من تصاعد المواجهة الشعبية الفلسطينية مع إسرائيل بدأ وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، جولة في المنطقة التقى خلالها بمسئولين أردنيين وفلسطينيين، بمن فيهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس.  أعلن كيري عن سلسلة إجراءات قال إنه متفق عليها بين الإسرائيليين والأردنيين بخصوص المسجد الأقصى، مشيرًا إلى أن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، "وافق على مراقبة الحرم القدسي بالكاميرات على مدار الساعة"، فضلًا عن إعلان أن نتنياهو "يلتزم بأن تطبق إسرائيل سياسة تتيح للمسلمين الصلاة في الحرم القدسي ولغير المسلمين بالزيارة فقط"(24).
وبهذا المعني يستطيع المتابع للحراك الدبلوماسي أن يدرك أن المسعى الدولي يتجه لإنقاذ إسرائيل من مأزقها الراهن، وتخفيف العبء عنها في ضوء تصاعد الهجمات الشعبية الفلسطينية وفشل الرهان الدولي على تراجع المواجهة التي دخلت أسبوعها الخامس بالوتيرة نفسها وآليات المواجهة ذاتها.  يبدو ذلك واضحًا من طبيعة الأفكار التي حملها المبعوث الأمريكي، التي يُفهم منها أن إدارة أوباما غير معنية بتبني مبادرات جديدة أو طرح رؤى تجاه إحياء عملية التسوية، فهي لا تريد أكثر من "استعادة الهدوء" والحيلولة دون تحول المواجهة الشعبية مع إسرائيل إلى انتفاضة فلسطينية شاملة.
محمود عباس: "إذا لم تعد إسرائيل إلى رشدها، فنحن أيضًا من واجبنا أن نقوم بما يمليه علينا واجبنا، وإذا كانت إسرائيل لا تريد هذه الاتفاقات فنحن لا نريد تنفيذها
خامسًا: آفاق المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي
من خلال تتبع مسار المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي دخلت أسبوعها الخامس على التوالي، يبدو أننا أمام أحد الاحتمالات الثلاثة التالية:
-    استمرار المواجهة الشعبية وتحولها إلى انتفاضة ثالثة
قد يكتب للمواجهة الشعبية أن تشّكل هبة جماهيرية عارمة تمتد إلى كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتتحول إلى انتفاضة ثالثة بقيادة وطنية موحدة "قيادة سياسية للانتفاضة" تستمد قوة الدفع من دعم جماهيري وموقف فصائلي موحد وحاضنة رسمية تمثلها السلطة الفلسطينية، كما كان حال الانتفاضة الفلسطينية الثانية العام 2000، وذلك بهدف خلق واقع جديد على الأرض، يعزز ويُقوي خيارات الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، من زاوية "رفع كلفة الاحتلال" وتحميله المسؤولية عن تدهور الأوضاع، وبالتالي خضوعه للمطاليب المشروعة والمتمثلة بإنهاء الاحتلال وتلبية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي مقدمتها إقامة الدولة ونيل الحرية والاستقلال، وذلك كله عبر تحميل المجتمع الدولي لمسئولياته القانونية والأخلاقية تجاه معاناة الشعب الفلسطيني، وضغطه الأكيد لجهة إنهاء الاحتلال.
وعليه، فلسطينيًا، ثمة حاجة إلى التخلص من الحسابات الفصائلية والفئوية الضيقة، وتوحيد الخطاب السياسي، والاتفاق على إستراتيجية متكاملة وموحدة، تُمكن من استعادة الوحدة الوطنية استجابةً لتحديات المرحلة الراهنة وتعقيداتها، ووصولًا إلى تحقيق هدف انهاء الاحتلال.
-    الصعود والهبوط
قد يكتب للمواجهة الشعبية أن تستمر، لبعض الوقت، بنفس الوتيرة والأساليب المعمول بها راهنًا، وأن تتراوح صعودًا وهبوطًا،وتستند فقط إلى نشاطات وأعمال فردية ينفذها الشبان الفلسطينيون في مناطق المواجهة الرئيسية في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة مع المستوطنين وجنود الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في غياب الغطاء الحزبي ووحدة العمل الجماهيري الذي يحول دون تطور المواجهة الشعبية وتصاعدها وتحقيق انجازات وطنية من ورائها.
-    توقف المواجهة
قد يكتب للمواجهة الشعبية أن تتوقف بفعل الشكاية الإسرائيلية والضغوط الدولية، والأمريكية خصوصًا، لجهة تعديل البيئة التفاوضية، وإعادة احياء المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية المتوقفة منذ 4 سنوات، وصولًا إلى توقيع اتفاق بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل.

قائمة مراجع
1.    عدنان أبو عامر، تطور المقاومة الفلسطينية: الشعبية والمسلحة بين عامي 1967- 1987، مجلة الجامعة الإسلامية، الجامعة الإسلامية بغزة، المجلد التاسع، العدد الأول، يناير 2011، ص1216.
2.    يتبنى البرنامج السياسي المرحلي فكرة إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض يتم تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي.
3.    أسعد عبد الرحمن، الموسوعة الفلسطينية، www.palestinapedia.net.
4.    محسن محمد صالح، القضية الفلسطينية خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2012، ص126.
5.    المرجع السابق، نفس الصفحة.
6.    يقصد بقضايا الحل النهائي أو الدائم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية هي تلك القضايا المؤجلة للمرحلة النهائية من التفاوض بين الجانبين، وتشمل: اللاجئون والقدس والمستوطنات والدولة.
7.    شنّت القوات الحربية الإسرائيلية المحتلة ثلاث حروب على قطاع غزة: الأولى، خلال الفترة من 27 ديسمبر 2008 وحتى 18 يناير 2009، والثانية، خلال الفترة من 14 وحتى 21 نوفمبر 2012، والثالثة، من 7 يوليو وحتى 26 أغسطس 2014.
8.    محسن صالح، المقاومة الشعبية في فلسطين، تقرير معلومات (26)، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ص24.
9.    المرجع السابق، ص27.
10.    وكالة الرأي الفلسطينية للإعلام، 23/3/2013، www.alray.ps.
11.    نادية سعد الدين، الانتفاضة الشبابية الفلسطينية دوافع ومسارات محتملة، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، مجلة السياسة الدولية،www.siyassa.org.eg.
12.    أحمد ملحم، تصاعد الأحداث في الضفة يدفع فلسطينيي 48 إلى مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات،  www.al-monitor.com
13.    النص الكامل لخطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 30/9/2015، http://www.amad.ps/ar/?Action=Details&ID=91417.
14.    للمزيد حول نص كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 6/10/2015، راجع الصفحة الإلكترونية لوكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا على الرابط http://www.wafa.ps/arabic/index.php?action=detail&id=206030
15.    صحيفة الخليج، الشارقة، 26/11/2011.
16.    تصريحات إعلامية لعضو المكتب السياسي لحركة حماس حول الدعوة لتبني المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
17.    صلاح مصطفى العويصي، المقاومة اللاعنفية في فلسطين بعد اتفاق إعلان مبادئ أوسلو: بلعين ونعلين نموذجًا، رسالة ماجستير، جامعة الأزهر بغزة، 2013، ص120.
18.    بيان صادر عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطينبتاريخ 8/10/2015.
19.    بيان مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين في دورته غير العادية المستأنفة بتاريخ 13/10/2015.
20.    أقرّت الحكومة الإسرائيلية تعديلات على ما يسمى بـ" قانون العقوبات" ضد راشقي الحجارة من الفلسطينيين، حيث يشمل القانون الجديد عقوبات منفصلة لمن يُلقي الحجارة ولم يتسبب في إصابات بشرية في صفوف قوات الاحتلال والمستوطنين تصل إلى 5 سنوات، فيما تتراوح مدد العقوبات الأخرى في حالة الإصابة من 10- 20 سنة من السجن، مع حرمان العوائل الفلسطينية من جميع حقوقهم وفي مقدمتها مصادرة حق الفلسطينيين في إقامتهم بوطنهم من خلال سحب هوياتهم.
21.    آفاق المواجهة الشعبية الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر 2015، ص5.
22.    مستقبل انتفاضة القدس، تقدير إستراتيجي (81)، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أكتوبر 2015، ص6.
23.    وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، 23/10/2015،
24.    http://www.wafa.ps/arabic/index.php?action=detail&id=207473.

25.    صحيفة الغد الأردنية، 26/10/2015.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟