المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الثورة الدينية: ضرورة تجديد بنيات العقل والفكر

الأحد 31/مايو/2015 - 12:24 م
نبيل عبدالفتاح
الخطاب السائد حول تجديد الخطاب الدينى، يشكل واحداً من أكثر الخطابات شيوعاً الآن فى الأجهزة الإعلامية المرئية والمسموعة المكتوبة، وذلك على الرغم من أن مفهوم الخطاب كان جزءاً من تطور العلوم اللغوية- اللسانية-، والأحرى القول ثورة الألسنيات المعاصرة وتداخلها وتأثيرها على كافة العلوم الاجتماعية، من السوسيولوجيا إلى الثقافة إلى القانون والعلوم السياسية، والآداب، والنقد الأدبى والمرئيات ... الخ.
دخل مصطلح الخطاب - في تعريف أولى وسهل هو "مقول الكاتب – أو أقاويله بتعبير الفلاسفة العرب القدماء – أو بوصفه بناء من الأفكار ووجهة نظر مصوغة في بناء استدلالي" وفق محمد عابد الجابري في الخطاب العربي المعاصر، وأصبح ذائعاً فى بعضُ دوائر النخبة المثقفة، ويتداول ويستهلك فى نطاقات أوسع فى السوق اللغوى العربى.
أى خطاب دينى – إسلامى أو مسيحى.. الخ- ليس أحادياً فى بنيته، وإنما داخله خطاباته أخرى، قد تتكامل وتتناقض وتتنافس. أن حصاد الممارسة المنهجية حول الخطاب الدينى ليست كثيرة، وإنما محدودة جداً، والدرس الخطابى حولها يبدو شحيحاً على عكس الاستخدامات المجازية والإنشائية لمصطلح الخطاب الدينى فى السياسة والإعلام والثقافة، بل أمتد ليغدو أحد أبرز المفردات/ العلامات الشائعة فى الكتابة والمشافهات السائدة، لكن على نحو معمم وغامض وسائل ودونما ضبط للمفهوم/ الاصطلاح، ولا ممارسة تحليلية لما يعنيه القائلون بالمصطلح، خطاب دينى بأى معنى؟ وفى نطاق أى خطاب من الخطابات الدينية الشائعة فى السوق اللغوى والاصطلاحى العربى. من هنا ساد الاستخدام اللفظى والإنشائى لهذا المصطلح، أكثر من التوظيف المفهومى النظرى والتطبيقى، الذى شكل استثناء فى الممارسة البحثية والكلامية العربية.
منذ استخدام هذا المصطلح وتحوله إلى موضة لغوية شأن غيره من المصطلحات الوافدة من الحقول الاجتماعية، تم إزاحة مصطلحات أكثر أهمية كالتجديد الدينى، وأزمة العقل العربى والإسلامى، وإصلاح العقل الإسلامى المأزوم، وتحديث الفكر الإسلامى إلى آخر هذه المصطلحات التى شغلت بعض من المفكرين والباحثين، وقلة قليلة جداً من رجال الدين المستنيرين والمجتهدين.
نستطيع وضع مفهوم ومطلب تجديد الخطاب الدينى الإسلامى تحديداً بوصفه رد فعل على الأعمال الإرهابية والوحشية التى تمارس تحت مظلة السند الدينى الفقهى والتأويلى "المتشدد والمتطرف"
أخذ المفهوم ديناميكية جديدة فى بعض الخطابات السياسية الغربية والعربية فى أعقاب ضرب أيقونات القوة العولمية الأمريكية فى 11 سبتمبر 2001، وبات يعاد ويتلى، حتى أصبح بمثابة مفهوم مظلة تتداول تحته عديد من المصطلحات أزمة الفكر الدينى.. الفكر الإرهابى.. الجماعات الإسلامية الراديكالية والإرهابية.. التطرف الدينى.. الغلو.. أزمة الإسلام الرسمى ومؤسساته.. تطور الأزهر.. الخ.
فى أثناء الانتفاضات الثورية فى مصر وتونس.. كانت مواقف المؤسسات الدينية الرسمية أكثر حذراً، ووقف بعض قادتها إلى جانب النظام والنخبة التسلطية.. ثم تراجعوا وأيدوا العملية الثورية، وباستثناء بيانات الأزهر والمثقفين ذائعة الصيت لم يحدث أى تأثير نوعى فى الخطابات الدينية الرسمية، وإنما جُلَّ ما تم لا يعدو سوى تهجين الخطاب النقلى ببعض المفردات والتعبيرات الأقرب إلى شعارات لفظية على بنية ومرجعية وتضمينات من الفقه السنى الأغلبى، دونما مراجعات أو سعى وممارسة منهجية وعقلية وإيمانية ترمى إلى تجديد روح الإيمان لدى جمهور المؤمنين، والتفسير والتأويل الدينى الرسمى. فى هذا السياق كانت الخطابات الإسلامية الراديكالية تتمدد مجدداً، حاملة معها فقه التوحش الداعشى – أنظر إدارة التوحش لأبو بكر الناجى- الذى شكل نقلة لبعض الممارسات السلفية الجهادية، سواء على المستوى الإيديولوجى والفقهى، أو فى العنف الوحشى ذو الطابع الاستعراضى الساعى إلى تفجير أقصى درجات ومستويات الخوف الأنسانى، لتحقيق الردع والتمدد إلى أن صاغتة شبه دولة على أشلاء الدولتين العربيتين العراق، وسوريا، بكل تاريخهما السياسى والحضارى العربى والإسلامى العريق، لأهداف سياسية من بعض الدول العربية وبالتوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، لمواجهة إيران على أطلال الدولتين العربيتين، وهو ما أدى إلى انهيار التوازنات الاستراتيجية فى الإقليم العربى والشرق أوسطى كله لصالح دول الجوار العربى إيران وتركيا ذات الوجه العثمانى الإمبريالى، وإسرائيلى!
من هنا نستطيع وضع مفهوم ومطلب تجديد الخطاب الدينى الإسلامى تحديداً بوصفه رد فعل على الأعمال الإرهابية والوحشية التى تمارس تحت مظلة السند الدينى الفقهى والتأويلى "المتشدد والمتطرف"، وأحد مداخل الحل والمواجهة السلطوية لهذه الجماعات وذلك بهدف تجفيف المنابع الإيديولوجية التى يستمد منها أيديولوجيو ومنظرو هذه الجماعات مئونتهم وعدتهم الفقهية، التي تبرر هذا العنف الوحشى المفتوح فى المنطقة والعالم بكل الآثار السلبية على صورة الإسلام العظيم الديانة والعقيدة والثقافة والقيم الفضلى السمحاء. عنف وحشي إعادة إنتاج الصور التاريخية القرو وسطية والاستشراقية السلبية عن الإسلام والمسلمين.
تجديد الخطاب الدينى يبدو الآن كشعار سياسي وكأمنية وآمل فقهى.
تحول تعبير تجديد الخطاب الدينى إلى علامة أو حل سحرى لخطابات سياسية وإسلامية مأزومة وواقع ملبد بأشكال من العنف اللفظى، والرمزى والمادى والاجتماعى. وهنا خطورة هذا الاستخدام الشعارى المراوغ، لأنه يؤدى إلى اختزال المسألة الإسلامية السياسية – أصبحت مسألة وليست مشكلة أو أزمة ممتدة فقط – فى الخطاب الدينى وليست كتعبيرات عن أزمات بنيوية فى العقل والفكر والمذاهب والمؤسسة الدينية الرسمية ونظائرها، وأضدادها، وفى السياسة والثقافية والتعليم ومناهجه المأزومة من ثم نحن إزاء طرح جزئى للمسألة الدينية المصرية والاعتماد على الإنتاج الجزئى للعقل الإسلامى المصرى المأزوم متمثلاً فى الخطاب الدينى وضرورات تجديده؟

كان الجمود والحفاظ على الموروث في بعض إدراك شاع لدى رجال الدين، هو دفاع عن الدين والمقدس
أولا-  تأصيل أزمة العقل والفكر الدينى تاريخياً.
مع بناء الدولة الحديثة ظهر فاعلين جدد في إطار الأجهزة الجديدة، أولها: الجيش الحديث وثانيها: البيروقراطي ورجل الدولة، وثالثها: المثقف ابن البعثات إلى أوروبا والتعليم المدني، وذلك كأحد أهم بناتها، ومن هنا كانت علاقته بالدولة أحد أبرز خصوصيات نشأة المثقف الحداثي – والأحرى شبه الحداثي- في علاقته بالسلطة والسياسة والدولة على خلاف مسارات تاريخية أخرى في العالم والمنطقة. ترتب على ذلك استعارة الهندسات القانونية والاجتماعية – وبعض الاجتماعية الحدثية – من المرجع التاريخي اللاتيني – الإيطالي والفرنسي – ومن خلالها نشأت وتكونت الجماعة القانونية ودورها القيادى التاريخى فى بناء الدولة الحديثة والنظام شبه الليبرالى، على نحو أدى إلى تراجع دور رجل الدين في السياسة والقانون وفي دائرة الدولة إلا بوصف الأزهر أحد أجهزة هذه الدولة ويعتمد عليها في تمويل أنشطته الدينية. لا شك أن عمليات التحديث السلطوي للقيم وأجهزة الدولة والقوانين والتعليم ساهمت في إحلال المؤسسات الحديثة، واعتمادها على المرجع الأوروبي الحديث والحداثوي المبتسر على نحو أدى إلى بروزها في صدارة الدولة. وتشكلت عبر عمليات البناء والهدم لبعض الأبنية والقيم القديمة مما أدى إلى تكرس الازدواجية في التعليم الديني والمدني إلى جانب التعليم العسكري، وإلى تطور التعليم الحديث ومناهجه ومواده، بينما استمر التعليم الديني الأزهري حول الأزهر الشريف، يعاد إنتاج القديم والموروث والنقلي الفقهي والكلامي والتفسيري والإفتائي، كأحد قلاع الدفاع عن المؤسسة ورجال الدين ومكانتهم الاجتماعية وتصوراتهم عن الهوية الإسلامية، وعن القيم والثقافة الإسلامية الموروثة. من هنا كان الجمود والحفاظ على الموروث في بعض إدراك شاع لدى رجال الدين، هو دفاع عن الدين والمقدس.
من هنا يبدو لي أن المقاربة التاريخية لأزمة العقل والفكر الإسلامي هي المدخل – ضمن مداخل أخرى – لفهم وتفسير حالة الجمود والمحافظة التي اعترت هذا العقل. إن وراء هذا الجمود التاريخي عديد العوامل والأسباب يمكن لنا رصد بعضها فيما يلي:
يبدو أن أحد آثار أزمة الفكر الديني تاريخياً تعود – وفق أستاذنا د/ محمد سلام مدكور- إلى ما اتفق عليه العلماء في منتصف القرن الرابع الهجري على سد باب الاجتهاد وذلك بعد أن "دبَّ الضعف في جسم الدولة الإسلامية، وأخذت عوامل التفرقة والانهيار تسري في كيان الدولة، فتفككت، وأصبحت دولاً متفرقة داخل دولة هرمت وهزلت والخلفاء وقعوا تحت سيطرة الأتراك حيناً، وتحت سيطرة الديلم حينا ومن بني بويه حينا آخر وأتت بعد ذلك غارة التتار فقضت على البقية الباقية. وتبع هذا الانحلال السياسي أن مات في نفوس الفقهاء تدريجياً الاستقلال الفكري وركنوا إلى التقليد وبعدوا عن الاجتهاد شيئاً فشيئاً حتى قفل باب الاجتهاد وأصبح الفقيه يلزم مذهباً معيناً بل أفتوا بمنع انتقال المقلدين من مذهب إلى مذهب". (انظر مؤلفه المدخل للفقه الإسلامي، تاريخه ومصادره ط4 دار النهضة العربية بالقاهرة 1969). استهدف قفل باب الاجتهاد مواجهة ظاهرة الوضع للأحاديث، ومحاولة الوقوف أمام آثارها السلبية والخطيرة، ومن ثم سعي بعضهم بالباطل لايجاد سند في المصدر السنوي للشريعة دعماً لآراءه ومصالحه. بعض الأثر السلبي تمثل في تمدد الجمود الفقهي، وإعادة إنتاج الموروث والأخطر شيوع النزعة النقلية على النزعة العقلية في التعامل مع تاريخ وإنتاج المذاهب الفقهية السنية، على نحو أدى إلى ظاهرة تبجيل الآباء / الفقهاء العظام المؤسسين للمذاهب والتابعين وتابعي التابعين لهم، ووصل التقدير لهذا الإبداع الفقهي في زمانه وأمكنته وأسئلته إلى درجة ما من درجات الاحترام الممسوس بالقداسة، والذي حجب لدى بعض رجال الدين ممن هم أقل درجة وعلماً وتكويناً إلى الانصياع النسبي إلى هذا الميراث، وعدم مساءلته لديهم في ضوء تغيرات الزمان والمكان والبشر وثقافتهم وقيمهم الوضعية المتغيرة، ومشكلاتهم. يبدو أننا في مسارات تاريخنا الفقهي والمذهبي تناسى بعض أجدادنا وأسلافنا في مصر – وبقية البلدان العربية والإسلامية – أن الإسلام دين بلا واسطة، بين الإنسان المسلم وبين الله سبحانه وتعالى
الطغيان يولد القمع المادي والفكري والفقهي ويؤدي إلى تماهي بعض الفقه والأفتاء والمفتيين مع السلطان، ويميل معه حيث يميل أياً كانت وجهته أو تناقضه.
إن بعض رجال الدين يتناسى هذا البُعد الهام في تدهور الإنتاج الفقهي وجموده بادعاء أن قفل باب الاجتهاد، كان أكذوبة تاريخية، وأن المجامع الفقهية الحديثة حاولت أن تجتهد في إبداء الآراء حول قضايا معاصرة. هذا الرأي يخلط بين الأثر التاريخي السلبي على العقل الفقهي وعملياته الذهنية وإنتاجه، والفجوة الكبرى بين حيوية العمليات الاجتهادية، وبين الجمود والركود التاريخي، وأثره العقلي وعدم مواكبة أسئلة ومشكلات المسلمين ومجتمعاتهم بعد إغلاق هذا الباب الرحب. من ناحية أخرى، لا يزال إنتاج هذه المجامع الفقهية دون المطلوب.
من ناحية أخرى لم يستطع هذا الإنتاج الأفتائي للمجامع الفقهية، أن يواجه فقه القاعدة الراديكالي، ولا أيديولوجيا التوحش والتطرف.
ويبدو أن الدور الإفتائي – على أهميته- لم يكن ذا فاعلية في هذه الأوساط الاجتماعية ومشاكلها في الاندماج الاجتماعي والثقافي في البلدان الأوروبية، لأن تأثير هذا المجمع وبعض المجامع الفقهية الأخرى لم تستطع أن توقف اختراق الفكر السلفي الجهادي – للقاعدة وداعش – لبعض الشباب المسلم في أوروبا، وتجنيده في إطارها، وقيامهم ببعض الأعمال الإرهابية كما حدث في مترو لندن، وفي أحداث شارل أبدو وغيرها. أن جاذبية الانخراط في تنظيم داعش والسفر إلى شبه الدولة في العراق وسورية، تكشف إلى أي مدى محدودية تأثير بعض الإفتاءات التي قامت بها هذه المجامع تحت لواء تأثير السلطان السياسي للعائلات الحاكمة في إقليم النفط العربي والموالين لها من رجال الدين من السلفيين والمحافظين.
من ناحية أخرى شكل التحول الديني إلى الكاثوليكية في الجزائر، شكل أحد مظاهر التوتر والقلق الإيماني لدى بعض الجزائريين، بقطع النظر عن أن حرية التدين والاعتقاد مكفولة في العقيدة والشريعة الغراء (انظر الشيخيين الجليليين عبد المتعال الصعيدي والأمام الأكبر أستاذنا محمود شلتوت).
أحد مظاهر التوتر الإيماني والعقدي والروحي الناتج عن طبيعة الضغوط والمتغيرات العصرية التي تواجه المسلم المعاصر – في الحياة والقيم والأفكار الجديدة الساحقة – تعود إلى نكوص بعض رجال الدين والمتكلمين عن تحليل هذه الوضعية الجديدة المعقدة والمركبة على عديد المستويات، ومن ثم التعامل التجديدى والاجتهادي معها الأمر الذي أدى إلى ظاهرة الإلحاد، أو ظهور اللاإدرية مجدداً في أوساط بعض الشباب على قلقهم. مثل هذه الظواهر لا تزال تواجه بفكر تقليدي ونقلي، ومن ثم تتسع الهوة بين قلق بعض المسلمين المعاصرين وبعض شبابهم في عديد من البلدان الإسلامية وبين الاستجابات المحافظة للفقه والإفتاء والدعوة الإسلامية.
من الشيق أن نلاحظ أن بعض الاجتهادات المعاصرة لدى بعض منظري الجماعات الإسلامية السياسية – حسن الترابي وراشد الغنوشي – تمت خارج المركز المصري للإخوان المسلمين وتجاوزتهم ومعهم المؤسسة الأزهرية الأم، وفي ذات الوقت اعتمدوا في بضع تنظيراتهم حول حرية العقيدة والحريات العامة والشخصية على بعض اجتهادات المجددين الأزهريين في المرحلة شبه الليبرالية وفوائضها في ظل نظام يوليو 1952 – الناصرية – من أمثال عبد المتعال الصعيدي، ومحمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز .... إلخ
يبدو أن النظام التسلطي، أدى إلى نمط من التسلطية الدينية ومن ثم تشكيل العقل الديني التسلطي – الإسلامي والمسيحي الأرثوذوكسي – منذ وصول الضباط الأحرار – إلى السلطة، ولا يزال سائداً لاعتبارات تتصل باستمرارية توظيف النخبة الحاكمة – على اختلاف مصادرها ومكوناتها وشخوصها – للإسلام والدين عموماً في العمليات السياسية، وفي بناء نظام الشرعية، وفي التعبئة والحشد السياسي، وكجزء رئيس عن منظومة التبرير لسياسات وقرارات النظام.
العقل التسلطي السياسى والديني يكملان بعضهما بعضاً، لأنهما يقومان على عمليات ذهنية ترمي إلى الأمر والنهي، والصواب والخطأ، والحلال والحرام، والمشروع واللامشروع.
الطغيان يولد القمع المادي والفكري والفقهي ويؤدي إلى تماهي بعض الفقه والأفتاء والمفتيين مع السلطان، ويميل معه حيث يميل أياً كانت وجهته أو تناقضه
أن تشكيل العقل التسلطى -مجموعة من العمليات الذهنية ومعها مجموعة من الإدراكات النفسية والرمزية..
أن العقل التسلطى يضع فى بعض الأحيان الحاكم كمركز للتفكير السياسى، ومحور القوة الرئيس فى النظام، وبيده الأمر والنهى والتغيير دونما مساءلة أو إبداء الأسباب والمسوغات وربما الأهداف الحقيقية وراء سياسته وقراراته وتغييرها، من ثم يتم اختزال الدولة فى النظام والأخير فى الحاكم وبعض مراكز القوة حوله، ومعها بعض أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية إذا ما اعترى الحاكم بعض من الضعف، أو كبر السن.. الخ.
يستند هذا المنهج فى تكوين رجل الدين، وخطاب الدعاة على تبرير سياسات وقرارات المتغلب -الذى لم يصل إلى السلطة عبر آليات ديموقراطية وتعبيراً عن الإرادة العامة للأمة- من ثم تدعم عمليات تكوين العقل التسلطى الدينى بعد الذهنية النقلية بما تنطوى عليه من تلق وتلاوة وإعادة إنتاج المواد المذهبية والفقهية التأسيسية وشروحها، والشروح على الحواشى .. الخ. تلك التى تعتقد فى أن الموروث الفقهى والتفسيرى والتأويلى والأفتائى يشكل لدى بعضهم الدين الإسلامى العظيم مع النص القرآنى المقدس، وسنة الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم يطاله مسٌ من التقديس الوضعى. هذه النزعة لدى بعض رجال الدين المحافظين والتقليديين الذين يكتفون ببعض معارفهم النقلية، غالبا ما يدركون ذواتهم على أنها المفوضة بحراسة الدين فى الحياة، ومن ثم يقفون عقبة أمام أى مسعى أو ممارسة تجديدية، أو تاريخية تتناول الموروث الدينى- السياسى والثقافى والقيمى والاجتماعى والتقاليد التى تشكلت فى مراحل تاريخية محددة- من خلال بعض المقاربات المنهجية الحديثة، وكأن هذا المسعى سوف يؤدى إلى تقويض أصول الدين وثوابته ومذاهبه!
إزاء هذا التوجه حاول نظام الرئيس جمال عبد الناصر أن يحدث بعض التغيير لتحديث المؤسسة والتعليم، ولكن فيما يبدو أن آثارها أدت إلى نتائج ليست إيجابية ولم تحقق الأهداف التى نيطت بخطة تطوير الأزهر. من ثم استمر التوجه التقليدى سائداً، وتزايدت قوته فى ظل هزيمة يونيو 1967، وانتفض الأزهر ليلعب دوره الوطنى التاريخى فى التعبئة الدينية والوطنية إزاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى المصرية والعربية المحتلة وأفتى كبار المشايخ بحرمة الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها. استمر هذا الدور حتى حرب أكتوبر 1973 الوطنية وتحرير الأراضى المصرية فى سيناء.
وفى إطار التسوية السياسية الجزئية للصراع العربى/ الإسرائيلى، وتبرير اتفاقية كامب ديفيد، حيث أفتى شيخ الأزهر وبعض كبار علمائه بشرعية الاتفاقية والجنوح إلى السلم، على نحو بدى معه أن قادة المؤسسة/ السلطة الدينية يميلون مع الحاكم ويؤيدون قراراته وسلوكه ويضفون عليها السند الدينى التبريرى والتأويلى، وهو ما وضع الأزهر فى دائرة النقد، فى حين أن بعض المشايخ لم يكونوا يؤيدون هذا التوجه، ويحيلون السبب وراءه إلى فقدان الأزهر لاستقلاليته وخضوعه للسلطة.
- فى ظل حكم الرئيس الأسبق أنور السادات استخدم الدين فى خطابه وتأويلاته المحافظة والملتوية للإسلام خارج مألوف التراث اليوليوى فى اعتماد الدين أحد محفزات ومحركات التنمية .. الخ وقام بتوظيفه فى الصراع السياسى بينه وبين القوى الناصرية والقومية واليسارية، وبعض الليبراليين الخلص، وذلك لكى يؤسس شرعية ما أسماه بدولة العلم والإيمان، وتصالح مع جماعة الإخوان المسلمين وفتح الباب أمامهم فى التمدد الدعوى والتنظيمى، على نحو ساهم فى إعادة إحياء جماعة الإخوان المسلمين – على أيدى الأستاذ عمر التلمسانى ود. عبد المنعم أبوالفتوح- وتجنيد أجيال جديدة شابة من الجامعات المصرية، فضلا عن عناصر تنتمى إلى شرائح اجتماعية متعددة من الفئات – العليا والوسطى- الوسطى، والوسطى الصغيرة.
أن السياسة الدينية للنظام فى عهد السادات ساهمت على نحو ما فى تمدد النزعة المحافظة، والتشدد الدينى، وبروز الراديكاليات الأصولية التى مالت إلى خيارات العنف والتوجه الانقلابى على النظام بالقوة –(حزب التحرير الإسلامى، وجماعة المسلمون "التكفير والهجرة"، والقطبيين، الجماعة الإسلامية، والجهاد)- ومحاولة تغييره عنوة واقتداراً.
الأخطر دخول دعاة الطرق -بتعبير الأستاذ العميد د. طه حسين- وهم دعاة يفتقرون للتكوين الفقهى والكلامى الرصين، ومع ذلك دخلوا كطرف فى توجيه العوام وغيرهم فى الشوارع والزوايا والمساجد الضرار، وفى المركبات العامة والقطارات، وامتد دورهم إلى المنازل، وعربات المايكروباص من خلال الأشرطة الدينية والملصقات التى لا تخضع لأى إشراف أو متابعة تحت مسمى الدعوة إلى الله، وكأن المصريين المسلمين لا يعرفونه جل جلاله وعلت قدرته وشأنه ولا يؤمنون به!!
- ساعدت البيئة الدينية المحتقنة على نمو الجدل حول مدى شرعية الدولة الحديثة ونظامها القانونى ونمط الحياة من منظور ذهنية نقلية وسلفية و اخوانية أخذت فى التمدد والهيمنة.
أن نظرة على بعض المكونات التأسيسية للعقل السياسى الإسلامى لدى الإخوان وبعض السلفيين تشير إلى ما يلى من ملاحظات.
أ- السمت اللا تاريخى فى مقاربة الموروث الدينى الفقهى والأفتائى والدعوى الوضعى،
ب- السمت الشعارى الذى يركز على ترويج هذه الأفكار البسيطة، وبدت من خلالهم وكأنها تمثل جوهر الإسلام العظيم العقيدة والشريعة والقيم العليا.
ج- السمت الأختزالى للجوانب المركبة والمعقدة للنظام العقدى والشريعى والقيمى، بهدف الدعوة والانتشار وسط الجمهور والعوام وبعض المتعلمين.
د- الميل إلى الزجر وإشاعة الخوف من السلوك الذى يخرج المسلم من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر، وسهولة استخدام هذه الآلية فى الحكم على الآراء والأخرى أو المغايرة. والأخطر سهولة وصم بعض المثقفين والمفكرين المسلمين بأنهم علمانيين، وتأثيم وتكفير العلمنة والعلمانيين، فى حين أن الأغلبية الساحقة منهم مؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر، وكل الفرائص الإسلامية، ولكنهم لا يريدون تدنيس المقدسات والعقائد بدنس السياسة ومخاتلة السياسيين وبعض رجال الدين الساعين إلى مصالحهم وأغراضهم الخاصة أو التنظيمية، وفى مواجهة سعى بعضهم إلى تحويل الدولة إلى دولة دينية تميز بين المواطنين على أساس تصوراتها الإيديولوجية حول الدين.
هـ- تغلب العقل الدعوة الشعاراتى على العقل الفقهى لاعتبارات التعبئة والحشد وتغيير المجال العام المحاصر وتحويله إلى مجال عام محمل بالرموز والشعارات، والزى واللغة الدينية وهو ما تم بالدأب والحركة والمناورة قبل 25 يناير 2011 حيث سادت الشعارات الدينية حول الحجاب والنقاب والصلاة، والدعوات، وفى كافة تفاصيل الحياة اليومية للفرد.
العقل التسلطي السياسى والديني يكملان بعضهما بعضاً، لأنهما يقومان على عمليات ذهنية ترمي إلى الأمر والنهي، والصواب والخطأ، والحلال والحرام، والمشروع واللامشروع
تراجع العقل الفقهى عموما إلا من بعض القلة من المحافظين لأن تكوينه يحتاج إلى تكوين ودأب وصبر عموماً، فما بالنا بالعقل الفقهى التجديدى.
- العقل الدعوى، لا يحتاج إلا بعض من المعرفة العامة والمبتسرة، وخطاب بسيط ينطوى على تناصات – وتضمينات - بين اللغة الفصيحة القديمة للإيحاء بعمق معرفته وأصالته فى أصول الدين والفقه، مع بعض من اللغة العامية وبعض الأمثولات الشعبية، ونثارات من مخزون التدين الشعبى.
- التمدد السلفى ودعاة الطرق أدى إلى خلق أرضية وبيئة ملائمة لحركة الإخوان، وبعض الجماعات الإسلامية للتحرك والدعوة والتجنيد لأعضاء جدد من الشباب، انخرطوا فى هذه الجماعات.
- أن تراجع مستوى السياسات التعليمية. وهذا التغير السلبي الكبير ساعد على خلق أرضية ملاءمة لتمدد الخطاب الدينى السلفى والإخوانى التأويلى بين بعض الطلاب على نحو ساهم فى امتداد التجنيد الإخوانى والسلفى إلى مستويات عمرية أقل.
- ساهم الأداء الإعلام وأجهزة الدولة الإيديولوجية والأمنية على شيوع خطاب بعض الكتاب ورجال الدين الذين يروجون لما أطلق عليه بعضهم التفسير العلمى للقرآن الكريم، وهى ظاهرة سعى إليها بعضهم بعد ثورة عوائد النفط، وما سمى بدولة العلم والإيمان الساداتية التسلطية.
م- استطاع التيار الدينى عموما خلال أكثر من ثلاثين عاماً مضت الاستفادة من بعض خلل سياسة النظام وأجهزة الإيديولوجية والأمنية فى تحويل بعض أنماط التدين والإيمان المصرى الاعتدالي نحو المزيد من المحافظة والتشدد والتزمت، بعضه كأقنعة وطقوس تخفي وراء بعضها الكذب والخداع والمخاتلة والخروج على القيم الإسلامية السمحاء فى بعض الممارسات والتفاعلات اليومية بين بعض المصريين وبعضهم الآخر..
- أجهزة الدولة الإيديولوجية والأمنية تأسست السياسة الدينية لديها على تصورات موروثة ونقلية عن ميراثها الطويل وتحديداً التقليد اليوليوى وسننه السياسية التى حاولت تأميم الدين الإسلامى لتتلاعب به فى السياسة وبها من خلال بعض رجال المؤسسة الدينية والإعلاميين، وبعض كبار رجال الدين الذين بنوا مكانة لهم مؤثرة على اتجاهات التدين المصرى، وبعضهم كانت لديه بعض الثأرات السياسية مع جمال عبد الناصر ونظامه.
الأخطر أن هذه السياسة اعتمدت على قاعدة لكم المجتمع تحركوا داخله دعويا لكن دون التداخل فى السياسة وعملياتها، ولا التعرض للقرارات الرئاسية والحكومية بالنقد، ومساندة الحكم فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الراديكالية التى تمارس العنف.
من ناحية أخرى تركت كتل اجتماعية واسعة أسيرة لخطابات دينية محافظة ومتشددة، تحول الفكر والخطاب الدينى إلى فكر طقوسي وشكلانى يركز على ظواهر الإيمان وشكلانية الممارسات أكثر من عمق الإيمان الشخصى وتجلياته الأخلاقية فى العمل ومستويات أداءه، وفى العلاقات الاجتماعية فى الأسرة والجيرة وفى الفضاء العام والأهم فى نبذ الفساد، والفاسدين، والنفاق والمنافقين. من ثم ليس غريبا أن نلاحظ أن شكلانية الممارسة الدينية المفرطة تزامنت وتساوقت مع تزايد معدلات الجرائم ضد المال العام والوظيفة العمومية، وغيرها من أنماط الفساد المتعددة وانتهاك أحكام قانون العقوبات وغيره من القوانين.
أن نظرة على حالة دعاة الطرق- أو دعاة الشوارع- وانتماءاتهم الوظيفية والاجتماعية، واعتمادهم على المعرفة الدينية الانطباعية أو السماعية، وبعض من نثارات القراءات فى المتون والخطب المنبرية القديمة. سوف نلاحظ أن بعض هؤلاء يسعون إلى بناء قوة ومكانة فى ظل انسداد مسالك وآليات للمشاركة السياسية أو الحراك الاجتماعى لإعلى، والأهم انغلاق مصادر تجنيد النخبة السياسية الحاكمة، وتحولها إلى نادى خاص مغلق بالإضافة إلى حاشية الحكم الجمهورى السلطانى.
من هنا كان المجال الدينى الإسلامى - والمسيحى الأرثوذكسى أيضا- هو الإمكانية المتاحة لبناء مكانة اجتماعية، وحيازة قوة رمزية بين دوائر شعبية واجتماعية وسطى بكل شرائحها على عديد المستويات.
استطاع بعض هؤلاء الصعود إلى مكانة إعلامية/ دينية من خلال انفتاح السوق الدينى – بالمعنى السوسيولوجى- ودخول فاعلين جدد إلى ساحته حاملين معهم سلع دينية ولغوية ورمزية وخطابات وفتاوى.. الخ، واتسع نطاق الأسواق الدينية العولمية والإقليمية على نحو أدى إلى حالة من التنافس والصراعات فيما بين بعض هؤلاء الفاعلين وبعضهم بعضا. والجدير بالملاحظة أن بعضهم وراءه تمويلات من بعض دول الثراء النفطى بهدف دعم شرعيتها ومكانتها من خلال نمط من القوة الرمزية الدينية المؤثرة، في عملية تمدد نفوذها إلى بلدان عربية إسلامية أخرى.
لا شك أن هذه السياسة الدينية رمت إلى دعم سياسات الداخلية والخارجية بهدف احتواء الدور التاريخى الأزهرى العتيد ودور علمائه فى العالمين العربى والإسلامى.
أدت ظاهرة حرب الفتاوى الفضائية – وفق جميل مطر- والدعاوى السلفية، إلى بروز محفز جديد دفع عديدين من رجال الدين الرسميين وغيرهم إلى اجتذاب بعضهم إلى مجاراة هذا النمط من الخطابات الذاعقة والسجالية.
تحول السوق الدينى الفضائى – على الأقنية التلفازية الفضائية- إلى أداة لتغيير طبائع التدين فى المجتمعات العربية الحضرية الزراعية، وأصبحت جزءاً من صراعات المكانة الإقليمية بين دول النفط ودول الماء، والحواضر المركزية الحديثة فى العالم العربى، وتحولت الصراعات إلى داخل هذه البلدان فى مصر والعراق وسورية ولبنان بفعل استثمار بعض الدول النفطية الثرية.
من هنا انتشر فكر الغلو الدينى وأدى هذا التداخل المصرى "المذهبى" فى هذا النمط من الصراعات إلى تقليل فرص مصر من المناورة وخلق هوامش نسبية للحركة المستقلة فى الإقليم لإستعادة مكانتها ودورها قبل 25 يناير 2001 وما بعده.
لا شك أن هذا التوجه السياسى أثر سلبا على إمكانية المؤسسة الدينية الإسلامية الأزهرية من أن تعاود دورها التأسيسى فى التقريب بين المذاهب الإسلامية فى عهد أستاذنا الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ القمى وسواهم من الفقهاء الكبار. الأستاذ الإمام أحمد الطيب لديه إدراك وتفكير جاد فى إعادة لعب هذا الدور، لكن يبدو أن بعض التضاعط داخل المؤسسة من بعضهم، بالإضافة إلى تأثير السلفية والإخوان ومن والهم من بعض العلماء والطلاب، يعوق الإمام الأكبر من أداء هذا الدور المؤهل له ثقافة وعلما وخلقاً وتدينا صافياً.

ثانياً: أسباب جديدة وراء استمرارية الجمود فى الفكر الدينى
لا شك أن العوامل والأسباب السابقة – وغيرها- أدت إلى تراكم الإعاقات البنيوية إزاء السعى إلى التجديد الفقهى والتأويلى والأفتائى.
سعى بعض هذه الأنظمة لمد نفوذها الدينى إلى داخل مصر من خلال نظام الإعارات، أو فرص العمل المتاحة فى إطار مؤسساتها من خلال دخول مرتفعة، ونمط من الممارسة الدينية على مستوى التدريس أو الفكر أو الإفتاء أدى ولا يزال إلى إعادة تكييف بعضهم مع دائرة وبيئة عمله الجديدة.
كان يفترض أن تدرك الدولة المصرية، والحكومة والرئيس، وقيادات الأزهر آثار هذا المتغير على الأزهر والأزهريين، وعلى الإسلام ونمط التدين الاعتدالى الوسطى التاريخى المصرى. يبدو أن انشغالات الحكم والأزهر مواجهة الإسلام السلفى الجهادى وجماعاته الراديكالية-، مع جمود ران على العمليات التعليمية، وغياب رؤية تنظم السياسة الدينية فى مصر-، أدى إلى عدم متابعة بعض المتغيرات الجديدة، بالإضافة إلى سياسة اللا سياسة التى سادت طيلة أكثر من ثلاثين عاما مضت.
2- ثورة المعلومات والاتصالات والوسائط المتعددة، والأحرى ثورة الواقع الافتراضى أدت إلى تأسيس فضاءات/ مجالات دينية عولمية وإقليمية ووطنية موازية للمجالات الدينية الفعلية.
3- أدت الثروة الرقمية إلى فتح المجال واسعاً إلى أن تكون مركزاً للتراث الإسلامى فى كافة مظانه ومورثاته ومؤلفاته، وميراث المذهب والفتاوى، والآدب.. الخ، بحيث لم يعد المنهج النقلى، وعقلية الحفظ والتلاوة والتكرار صالحة فى التعليم الدينى لأن المؤلفات والتفسيرات والتأويلات والفتاوى يمكن العودة إليها مباشرة ودون وسيط.
4- حريات الواقع الافتراضى بلا أسقف أو قيود أدت إلى بروز مواقع تنزع إلى السخرية والمحاكاة الساخرة – والعياز بالله- للنصوص المقدسة وباتت متاحة، دونما ردود فى العمق لهذا النمط من الإنتاج الإلحادى الساخر.
5- تشظى السوق الدينى الوطنى والإقليمى والعالمى وأثره السلبى على مركزية المؤسسات الدينية الرسمية الوطنية فى الإنتاج الفكرى الدينى الوضعى.
6- أدت فورات الغلو الدينى والتشدد والمحافظة إلى التأثير على بعض الشباب من أجيال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات حتى الآن، وانخراطهم فى ثقافة التشدد والمحافظة كأحد وجوه الاعتراض والاحتجاج الدينى والسياسى والاجتماعى إزاء النظام ومواليه من بعض رجال الدين ساهم ذلك فى ارتفاع وتائر ومستويات نقد وهجاء الأزهر والأزهريين فى مغالاة، وذلك لكى يحل أبناء الجماعات الإسلامية السياسية السلفية والراديكالية والسلفيين والإخوان، محل هذا العدد البارز للأزهريين فى حياتنا الدينية.
من ناحية أخرى تأثر بعض الأزهريين بهذه التوجهات، وتحول الأزهر إلى ميدان لتمدد فكر بعض الإسلاميين الجهاديين، والإخوان.
كما ظهرت ظاهرة الدعاة الجدد، وما سبق أن أطلقنا عليهم "الدعاة الكاجول". أو ما سبق أن أطلق عليهم باحث سويسرى-باتريك هايني- إسلام السوق.
جاء بعض هؤلاء بخطاب دينى يلبى احتياجات فئات اجتماعية معينة، واستفادوا من الثورة الرقمية، والمرئية، وبعضهم وظف إطار من الوعظ الأنجيلى/ البروتستانتى الكاريزماتى كشكل من أشكال التأثير على هذه الفئة من مستهلكى خطابهم الدينى ولتيسير رواجه بينهم.
7- أدت موجات العنف السلفية الجهادية ونظائرها وأشباهها- المتتالية وأجيالها الثلاثة والموجة الرابعة العاتية فى إقليم مضطرب من بعض الفوضى وعدم الاستقرار السياسى، وسقوط دول وانهيار أنظمة، إلى تمدد الفكر الإخوانى والسلفى فى الإطارين المصرى والعربى فى إطار وأعقاب بعض الانتفاضات الجماهيرية ذات النفس الثورى التى أجهضت إلى وثوبهم إلى السلطة عبر الآليات الانتخابية فى ظل توافقات دولية – أمريكية وأوروبية- وداخلية مع السلطة الفعلية التى أدارت شئون البلاد.
لا شك أن ذلك فتح المجال لبعض النوازع لدى بعض رجال الدين وداخل البيروقراطية والمعارضات إلى تبنى بعض من الخطاب الدينى الإخوانى والسلفى، وذلك كمدخل للحضور فى مشاهد الإسلام السياسى فى السلطة وسعيا إلى انتهاز بعض الفرص أو المزايا والمواقع. من ناحية أخرى حاول بعضهم أن ينقل ولاءاته وعلاقاته فى إطار الدولة والنظام وأجهزته إلى السلطة الجديدة من خلال تأييدها ودعمها من خلال بعض من الخطاب الدينى على نحو ما رأينا من توظيفات سياسية للإسلام. الأخطر لجوء بعض الفاعلين فى المجال الدينى المصرى إلى منطق المزايدات البينية فيما بينهم، لإظهار وجوههم الأكثر حرصا على الإسلام وعقيدته وشريعته على نحو لا يفسر إلا من خلال إظهار كل فاعل دينى/ سياسى أنه الأكثر تعبيرا وتمثيلاً له عن الإسلام، والأخطر أن ذلك لم يقتصر على التيارات الإسلامية الأساسية، وإنما فتح الباب أمام بعضهم لتطبيق تصوراته الوضعية عن الشريعة والقضاء الإسلامى خارج قانون وقضاء الدولة.
 
لا شك أن ذلك أثر سلبا لبعض الوقت على وضعية الأزهر ورجاله، حتى هبّ شيخه الجليل ومعه بعض معاونيه فى مدّ أواصر الحوار مع بعض كبار المثقفين وصدرت الوثائق الثلاث ذائعة الصيت بكل آثارها الإيجابية حول هيبة ومكانة الجامع العتيد والعريق فى مصر والعالم الإسلامى.
أن مشاركة الأزهر عبر الشيخ الأكبر د. أحمد الطيب فى ترتيبات المرحلة الثالثة فى أعقاب أحداث 30 يونيو 2013، أدى إلى إعادة تجديد أواصر العلاقة بين المؤسسة وبين الدولة كجزء من أجهزتها الإيديولوجية من هنا يرى بعضهم أن ذلك يعنى أنها فرصة مواتية لدور لهم فى علاقات القوة ومن ثم تحسين مواقع المؤسسة فى بناء القوة فى إطار سلطات الدولة وأجهزتها ومؤسساتها.
8- أدى الاضطراب السياسى والمهنى، ومألات العملية الثورية المجهضة، وحالة الانفلات وعدم الانضباط فى السوق الدينى والفاعلين داخله، وحروب الفتاوى - وبعض الممارسات العنيفة لبعض المحتسبين الجدد وموجات العنف الطليق ذو الوجوه والأقنعة الدينية-، إلى بعض من الجفاء، والرفض من بعض الشباب لهذا النمط من الخطاب والممارسة الدينية على نحو جعل بعضهم يتحول إلى اللا أدرية أو الألحاد والعياذ بالله.
أن السياسة الدينية رمت إلى دعم سياسات الداخلية والخارجية بهدف احتواء الدور التاريخى الأزهرى العتيد ودور علمائه فى العالمين العربى والإسلامى
أن بعض الخطاب الدينى حول اللا أدرية، والألحاد يتسم بالتقليدية واللجوء إلى المقولات والأطروحات النقلية، دونما درس للظاهرة وأسبابها وحدودها، ودرس خطابها اللا أدرى والألحادى وبنيته ومرجعياته، وفى أى وسط اجتماعى زاعت هذه الأفكار.. الخ، وفى ظل أى سياقات وأسئلة، وأين الخطأ فى هذا الخطاب الدينى المضاد للإلحاد.
9- أحد أخطر المتغيرات الجديدة فى الإقليم العربى المضطرب هو ظهور بعض التنظيمات الإسلامية السلفية الجهادية المقاتلة وبموجات من العنف الطليق والوحشى كما يظهر فى الحالة الليبية، وفى تنظيمى النصرة، والدولة الإسلامية فى سورية والعراق (داعش).
10- منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضى برز متغير جديد يتمثل فى تشكيل بؤر جديدة للسلفية الجهادية فى بعض الدول الأوروبية بين شباب الضواحى المسلم الذى فشلت في تكامله وانخراطه في نمط الحياة سياسات الاندماج الداخلى.
المتغيرات الأصلية والفرعية السابقة وغيرها عقدت من المهام المنوطة بإمكانية تجديد العقل والفكر والخطاب الإسلامى.
ما العمل؟ حاولنا فى عديد الأحيان أن نطرح بعض المقترحات فى إطار رؤية واقعية تتفهم منطق المؤسسات والفواعل الرئيسة فى إطارها، ومنطق الدولة وإدراكات النخب على نحو واقعى وعملى، وسنحاول سعيا وراء تطوير وتجديد الأزهر العريق- التاريخ والميراث والدور الوطنى المصرى- والدولة المصرية مراضاة لوجه الله ومصر العزيزة التي تسكن داخلنا، والتى لم نتصور قط إلا أن نكون مصريين أن تقدم بعض من المقترحات الأولية حولها.

ثالثا- مدخل الأسئلة، وبعض من الإجابات
السؤال الرئيس الذى نطرحه هل يمكن فصل المقدس عن الوضعى وتجلياته فى الحياة اليومية المصرية، وفى الإقليم وعالمنا المعلوم وأسواقه الدينية واللغوية والسلعية؟
هل يمكن فصل أنماط التدين وسلوكياته وإدراكات المؤمنين للدين – إسلاميا ومسيحيا ويهوديا وغيره من الأديان الوضعية الأخرى – عن محددات العصر وشروطه وبيئاته!
هل أنماط التدين الاعتقادى والطقوسى والرمزى هى رهينة رجال الدين ومؤسساته وسلطاته فقط؟ هل يحتكر هؤلاء أيا كانت دياناتهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم، سلطة تحديد حدود الصواب والخطأ وما بينهم من مساحات وأطياف للتدين؟
اللغة العنيفة التى تبدو فى بعض الخطابات أحيانا كمتفجرات وحاملة فى حناياها الأحكام المطلقة أو الصارمة- التى تسود بعض خطابات رجال الدين -هى تعبير عن حيوية ودفاع عن العقيدة والإيمان؟ أم أنها تحمل وتعبر عن دلالات أخرى من بعض الفشل حينا والعجز أحيانا أو تجاوز الواقع الاجتماعى والإيمانى لهم؟
هل تشكل الثقافة الدينية الموروثة والسائدة عقبة إزاء أية مشروعات فكرية للتجديد الدينى والإيمانى؟
هل ثمة إمكانية لمسعى تجديدى فى بنيات الأفكار الدينية بعيدا عن فهم طبيعة اللحظة التاريخية وشروطها ومحمولاتها وسماتها؟
هل يحدث التجديد سريعا ومن خلال تقديم مقاربات – منهجيات- جديدة؟ هل الأفكار الجديدة قادرة على أن تشق مسارات لها فى إطار السلطة الدينية ورجالها، وفى دوائر المؤمنين بهذا الدين والمذهب أو ذاك؟
ثمة تداخل بين تجلى وتعالى المقدس المنزه عن الدنس والخطايا اليومية للمؤمنين به، وتفسيرات ومصالح رجال الدين والسلطة والحكام، وذوى الثروة والمكانة والنفوذ، وذلك وفق النظام العقيدى والإيمانى، لكن حركة المقدس/ المثال فى الحياة، تبدو فى عديد الحالات التاريخية رهينة سلطات التفسير والتأويل والتقعيد التى يقوم بها رجال الدين والسلطة الحاكمة، وطبيعة المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتى تحركهم بوصفهم بشراّ ذوى نوازع وتطلعات ومصالح وأهواء – لدى بعضهم-، من هنا ما يقدمه رجال الدين وسلطاتهم يشكل أحد محددات نظام التدين –والوضعى الدنيوى حوله- السائد فى مرحلة تاريخية ما.
لا نستطيع أيضا إغفال أن بعض الصراعات التفسيرية والتأويلية بين بعض رجال الدين عموما، تعكس صراعات مكانة ومصالح وسياسة فى بعض الأحيان.
أن الأبنية التفسيرية الوضعية/ البشرية حول العقائد والشرائع يتداخل فيها الأصولى مع الأنسانى، وبما لا يمس المقدس فى تعاليه وتنزهه، لكن الطبع البشرى/ الوضعى ومحمولاته من المعرفة والمصالح والصراعات، قد تؤدى إلى غلبة هذه المحددات والشروط التاريخية والمجتمعية والسياسية على هذه التفسيرات، وصراعات التأويلات بين رجال الدين وغيرهم.
أن الإسلام العظيم لا يؤسس لمؤسسة دينية ولا لسلطة داخلها تحتكر النطق باسم الله سبحانه وتعالى – علت قدرته وجل شأنه-، ومن ثم لا يوجد بين المسلم المؤمن ورب العزة سبحانه أى وسيط أيا كان، ورجل الدين- الفقيه والداعية والمفتى- لا يعدو كونه إنسانا ومؤمنا مثله مثل غيره من المؤمنين، ومن ثم ليس له سلطة على ضمائر وأرواح وإيمانات الجمهور المؤمن.
من هنا يبدو أن أية محاولة لإدعاء احتكار الحقيقة والأحرى الحقائق الكلية المطلقة حول الوجود والحياة والعدم فى التصور العقدى الإسلامى هى محض تفسير عقدى أو كلامى أو شريعى أو تأويلات حوله وتُعد بشرية بامتياز أيا كانت تحيزاتنا واقتناعنا برأى بعض أكابر الفقهاء المؤسسين للفقه والتفسير.
من هنا تبدو خاطئة أى محاولة من بعضهم فى دائرة الأزهر الشريف أو خارجه من الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية للهيمنة على سلطة التفسير والتأويل واحتكار المجال الدينى، والسيطرة عليه.
أدى هذا الاتجاه إلى المساعدة على الجمود فى الفكر الدينى، ومحاصرة المجديين. (أنظر على سبيل المثال حالة أستاذنا الشيخ عبد المتعال الصعيدى أعظم فقيه فى القرن الماضى كله، وأنظر إعاقة مشروع الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغى فى ولايته الأولى للأزهر وتراجعه جزئيا عن بعضه فى ولايته الثانية للمشيخة) هذا الاتجاه أدى تاريخيا – ولا يزال- إلى آثار سلبية، وتتمثل فى وجود فجوات بين بعض هؤلاء وبين المؤسسة ومن هم خارجها وبين حركة الحياة، وكلما تعقدت المشاكل وتكالبت أسئلتها على الجمهور المسلم، اتسعت الفجوات، وهو ما أدى إلى جمود وتكلس الفكر الدينى المحافظ والمغالى، ومن ثم إلى عدم القدرة على مواكبة متغيرات الزمان والمكان والبشر والتاريخ، وهو ما أدى إلى بروز تناقض بين المسلم وزمنه وعالمه، والأخطر بروز عملية تحول دينى أو نكوص عن الدين على نحو لا أدرى، أو إلحادى كما حدث ولا يزال بين قلة قليلة جداً من الشباب، وهو ما يكشف عن قصور فى بعض الفكر والخطابات الدينية السائدة مصرياً، وفى الإقليم، وعلى المستوى العولمى.
أن جمود اللغة ومناهج مقارباتها، وأساليبها، تشير إلى جمود الفكر لأن اللغة هى العالم والفكر ذاته، وليست محض أداة، و حاملة للفكر. ومن ثم يتجلى جمود الفكر فى اللغة.
من هنا نستطيع أن نلمح أن شيوع بعض اللغة العنيفة أو اللغة المتفجرة بالعنف والحدة والحسم لدى بعضهم من رجال الدين وغيرهم من المثقفين هى تعبير عن لغة خشبية لا تبين، وإنما هى تعبيرات دفاعية عن مواقع ومكانات اجتماعية يشعر بها بعضهم ويدركها على أنها تشكل خطراً عليهم، لاسيما إذا كانت هناك لغة جديدة وخطاب مختلف، ومقاربة ومنطق مختلف عما ألفه بعضهم من المثقفين ورجال الدين.
أن دينامية أى نظام فكرى- أو بنية فى منظور آخر- تعتمد على مدى إدراك ووعى ومعرفة المفكرين والفلاسفة والمثقفين ورجال الدين لطبيعة اللحظة التاريخية وسياقاتها وشروطها وإدراكهم ووعيهم البصير للوقائع والظواهر ودلالاتها ومحاولة استيعابها عبر تفكيكها وتحليلها وتفسيرها
السؤال الذى يطرح نفسه هنا، كيف يمكن بناء سياسة دينية جديدة دون أن تكون هناك دراسات وبحوث علمية ولسانية وخطابية ومرجعية حول الأسواق الدينية الوطنية والإقليمية والعولمية؟ كيف؟
كيف يمكن البدء بإصلاح أو تجديد فى التعليم الدينى دونما دراسة للوضعيات الحالية للسياسة التعليمية عموماً – الدينية والمدنية- فى ظل تدهور تاريخى وخطير على وضعية مصر الدولة والمجتمع والمكانة والرسالة؟
هل هناك دراسات حول كيف تطورت الدراسات الدينية الفقهية واللاهوتية فى تعليم الأديان المقارنة؟
هل تمت دراسات حول التغيرات فى التنظيرات والدراسات الاستشراقية المعاصرة حول الإسلام، وما هى التخليطات فيها؟
هل أجريت دراسات حول الأجهزة الإيديولوجية والنظم الفكرية والفقهية للجماعات الإسلامية السياسية، والجهاديات السلفية وحول القاعدة وداعش والنصرة وبوكو حرام ونظائرهم وأشباههم؟ هل تمت دراسة الأطر المرجعية لها، ولماذا تشكلت، وما هى بنياتها التعليمية، ونظم التجنيد والحشد والإفتاء، والتنشئة داخلها!
هل تمت دراسة أوضاع الإسلام فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا، وفى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ ما هو الفكر والقيم والاتجاهات السائدة بينهم؟ وما هى أسباب عدم اندماجهم فى بعض هذه المجتمعات؟
هل هناك اطلاع على اتجاهات علم الاجتماع الدينى الحديثة نظرياته وتطبيقاته المعاصرة؟
ما سبق مجرد أمثلة على أسئلة تحتاج إلى إجابات صريحة، ومن ثم تتطلب إجراءها مع غيرها لكى يستطيع من يتحدث عن تجديد وإصلاح للفكر أو الخطابات الدينية أن يتحدث أساسا عن معرفة وعمق دون مبالغة أو إدعاء.
أن الخطابات الدينية التقليدية الدفاعية والقدحية السائدة لا تعكس سوى محاولة إخفاء مهام لم يتم النهوض بها حتى الآن! من ناحية أخرى لن تؤثر الاتهامات –التى يطلقها بعض رجال الدعوة- أو بعض التشكيك فى إيمانات بعضهم لأنهم يثيرون بعض الأسئلة أو بعض التناقضات فى الفكر والفقه والدرس الدينى الوضعى، ولن تعدو مظلة التكفير والازدراء سوى محاولة إخفاء مهام لم يتم النهوض بها حتى الآن! من ناحية أخرى لن تستطيع الاتهامات أن تحدث أى تغيير، وإنما ستفاقم المسألة الدينية المستمرة واحتقاناتها.
ما هى معالم لحظات التغير والتحول التاريخى الراهنة التى يتعين علينا استيعابها، ونحن نحاول بناء رؤية كلية تؤدى إلى بناء سياسة دينية، تساهم فى تجديد الفكر الدينى وتعليمه ومناهجه وإنتاج خطاباته التجديدية؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه فى طريقنا إلى مواجهة عقبات الطريق والسعى إلى بعض التصور حول رؤيا تؤسس عليها سياسة دينية جديدة، فى الجزء التالى.

رابعا- العوالم ما بعد الحديثة والأديان:
يذهب الفيلسوف الفرنسى ﭼـى ديبور فى مجتمع الاستعراض- الفرجة فى أحد الترجمات العربية الجيدة عن الترجمة الإنجليزية لأحمد حسان- أن كل ما هو حقيقى يتراجع لصالح الاستعراض الذى أصبح سمت حالة تحول وصيرورة من الحديث والحداثة إلى ما بعد- وما ينطوى عليه من تداخل بين الما قبل والما بعد-، ومن ثم نستطيع فى إيجاز يحمل فى أعطافه بعض الاختزال أن تحدد الخطوط العريضة للتغير فيما يلى:
1- أدت التحولات ما بعد الحديثة إلى انهيار السرديات الكبرى- وفق جان فرنسوا ليوتار فى الشرط ما بعد الحديث- ومعها الإمبراطوريات الإيديولوجية الكبرى، وعلى رأسها الماركسية السوفيتية وتفككها ونشوء دول عديدة على أنقائضها أخذت بطريق التحول الرأسمالى، والخيار الليبرالى.
2- ترتب على التفكك والتشظى فى بنيات السرديات الكبرى والأفكار الكلية إلى بروز واحدة من أزمات المعنى للمجتمعات التى انضوت تحت لواءها، والتى انكسرت عُرىِّ اندماجاتها وتكاملها فى ظل السردية الكبرى، ومن ثم المعانى والحقائق المستمدة منها. أدى هذا التغير الكبير إلى سعى هذه المجموعات الجديدة إلى البحث عن معانى لها – ومن ثم توازنات جديدة- فى بنياتها ومكوناتها الأولية، أو فى معانى جديدة مختلفة. (أنظر مؤلفنا، الوجه والقناع، سيشات للدراسات القاهرة 1992).
3- مع محاولة الولايات المتحدة ودول المجموعة الأوروبية البحث عن عدو جديد – لشد عضد مؤسساتها، وصناعاتها العسكرية والإيديولوجية والمالية- كان الإسلام هو موضوع هذا العدو الجديد، وهو تقليدا استشراقى وسياسى استخدمته الولايات المتحدة نقلا عن الاستشراق وتقاليده وسياساته البريطانية فى توظيف الدين والجماعات الإسلامية فى مواجهة الحركات الوطنية .
4- قامت الولايات المتحدة – إدارة أوباما- ودول المجموعة الأوروبية الفاعلة باتخاذ مواقف لجماعة الإخوان المسلمين كمركز من أجل إعادة صيانة وجه الإقليم والجغرافيا السياسية والدينية على أسس مذهبية، تؤصل لدمج إسرائيل فى نظام الشرق الأوسط فى إطار تسوية تاريخية بغطاء دينى ومذهبى من الأكثرية السنية بقيادة الجماعة.
5- بعد فشل المشروع السنى المذهبى الجامع حول الأخوان فى مصر والنهضة فى تونس والفوضى القبائلية والمناطقية والدينية المذهبية فى ليبيا مع سقوط الدولة، تحاول الولايات المتحدة الاعتماد فى عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية وريثة اتفاقية سايكس بيكو، على إيران ودورها الإقليمى المتمدد والمتزايد من خلال الاتفاق النووى المزمع عقده بين أطرافه.
هذه السياسة تريد أن تحقق عديد الأهداف أولها: التعامل مع حليف إقليمى قوى هو إيران، وإثارة مصادر الخوف لدى دول الخليج وشبه الجزيرة العربية، من خلال بعض التطمينات كما حدث مؤخرا فى مؤتمر كامب ديفيد، وهو ما سوف يؤدى إلى فتح أبواب التسليح وتحريك تجارة السلاح الأمريكية وتنشيطها من خلال بيع أنظمة تسليح دفاعية لهذه البلدان.
ثانيها: استمرارية الحروب الإيديولوجية الساخنة بين الأطراف الإقليمية داخل دائرة الإسلام الديانة والمذاهب على نحو سيؤدى إلى المزيد من الاستعراضات الإيديولوجية والمذهبية بين الإسلام السنى الأغلبى/ الأكثرى، وبين الإسلام الشيعى/ الأقلى.
انطلاقا مما سبق نستطيع القول أن حرية الاختيار بين السلع الدينية- وفق المفهوم السوسيولوجى الدينى-، معتمدا فقط على ما يطرحه الأزهر ونظائره فى الإقليم، ومن ثم إمكانيات الهيمنة والسيطرة على المجال الدينى بل وعلى وحدة جهة إنتاج الفكر والخطاب الدينى، قصراً على هذه المؤسسات.
سيؤدى هذا التغير إلى إضعاف قدرة الدول والأنظمة السياسية- أيا كانت طبيعتها- على صياغة سياسة دينية وإيديولوجية ورمزية تحقق أهدافها فى الحكم، وفى استخدامات وتوظيف الدين فى السياسة والاجتماع كأحد أدوات الضبط السياسى والاجتماعى.
ثالثها: أدى اتساع الفاعلين الراديكاليين ما دون الدولة- حزب الله، حماس، والنصرة وداعش والسلفيات الجهادية- إلى لعب أدوار متزايدة ومؤثرة فى السياسة فى بلدان المنطقة كسورية والعراق واليمن وليبيا.
2- بعض النظم السياسية الدينية المذهبية أدت إلى عديد من الظواهر الجديدة:
أ- انفصال بعض الدول كالسودان إلى شمال وجنوب وتفكك بين غرب وشرق السودان والوسط النيلى.
ب- نشأة شبه دولة داعش داخل أراضى فى العراق وسورية، ولها موارد نفطية، وعتاد عسكرى متطور، وكوادر مدرية من الجيش العراقى فى ظل حكم صدام حسين، وموارد مالية نهبت من المصارف.. الخ.
ج- بروز نموذج الدولة الهشة ما دون الدولة القومية، وساعد الخطاب الدينى السلفى الجهادى على تفكك بعضها، وعدم قدرتها على حماية كامل إقليمها وترابها الوطنى.
د. لجوء بعض دول الجوار الإقليمى العربى كتركيا إلى استخدام المذهب السنى كقناع مذهبى للتحرك السياسى ومدّ النفوذ إلى دول الإقليم العربى.
و- أصبح الإسلام المذهبى أحد أدوات أزمات الدولة فى الإقليم العربى والإقليم الشرق أوسطى.
سادساً: تؤدى عمليات وصيرورات الشرط ما بعد الحديث والعولمة إلى جدل بين التشظى وإعادة بناء الجوامع الكبرى فى السرديات الكبرى، والصغرى، وإلى بروز نمط من المحاكاة الساخرة للأديان الكبرى والصغرى، حيث يحاول بعضهم – والعياذ بالله- أن يطرح بعض النصوص النقيضة والساخرة من النصوص الدينية- المقدسة فى الإسلام والمسيحية واليهودية-وبذات البنية واللغة، ولكن على نقيض معانيها السامية والمتعالية والمنزهة.
1- بحث الجمهور المؤمن – والأفراد- عن ولاءات صغرى وانتماءات وحضور داخلها تتجاوز الجوامع الكبرى المتجاوزة للأفراد والجماعات والهويات الصغرى. وذلك فى ظل نزوع لدى غالب الحركات الإسلامية السياسية والراديكالية الجهادية والعنيفة إلى السعى بالقوة والعنف الوحشى إلى تأسيس مفهوم الخلافة الإسلامية
2- تزايد الصراعات والمنافسات بين المؤسسات الدينية الكبرى وذلك بعد تحولها إلى فواعل فى الحياة العولمية، بين بعض المؤسسات الإسلامية السنية والشيعية، وبين الكاثوليكية والبروتستانتية.. الخ، مع تمدد بعض الأديان الوضعية كالبوزية فى سلاسة حتى فى داخل الدول الأكثر تقدما فى شمال العالم كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض الدول الأوروبية، ويعود ذلك إلى بناءها العقدى والطقوسى الناعم، واعتمادها على التجربة الإيمانية الداخلية للإنسان / الفرد.
أن مشاركة الأزهر فى ترتيبات المرحلة الثالثة فى أعقاب أحداث 30 يونيو 2013، أدى إلى إعادة تجديد أواصر العلاقة بين المؤسسة وبين الدولة كجزء من أجهزتها الإيديولوجية
خامسا- نحو سياسة دينية تجديدية

السياسة الدينية هى مجموعة القيم الأساسية والأهداف والغايات التى ترمى إلى تجديد الفكر والتعليم والمناهج والمؤسسات الدينية والمنظمات الدينية الطوعية- الأهلية. والاستراتيجيات العملية التى تؤدى إلى تحقيق هذه القيم، وآليات العمل والتنفيذ.
بادئ ذى بدء لابد من القول أن التجديد فى الفكر والتعليم والمؤسسات الدينية لا يعدو أن يكون إصلاحا فى هذه البنيات والهياكل، وليس من قبيل التغيير الثورى بكل مترتباته على عكس ما قد يشيع لدى بعضهم خطأ أن التجديد هو ثورة، وهو خلط شائع وغير دقيق علمياً.
ب- التجديد هنا المقصود به بنية العقل والفكر والخطابات الدينية الوضعية / البشرية إنتاجا وتفسيرا وتأويلا وتأصيلا للمقدس والسنوى والوضعى فى بنية الإسلام الكلية العقيدة والقيم والشريعة والطقوس والممارسة الفردية والجماعية.
ج- أطراف عملية وضع السياسة الدينية وتنفيذها يتمثلون فى الدولة وأجهزتها، والمؤسسة الدينية الأزهرية، والمنظمات الطوعية "الأهلية" العاملة فى المجال الدعوى والتعليمى والرعائى، والجماعة الثقافية من المفكرين والمثقفين، والجماعة الصحفية والإعلام المرئى والمسموع الرسمى، والخاص والمؤسسات التعليمية والجامعية الرسمية والأهلية.
والسؤال الذى نطرحه هنا هل يمكن جمع هذه الأطراف معا لوضع هذه السياسة الدينية الجديدة؟ وهل يستطيع هؤلاء التوافق لبلورتها وأين دور الجماعات والأحزاب السياسية والدينية فى هذا الإطار؟
يبدو لى -وأرجو ألا أكون مخطئا – فى ضوء التوازنات والصراعات بين الأطراف الفاعلة فى المجال الدينى الواقعى، وتاريخ علاقة الدولة بالدين والجماعات الإسلامية السياسية فى مصر، أنه من الصعوبة بمكان فى هذه اللحظة القلقة والحرجة فى التطور السياسى المصرى، أن تشارك غالب الأطراف الفاعلة فى المجال الدينى فى وضع سياسته الدينية التجديدية أو الإصلاحية،
- ثمة ارتباط جدلى بين التجديد فى الأبنية الفكرية وبين مدى توافر الحريات العامة، وحماية الدولة لها دون انتهاكها، أو تأميمها ومصادرتها من خلال أجهزة القمع السياسى والأمنى والإيديولوجى. من الشيق ملاحظة أن التجديد لدى بعض الأزهريين كان تعبيراً عن المرحلة شبه الليبرالية والمجتمع شبه المفتوح، وثقافة المدينة الكوزموبوليتانية، وتراجع هذا التجديد وانكسرت قوادمه عندما دهمت المدن الكبرى- القاهرة والإسكندرية- أشكال الترييف وتزايد ظاهرة الاستقطاب الحضرى، مما أدى ذلك إلى ترييف للمؤسسات الدينية والمدنية والأخطر ترييف وسلفية بعض الجماعات الإسلامية السياسية، ومنها جماعة الإخوان والأزهر والسلفيين.. الخ. تأثر الإنتاج الفقهى والتفسيرى والتأويلى بالتسلطية الدينية ربيبة التسلطية السياسية التى سادت طيلة أكثر من ستين عاما مضت. من هنا تشكل بيئة الحريات عموما، والدينية والفكرية خصوصا أحد محركات التجديد فى بنية العقل والأفكار الإسلامية، وهو أمر سيتوقف على مسارات التطور الديمقراطى فى مصر، ومألاته.

- اتساع الأسواق والسلع الدينية عولميا وإقليميا ووطنيا يحتاج إلى دراسة هذه الأسواق وفاعليها ومواقعها وخطاباتها.

1- صياغة أى منظومة – أو منظومات- قيمية تستهدف السياسة الدينية الجديدة تحقيقها، لا يعنى كما وسبق أن ذكرنا انفصالها القطعى عن مجمل الموروث التاريخى، ولكنها تحاول البناء على بعض أعصاب الحيوية والديناميكية التى يحملها بعض هذا الموروث، والأقسام الأخرى لا يعنى التجديد إلغاءها، وإنما ستبقى جزءاً من الدرس النقدى الدينى التاريخى حول تطور نظم الأفكار الإسلامية، من خلال المناهج والمقاربات التحليلية التاريخية ذات المناحى النقدية.

2- ثمة ميل عولمى التوجه نحو صياغة منظومة من القيم الكونية المشتركة العابرة للثقافات والأعراق والقوميات والجغرافيا السياسية، ومعها قيم دينية مشتركة لدى كافة الأديان والمذاهب السماوية والوضعية وهناك عديد من المؤتمرات، والوثائق العولمية يتعين درسها وإدراج غالبها ضمن السياسة الدينية لأنها لا تخالف العقيدة والشريعة والقيم الإسلامية الفضلى.

3- دعم الحقوق والحريات العامة والشخصية وأجيال حقوق الإنسان وعلى رأسها حقوق المواطنة بأجيالها كافة، والحق فى الخصوصية وحمايته ضد أى شكل من أشكال الانتهاكات.

4- معصومية الجسد الإنسانى ضد الانتهاك والتعذيب والحط من الكرامة والإهانة أيا كانت الأسباب.

5- احترام مطلق الإنسان وحقه فى الحياة سواء كان مسلما أو غير مسلم لأنه وديعة الله فى الأرض.

6- دعم حقوق الأقليات الدينية فى إطار مبدأ المساواة والمواطنة.

7- تأكيد القيم الوطنية المصرية المنفتحة على تعددها وعلى الإنسانية.

8- احترام الهويات الوطنية الجامعة ومكوناتها الهوياتية الأخرى والعمل على تمثيلها وتعبيراتها عن ذواتها الجماعية ثقافيا ورمزيا وسياسياً.

9-احترام التطور التاريخى المصرى – والعربى- ومكوناته دون الحط من شأن أى مرحلة تاريخياً.

10- التركيز على قيم التسامح، والأخاء، والحرية، والإرادة الحرة والمسئولية الفردية والجماعية، واحترام المجال الخاص عموما وحرية الحركة داخله. دونما تنصت أو تلصص أو أشكال الانتهاكات الأخرى من الدولة وأجهزتها، أو أى جماعة، أو أى من المجموعات والأشخاص.

11- تأثيم ازدراء الأديان، والأفكار، أو أى أشكال تخوين الآراء المغايرة، أو تكفير المغايرين والمخالفين فى الرأى والتوجه.

12- التأكيد على حرية البحث العلمى الاجتماعى والتاريخى، وحرية الفكر فى مجال دراسات التاريخ الدينى والمذهبى متى اعتصم بالأصول ومناهج البحث العلمى.

أن القيم والمبادئ سابقة السرد على سبيل التمثيل لا الحصر.

سادسا- محاور التحرك، ومحركات التجديد

لا تحرك دون وعى موضوعى وتاريخى بأن ثمة مسألة دينية وأعطاب تتصل ببنية العقل الإسلامى عموما والمصرى خصوصا، وفى الفكر ومناهج مقارباته للظواهر والمشكلات والإشكاليات التاريخية والحديثة والمعاصرة، وأن ثمة بعض التواطوءات بين العقل/ الفكر/ المؤسسة والسلطة وذوى السلطان والشوكة، وأن ذلك أثر سلبا على صورة وصدقية بعض عناصر داخل المؤسسة الدينية الرسمية. أن التجديد فى الفكر والمناهج لا يعنى قط الانفصال عن موروثنا التاريخى، وإنما هو جزء من مقاربات المنهج التاريخى النقدى لأنه يتصل بالوضعى ومحمولاته ومنتجيه من رجال الدين والسلطة والبشر ومصالحهم وأسئلتهم. من هنا يبدو لى أن التحرك يبدأ على عديد المستويات نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلى:

الدولة المصرية وأجهزتها هلى الطرف الفاعل الرئيس فى المجال الدينى- أو الحقل الدينى إذا شئت استعارة بورديو-، ولديها تاريخها ورأسمالها السياسى والدينى الذى تتوارثه أجهزتها فى علاقة الدولة بالدين، والسياسات العامة وشرعية دولة ما بعد يوليو عام 1952. ترتيبا على ذلك يتعين وضع هذا المحمول السياسى التاريخى فى الاعتبار. من ناحية أخرى على الدولة وأجهزتها أن تدرك أن الدين ليس حكراً عليها، وإنما يتصارع على استخداماته السياسية عديد الفاعلين، وكل يحاول تعزيز مكانته السياسية وتمدده داخل الأوساط الاجتماعية المصرية المختلفة، وإزاء مواقع القوة وشبكاتها حول الدين وتأويلاته وفقهه، فى مواجهة الدولة وأجهزتها بما فيها المؤسسات الدينية الرسمية- (الأزهر الجامع والجامعة، والأوقاف، ودار الإفتاء)-، وعندما تعترى الدولة والسلطة الحاكمة بعض من الوهن البنائى، ويزداد طلبها على دور المؤسسات الدينية الرسمية فى مواجهة الفاعلين الآخرين، غالبا ما تحاول هذه المؤسسات دعم مكانتها وفرض بعض شروطها، وهى أمور من مألوف عمل الدولة – أيا كانت- ومؤسساتها والنزاعات داخلها وعليها.

من هنا على الدولة وأجهزتها الرمزية والأمنية مراجعة نقدية لسياستها واستراتيجياتها الدينية طيلة عقود طوال منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين، وحتى الوضع الحالى فى مصر والإقليم العربى والعالم.

ضرورة تخفيض مصادر التوتر والمنافسة بين أجهزة الدولة وضرورة التكامل والتنسيق بين هذه الأجهزة فى وضع السياسة الدينية – مع الطبقة السياسية الحاكمة- و استراتيجياتها وآليات عمليها، وتحديد مصادر التهديد الدينى والسياسى.

الدولة المصرية والمؤسسات الدينية المصرية السنية الأشعرية ورأسمالها الدينى التاريخى مع الإسلام المصرى، أكبر من التمذهب الدينى/ السياسى بين أهل السنة والجماعة والشيعة الأثنى عشرية، والزيدية وأنصار الله.. الخ، لأن الوعاء الدينى الوطنى قدراته على الهضم والتسامح والحركة فى إطار المدارس الإسلامية قاطبة اتسم بالديناميكية والحيوية الدينية، وبناء جسور الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية. هذا الفائض الدينى التاريخى يعطى للدولة المصرية هامشاً للحركة فى الإقليم، وإعادة ترميم بعض من التفكك والتأكل والأنكسار والانقسامات بين عديد من الدول العربية والجماعات الإسلامية السياسية، ويساعد على تقويض سياسة الولايات المتحدة وحلفائها وزبائنها فى الإقليم من توظيف وتوسيع الانقسامات داخل الدائرتين العربية والإسلامية. ما سبق يشكل مدخل حركة وفعالية للسياسة المصرية فى الإقليم، ويعطيها إمكانية كبيرة لأن تكون جسرا جادا وأصيلا للحوار بين الأديان والمذهب بكل تأثيرات ذلك الإيجابية على القوة الرمزية الناعمة لمصر ورسالتها فى الإقليم والعالم.

- إن الأزهر الجامع والجامعة لعبا دوراً تاريخياً فى مواجهة حركات العنف والتشدد، وفى هذا الإطار ربما يغيب عن بال كثير من الباحثين ورجال الدين والمثقفين، مبادرتين هامتين الأولى، الرسالة التى بعث بها الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود إلى المحكمة العسكرية العليا أثناء نظر قضية جماعة "المسلمون" – المعروفة إعلاميا بالتكفير والهجرة- والثانية، نشرت فى عهد الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق، فى مؤلف ضخم اسمه "هذا بيان للناس". ثم أن هناك جهودا فردية من مثيل د. محمد رأفت عثمان ومؤلفه حول الأفكار التكفيرية، وقبله جهد الأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبى فى رده على أفكار شكرى مصطفى التكفيرية ودحضها وتفنيدها وإثبات إنها على خلاف رأى جمهور الفقه. من أسف حجبت بعض هذه الجهود المبرزة، وكان الأولى أن تتصدر المواجهات الفكرية مع جماعات الغلو والتشدد والتزمت والإرهاب، إن هذه الأعمال لابد وأن يعاد درسها وتطويرها واستكمالها، وتقديمها للمتخصصين وللناس.6- قيام المؤسسة وقادتها من العلماء والمتخصصين فى العلوم الاجتماعية بدراسة علمية عن واقع الخطاب الدينى السائد، وكيفية تطويره من داخله وبأيدى أهله، وليس انصياعا لأحد. وبدأت محاولات مشكورة من وزير الأوقات وصدرت فى كتاب، ومن الإمام الأكبر المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوى وصدرت فى كتيب، وهى بداية محدودة وأولية على طريق طويل ولابد من تطوير هذه المحاولات واستكمالها.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟