المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

نحو إطار تفسيرى: أسوان من الخلاف العائلى إلى ممارسة الإرهاب

الخميس 10/أبريل/2014 - 10:47 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. محمود عبد الله

إن الصورة الذهنية لأهل النوبة، لدى قطاع عريض من الناس هي صورة المسالمين، الأهل الطيبين الذين يحبون الحياة في أمان، الأهل الذين يمتازون بالخلق الرفيع، وسماحة الخلق، والمدنية والحضارة. ولعل المُطّلع على الرواية النوبية بوجه خاص، سوف يجد حجم المرارة التي يعيشها النوبي، ورقة حاله، وعذوبة لغته، ورغبته الجموح في العودة إلى الأرض الأم، القرى النوبية التي هجرها، الأرض البكر، التي تبدو في ذهن كتاب النوبة الجنة الموعودة، التي خرج منها آدم النوبي، مضطرًا تحت حاجة النظام الاجتماعي الجديد الذي أخذ يتشكل، وتلبية لهدف وطني سامٍ، وهو بناء السد العالي.

تستطيع إذا زرت أسوان أن تلاحظ الاختلاف بين سكنك الأصلي وأهل هذا المكان. الناس هناك يتمتعون بأمان داخلي، أمان ينبع من الثقة في المطلق. النوبي العادي يعيش على الكفاف، وسكنه التقليدي معبر عن إبداعه، وحذقه، فكل الجدران مزخرفة بصناعة يديه، بالفلكلور النوبي القديم، والأثاث مزين بزخارف من صنع الإناث، حتى طريقة بناء البيوت النوبية، هي ذاتها نتاج إبداع نوبي أصيل، بيوت تواجه قسوة الشمس، وأنت إن دخلتها تشعر بالفارق بين حرارة الشمس الملتهبة، ونسيم البيت النوبي المبني على طراز خاص ومميز.

وربما قد يبادر أحدهم بالنظر بعنصرية إلى النوبيين، باعتبار أن هناك إمكانية للحديث عن "الغضب الأسود". تستطيع أن تجد أثرًا لذلك في حديث البعض عن أهل السودان والنوبة والزنوج الأمريكيين، في مخيال الناس العاديين. ومع ذلك، مهما كان الخيال العنصري وشططه، في تصوير النوبيين، فلا يظن أنه بقادر على أن يخلق صورة النوبي الذي يدخل في شجار دموي، يسفر عنه تمثيل بالجثث وحرقها كما حدث في الأزمة الأخيرة.

ويبدو أن هناك سؤالا ملحًا، ما الذي حدث، هل يمكن وصفه بالحدث الإرهابي، وما الأسباب الدافعة لذلك، ولم تطورت الأحداث على هذا النحو، هل من إطار نظري تفسيري قادر على تفسير ما حدث، وما معالمه، وما إمكانات الحل الممكنة؟ 

أن الحداثة المصرية حداثة مشوهة، لم تكتمل مؤسساتها، لدرجة أن حلت محلها ضمنا المؤسسات التقليدية القديمة، كالمجالس العرفية المحلية

أولا: إطر تفسيرية متعددة

يبرز مفهوم الإرهاب كواحد من المفاهيم الإشكالية؛ حيث يتداخل مع غيره من المفاهيم ذات الصلة بالفعل الإجرامي الموجّه لأفراد أو لمؤسسات. هذا الالتباس لا يقف عند حدود فهم المفهوم والتعريف به، بل ويتصل بالتفسيرات التي تسعى لتوشيج علاقاته بغيره، بتحديد الأسباب والعوامل الحاكمة له، وفهْم علاقاته بغيره من الظواهر المتاخمة والمعارضة والمتناقضة معه في تشكيلة الأفعال الإنسانية المتنوّعة. ولعل هذه يترك أثره في طريقة التعاطي معه، وفي وضع الحلول الناجزة للقضاء عليه.

فأولا، قد يتبنّى الباحثون النظرية الثقافية التي تحيل العمل الإرهابي إلى كل التمثيلات والتصورات والأخيلة التي يتربى عليها الأفراد في طفولتهم. ذلك أن ترسيخ الهوية الوطنية، يتم عبر تهيئة الأفراد باستعدادات نفسية لتقبل صورة لذواتهم كأبطال أقوياء، يحصلون على مبتغاهم عنوة وعسفًا. بل إن هذه التهيئة المرتبطة بأسباب تاريخية لها صلة بالاستعمار، شكّلت خيالا شعبيًا أسطوريًا حول الأبطال المحليين. هم أبطال يضحون بأنفسهم وأرواحهم حتى ينال الوطن حريته. ولا تني السير الشعبية عن الحديث عن أبطالها الشجعان بقوتهم وجسارتهم الهائلة في ردع الخصوم وإذلالهم. ما من شك في أن هذه النظرية تغفل أهمية عملية بناء الشخصية عبر هذا النوع من أسطرة الذات، فهي من جهة أخرى ترسخ قيمًا أسمى، كالدفاع عن الذات أمام الطغيان، والكرامة الإنسانية. ومع ذلك لا مجال أن الغرس الثقافي في حاجة لمعاودة نظر، حيث ينبغي أن يكون للتنشئة على قيم التسامح والتفكير العقلاني وضعية متميزة، في المراحل الباكرة من عملية التنشئة والتثقيف على القيم والأخلاق الجمعية.

ثانيًا، قد يذهب طرف ثان إلى تفسير الظاهرة بعامل الاقتصاد، على أساس أن الفاقة تؤدي إلى تبني السلوك العنيف تجاه الدولة وأفرادها كحل جذري للاحتياج وللحصول على لقمة العيش، وأن أفرادها يلتحقون بهذا النوع من التنظيمات، كنوع من وضع الحلول الجذرية لمشكلة فقرهم. خاصة وأن نسبة كبيرة من الذين مارسوا الأعمال الإرهابية من سكان العشوائيات، ويستخدمون مواد بدائية الصنع. حقا إن نسبة لا يستهان بها من أعضاء الجماعات الجهادية في صعيد مصر قد جاءوا من الطوق الحضري الهامشي، من سكان المناطق العشوائية، التي تنامت على حدود المدن الحضرية. ومنهم من جاء من الأرياف، من طلبة المدارس الصناعية. ورغم أن هذا التوصيف دقيق في جانب منه، فإنه يغفل أن بعض القيادات في التنظيمات الإرهابية من أصول طبقية ثرية، ومنهم من حصل على خلفية تعليمية جيدة، ومنهم من كان يعمل في مهن، تعتبر وفق الترتيب الهرمي للمهن في المنطقة العربية، من المهن المتميزة، من أبناء الطبقة الوسطى كالأطباء والمهندسين، ممن لم تستطع جماعة الإخوان أن تشبع رغبتهم في التغيير.

ثالثًا، التفسير البيئي، وهو الذي يلجأ إلى ربط الظاهرة ببيئات منتجة له، لأسباب تتصل ببعد هذه البيئات عن مناطق التركز السكاني، وحرمانها من الخدمات الأساسية، وعدم خضوعها لسيطرة الحكومة المركزية، وتمتعها بثقافة مغايرة. وهو ما ينطبق على الحالة في سيناء. المنطقة تعاني من الحرمان بسبب عدم استغلال مواردها أفضل استغلال، وسكانها يشعرون بالاستبعاد على أساس ثقافي مؤصل بأسباب تاريخية، تتبدى في رواية التاريخ الوطني، كما أنها تستعصي على الخضوع للتحكم المركزي، وبها بقاع واسعة للأيديولوجيا السلفية المؤسسة للإرهاب والعزلة والانغلاق، والمنطقة متاخمة للحدود، يسهل إدخال أدوات وعناصر الأعمال الإرهابية والإجرامية بشكل عام –أعمال التهريب بجميع صورها الممكنة، من تهريب أسلحة ومخدرات وآثار وبضائع، وتجارة عُملة.

رابعا، تفسير مؤسسي، يذهب فيه أنصاره إلى أن الحداثة المصرية حداثة مشوهة، لم تكتمل مؤسساتها، وأن هذه المؤسسات لها وجود ديكوري، لدرجة أن حلت محلها ضمنا المؤسسات التقليدية القديمة، كالمجالس العرفية المحلية. فالمؤسسة الشرطية مؤسسة طبقية، تنحاز للطبقة الحاكمة وحلفائها، وتمارس أعمال العنف والقهر والإذلال على الفقراء، إلى حد تصور "كل فقير مجرم بالسليقة"، فيتحول عملها إلى حماية "ذوي الياقات البيضاء"، ويتولد عن ذلك أن يضحى اللجوء إلى العنف وممارسة التفزيع والإرهاب، هو الوسيلة الناجعة لفض النزاعات والخلافات. وفي هذا السياق غير المستقر، تلجأ الشرطة للعناصر الإجرامية المثيرة لأعمال الشغب لتكون أدواتها في الردع والتخابر لصالحها، وفرض الهيبة على السكان. ومن جهة أخرى تمثل المؤسسة القضائية الوجه الثاني من المعادلة. ذلك أن طول فترات التقاضي، والكلفة الاقتصادية، والوقت الباهظ، وغياب الشعور بالعدالة الناجزة، قد يدفع للجوء للمجالس العرفية، أو اللجوء لأعضاء العصابات الإجرامية والجماعات الدينية المتطرفة، كما حدث وقت تولي محمد مرسي، حتى يتسنى الحصول على الحقوق المهدرة في أسرع وقت، أيا كانت طبيعة هذه الحقوق، وأيا كانت طبيعة قناعة الناس بصحة أو صواب ما يفعلونه.

خامسا، التفسير البيداجوجي، وهو مرتبط بالتفسير الأول، فالأفراد ينشأون داخل المؤسسات التربوية الرسمية على العنف، بحيث يكون العنف جزءًا رئيسيًا في عملية التربية، جزءًا من تصورات الهوية النوعية، فالرجولة تتطلب القوة البدنية، بينما الأنوثة تعوزها الرقة والنعومة. وجزء من عملية التدريس تكريس العقاب المادي، علاوة على ترسيخ القيم الأبوية، كالطاعة العمياء، والحض على الحفظ والنقل والاستنساخ، وجميع القيم الأبوية المحفزة للعنف.

واللافت للنظر، أن الحالة المصرية تمتلك القدرة على الجمع بين كل المعطيات التفسيرية السابقة، على نحو يجعل من الإرهاب مفهومًا حمالا لأوجه تفسير متداخلة، يصعب معها الجزم بمن له الأولوية منها، وإن كان التفسيرات الثقافية والمؤسسية والطبقية لها الأسبقية في تفسير الوضع الراهن، مع إضافة بعض التعديلات والإضافات.

فالإرهاب، أولا، يستند إلى النصوص المقدسة، وإلى أدبيات تحض على القتل والجهاد، وليس فقط لمخيال وتصورات جمعية تؤيد اللجوء للعنف كرد فعل مضاد أو كوسيلة لحل الإشكاليات المحتدمة. وثانيًا، هو لا يأتي عبر قوة منظمة، يسهل تحديدها بدقة وتوجيه اليد صوبها، بل هو ابن لثقافة عنف لا مركزية، ابن لحرب الشوارع، هو لا نظامي، وفردي في أحيان. هذا رغم ما يشوب بعض ممارساته من نظامية وجماعية وتخطيط: الدقة في تحديد الأهداف، وتوقيت التنفيذ، واختيار العناصر المستهدَفة، وتجهيز المعدات والأدوات اللازمة، وتحديد رسالة يرجى توصيلها، وتسجيل الفعل الإرهابي، وترويجه، والتسويق له إعلاميًا. وثالثا، هو قادر على استغلال مناطق الخلل واستثمارها وتطويرها، سواء جاءت في صورة غياب القدرة على إنجاز أي هدف من أهداف الثورة، طوال ثلاث سنوات من عمر الثورة، والتوجه في الآونة الأخيرة ناحية المركزية، مع علو صوت الحض على صوت النقاش والتداول الحر للمعلومات والأفكار، عدم القدر على استيعاب الشباب الثوري، زيادة الفجوة الطبقية واستفحالها، ضيق أفق العدالة.

رابعًا، غياب التحليل النقدي لوقائع الإرهاب، كفعل إجرامي متعدد الأوجه، لا يقاس من زاوية واحدة دون أخرى، سواء كانت الزاوية أمنية، أم اقتصادية، أو ثقافية. وهو ما يتطلب مواجهته الحاسمة من خلال سياسات جذرية شاملة، تؤسس لقيم الثورة وأهدافها الثلاثة: الحرية والعدالة والكرامة. فالمشهد الإعلامي يتسيّده خطاب ديماجوجي، وعبثي، يرهن القضية في إطار أمني، أو أمن سياسي، قائم على المؤامرة والدسائس، دون تسويرها بمعالمها الأخرى الأشد وطأة، بما يقوّض السعي نحو المؤسسية، والتكامل النظري، ويحول القضية باتجاه الحل الفردي، أي أن الحل في يد المخلص، في يد القيادة الفردية الحكيمة، وهو تصور ساذج، دون اكتراث إلى القيادة المجتمعية التشاركية، ما يعني ضمنًا التأسيس لتقويض المؤسسية، والتوجه نحو توسيع دائرة الإرهاب، وعناصره، ومناطق نفوذه، ليتحول إلى ممارسة، تتغذى على عوامل بقائها واستمرارها، كآلية لحل الصراعات والخلافات.      

أن الحالة المصرية تمتلك القدرة على الجمع بين كل المعطيات التفسيرية، وإن كان التفسيرات الثقافية والمؤسسية والطبقية لها الأسبقية في تفسير الوضع الراهن

ثانيًا: الحالة الأسوانية: معالم أزمة لم تحل

إن المؤشرات الأربعة السابقة تساعد في تدشين نموذج نظري للتعاطي مع ما حدث في الحالة الأسوانية، رغم ما قد يبدو هنا وهناك من تفاوتات، وإضافات يمكن تقديمها، لتوضيح ما تمتاز به الأوضاع في أسوان من اختلافات. على الرغم من أن أسوان تتشابك مع الحالة السيناوية في أمور متراهنة، ومتشابهة، فكلاهما يقعان على الحدود، وتسكنهما مجموعة من القبائل، ويعاني سكانهما من وضعية بيئية هامشية وإهمال طاغ لأهلها من السكان الأصليين، إن صح التعبير، ويعانون من غياب الشعور بالأمن. ومع ذلك فالحكاية الأسوانية تختلف في تفاصيلها عن الحكاية السيناوية في عدة زوايا، رغم الاتفاق في الخطوط العريضة.

1- العامل الثقافي والاجتماعي

تمتاز محافظة أسوان بتعددية عرقية وثقافية لافتة للنظر، حيث تضم مجموعة مختلفة من أبناء القبائل منهم من ينتمي لأصول عربية مثل الجعافرة والعبابدة والأنصار وبنى هلال والأشراف والعليقات، إلى جانب قبائل النوبيين والبشارية. وما يجمع هذه القبائل هو الاعتزاز بالنسب، حيث يحفظ كل منهم نسبه حتى جدّه العاشر كنوع من التباهي والتفاخر. لكن الأمر اللافت للنظر أن تحت الرماد يوجد انقسام طائفي بين طرفين: السكان الأصليون من أهالي النوبة، والعرب الوافدون من الجزيرة العربية.

وبينما يفخر أبناء هذه القبائل بنسبهم التاريخي، يعايرون أبناء قبيلة بني هلال أو الهلايل الذين جرى تخليدهم في أسطورة أبو زيد الهلالى الشهيرة، وينظرون إليهم باعتبارهم دخلاء على أبناء هذه التركيبة القبلية العريضة، وأنهم جاءوا من شتات القبائل في شبه الجزيرة العربية. ورغم أن قبيلة بني هلال أولاد عمومة لمعظم القبائل العربية الموجودة في أسوان، فإن ذلك لا يسمح بالزواج منهم، باعتبارهم أدنى منهم في السلم القبلي والعرقي. ولتعويض ما يعتبره هؤلاء نقصا، بدأت مجموعة من أبناء قبيلة الهلايل في تعويض ذلك بتخزين السلاح، ما جعل مرشحي الحزب الوطني السابق يستعينون بقوتهم في الانتخابات، خاصة أن أعدادهم كبيرة، ويتمركزون في البندر- مركز المحافظة. وبعد الثورة، احتذى الإخوان حذو الحزب الوطني، وطلبوا منهم الحماية والمساندة مقابل المال.

إن الاستعانة السياسية بأبناء قبيلة بني هلال واستخدامهم المفرط للسلاح خلق ثارات متعددة مع باقي القبائل، ولم يكن هذا أول خلاف مع النوبيين، حيث حدث منذ عام تقريبًا خلاف مع نفس القرية النوبية أبناء دابودة، وانتهى بجلسة عرفية.

هذا معناه أن هناك مسافة اجتماعية متولدة من نزوع ثقافي يبطن العلاقة بين الطرفين المتنازعين، طرف نوبي مهمّش بحكم السياسات الاجتماعية التي لا تلبي مطالبه، وطرف عربي الأصل، كون لذاته علاقات مع السلطة التنفيذية وثروة من مصادر مختلفة وقوة فرضت نفسها على الأرض. الطرفان المتنازعان لم تكن المواجهة بينهما هي الأولى. فقد سبق أن دخل الطرفان في مواجهة لها أسبابها. فمنذ قيام الثورة، والنوبيون أخذتهم وعود الثورة البراقة بتحقيق أحلامهم في الحصول على حقوقهم التي يريدونها، في تحقيق مواطنة مساوية لغيرهم من أبناء أسوان. ولكن فاعليتهم السياسية، من اعتصامات ووقفات احتجاجية، وغيرها، كانت تواجه بالقوة وبتدخل عناصر مجندة من قبيلة الهلالية، كما تؤكد إحدى الشهادات، لدى الشرطة. وهو ما رسب شعورًا بالكراهية والمرارة بين الطرفين، طرف يقف بجوار سلطة النظام، وآخر لديه طموحات يراها ثورية وينبغي تحقيقها.

2- اللا مركزية الإرهابية

ربما تمثل اللا مركزية سمة مميزة لفعل الإرهاب، وهي سمة واصفة له، ولكنه قادرة على تفسيره، كعمل قادم من فئات اجتماعية، في حاجة مكبوتة إلى الوحدة، في رغبة لا واعية للاندماج في الكل الاجتماعي الشامل. فإذا كانت قبائل الهلالية مهمشة في التصورات الثقافية للقبائل العربية في أسوان، فإن النوبيين مهمشون بحكم الوقائع التاريخية وتطورات الأوضاع. ولذلك جاء الحادث حاملا كل معالم اللامركزية وممارسات الشارع، والثارات القبلية القديمة: عراك يدوي بالشارع يتطور لاستخدام السلاح، كتابة متناثرة على الحوائط، ردود على شبكة الإنترنت، شائعات، غياب للتدخل الأمني، عودة التصورات العنصرية من الطرفين، تمثيل بالجثث وحرقها. واللافت للنظر أن جميع المبادرات التقليدية للصلح، سواء بتدخل المجالس العرفية، أو الجهات التنفيذية، قد باءت بالفشل، وهو مؤشر خطير.

إن اللا مركزية لا تواجه بقوات نظامية، بل الأجدى أن تواجه بقوات لمكافحة الشغب، وبأفراد يمتازون بالمهارة والقوة، ومدربين على مواجهة حروب الشوارع ونزاعاته، حتى تتسنى لهم مواجهة ما يحدث. أما الإصرار على استخدام الطرق التقليدية، أو التأخر في معالجة الأزمات الأمنية، سيؤدي إلى تفاقمها وزيادة حدة الغضب وتصاعد الموقف.

3- غياب سياسات التنمية والتخطيط الرشيد

ربما لا يختلف أهل أسوان عن غيرهم في سيناء، من ناحية إغفالهم في سياسات التنمية. وربما لو قابلت شبابًا من أسوان، ستجدهم يحدثونك عن زيادة البطالة، وأن كل منيتهم الحصول على أراض يمكنهم العمل عليها كمزارعين، بدلا من اللجوء للعمل في القاهرة أو المناطق السياحية البعيدة، خارج بلدهم، وهي البلد السياحي. وإن كانت هذه السياسة تستبعد الشباب، ولا تسعى لتقديم بدائل لهم تمكنهم من العيش، إلا أنها تتعمد إغفال مطالب النوبيين. ولا شك أن هذه المطالب تتعارض مع التصورات الراسخة بضرورة قيام قومية مصرية موحدة، تذوب فيها القوميات، بينما الأجدى أن تتولد قومية تتعدد فيها الهويات، وتحترم الخصوصيات الثقافية، دون أن يؤدي ذلك، بطبيعة الحال، إلى عنصرية جديدة، وتجزر في التكوين الاجتماعي للمدينة. فرغم وجاهة المطالبة بالخصوصية الثقافية ودعم التراث النوبي، والسعي للمحافظة عليه، فإن هذا لا يعني التقوقع على الذات. ويبدو أن هذه الرغبة في الحفاظ على الخصوصية الثقافية، هذه النزعة المحافظة الرافضة في الاندماج في لحمة اجتماعية جديدة، هو نتاج طبيعي لسياسات التهميش الاجتماعي، وعدم احترام حرية التعبير والخصوصية الثقافية. كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة الصعبة، بتبنِّي سياسات اجتماعية، ترعى حق الخصوصية، دون أن تهدر حق الوحدة والتمازج الحضاري. ربما تكون السياسات غير العنصرية قادرة على تحقيق ذلك، دون اللجوء لسياسات عنيفة ثقافية تتسبب في هذه الرغبة في بناء جيتو اجتماعي ثقافي.

تمتاز محافظة أسوان بتعددية عرقية وثقافية لافتة للنظر، لكن الأمر اللافت للنظر أن تحت الرماد يوجد انقسام طائفي بين طرفين: السكان الأصليون من أهالي النوبة، والعرب الوافدون من الجزيرة

ثالثا: سبل عالج الأزمة

إن واحدة من المشكلات الملحة في التعامل مع الأزمة هو الاستغلال السياسي لها. فقد سعى كل طرف في الوضعية السياسية الجديدة أن يتبنَّى موقفًا يدعم مصالحه. فمن جهة تبدى الحديث دافقا عن مؤامرة إخوانية لإحداث فتنة وتأجيج الأوضاع، في محاولة ضمنية للابتعاد عن سخونة المشهد، وابتعاد عن ملابساته المعقدة التي يصعب فضها من الوهلة الأولى. الحديث عن الطرف الثالث المحرك للأحداث لا يزال مستمرًا. فيما يقوم النوبيون من طرفهم بتبنِّي نفس المنهج بالحديث عن طرف ثالث دولتي. فالطرف الثالث هو الدولة ذاتها التي تسعى لتشويه الطرف النوبي. بل وذهبت بعض القراءات المتسرعة إلى محاولة توجيه الأزمة نحو الصراع الانتخابي. إذن تحكم مناخ المؤامرة والقراءة البوليسية في تحليل واقع الأزمة، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقمها، وزيادة أعبائها، وتكلفتها، التي لا تقف عند مجرد التكلفة الاقتصادية، بل ستكون لها آثارها على النسيج الاجتماعي، وبنية الثقافة في أسوان.

وبناءً عليه، يمكن الحديث عن عدة ضرورات في مواجهة الوضع الحالي. إذ ينبغي المواجهة الإعلامية للأزمة، عبر تقديم خطاب إعلامي رشيد، يستمع لكل الأطراف المعنية، حتى يتسنى وقف نزيف التشاحن. ومن جهة ثانية ينبغي أن تقدم الدولة أداءً سياسيًا خاليًا من مماحكات التوفيق، بل تتصرف كدولة تعمل وفق القانون، ويتساوى أمامها الجميع، وأن تعلن عن ذلك، وتمارسه على الأرض، بجمع السلاح الذي أصبح منتشرًا في ربوع المدينة، وأن تتوقف سياسات الأمن المدعومة بعناصر من خارج التركيب المؤسسي للمؤسسة الشرطية. ومن جهة ثالثة، أن تسعى الدولة لتقديم سياسات اجتماعية وبرامج تفيد أبناء أسوان دون تمييز على أساس العرق.


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟