المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

متطلبات التغيير: التحول الثورى في مصر

الإثنين 16/فبراير/2015 - 10:57 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د.أحمد صقر عاشور

لتحولات الثورية السياسية والاقتصادية فى الدولة والمجتمع التى تبدأ بتقويض وإسقاط نظام قائم له أركانه والقوى المساندة له داخليا وخارجيا والمنتفعين منه الذين يستميتون فى الدفاع عنه، تحتاج لكى تنجح إلى مقومات، إن لم تتوافر ينتهى بها الأمر إلى التعثر والاضطراب وإلى الفشل.

هكذا تبين دروس وخبرات النجاح والفشل للثورات السياسية والاجتماعية التى حدثت فى العالم خلال العقود الأخيرة. صحيح أن لكل حالة ظروفها وسياقها وخصوصيتها، التى تحدد البدائل والخيارات المتاحة والمسارات الممكنة للتعامل مع قوى المقاومة التى تمثل النظام القديم وتمثل الفرص والإمكانات المتاحة لتحقيق نجاحات لكى تحقق الثورات أهدافها، لكن هناك قواسم مشتركة فى خبرات الأمم يمكن لبلد كمصر أن تستفيد منها لزيادة فرص النجاح للتحول السياسى والاقتصادي، بعد ثورتين جماهيريتين. فقد حققت الثورتان نجاحا باهرا فى الإطاحة السريعة بالنظام القائم فى أعقاب الانتفاضة الجماهيرية لكل ثورة، لكن مسار التحول الثورى فى الأنظمة والمؤسسات والسياسات والممارسات التى تحقق النتائج والنجاحات التى تعبر عما قامت من أجله الثورتان، حفل بثغرات وخطايا وحفت به مخاطر حرفت أهداف ومسار ثورة يناير، وهى تهدد أهداف ومسار ثورة يونيو. ما الدروس المستفادة من الخبرات العالمية ومن الخبرة الذاتية لثورة يناير وكذلك التى أعقبت ثورة يونيو حتى الآن لتوجيه التحول الثورى الذى ينبغى أن يعقب هاتين الثورتين؟

تحاول الدراسة الحالية الإجابة عن هذا السؤال فى البنود العشرة التالية، بتسليط الضوء على المقومات اللازمة لتحقيق التحول الثورى الناجح، والإشكاليات التى تصادفه - وهى هائلة - وكيفية التعامل معها والتغلب عليها. ومن حسن حظ مصر أن على رأسها الآن قيادة تملك القدرة على شحذ همة وتعبئة طاقات المصريين لمواجهة المعارك التى تخوضها مصر حاليا لإنجاز التحول الذى قامت من أجله ثورتان.

مصر فى حاجة إلى وثيقة تعبر عن مبادئ ثورتيها وتمثل الرؤية الاستراتيجية الموجهة للتغييرات والسياسات المطلوب تبنيها فى مختلف المجالات

أولا: الفكر الاستراتيجى للثورة

لا تنجح الثورات فى تحقيق تحول جوهرى إلا أذا وضحت وجهة وبوصلة هذا التحول. ويعنى هذا ضرورة وجود موجهات فكرية تحدد الفلسفة والمبادىء المعبرة عن الرؤية الإستراتيجية للثورة. ويتطلب الأمر تضمين هذا فى وثيقة تشتمل على هذه المبادىء والتوجهات، بحيث ينبثق منها التغييرات التشريعية والمؤسسية والسياسات الإستراتيجية، وكذلك المبادرات السريعة والحاسمة التى تعالج مشكلات قائمة أو تحقق العدل لفئات وقع ظلم بين عليها لعقود. ويتطلب الأمر أن تعبر هذه الوثيقة عن المصالح القومية العليا مشتملة على مصالح القاعدة العريضة لمن جاءت الثورة لإنصافهم، وأن تحظى هذه الوثيقة بتوافق بين أغلبية القوى الثورية وليس كل القوى السياسية القديم منها والثورى معا، فمثل هذا الخلط يحوى مخاطر جسيمة كفيلة بتشويه أهداف وتحريف مضامين الوثيقة.

مصر الآن فى حاجة ماسة إلى وثيقة تعبر عن مبادىء ثورتيها وتمثل الرؤية الإستراتيجية الموجهة للتغييرات والسياسات المطلوب تبنيها فى مختلف المجالات. وفى غيبة هذا، تكون السياسات والخطط عرضة للتخبط وربما إعادة إنتاج الماضى بكل عواقبه السلبية، ناهيك عن إعادة اختطاف هذه السياسات من قبل القوى والمصالح القديمة، وهو يحدث الآن فى قطاعات عديدة من مؤسسات الدولة. لذلك يمثل غياب هذه الرؤية أهم مصدر للمخاطر التى تهدد ثورة يونيو الآن. ونظرا لأن مسار التحول وإشكالياته والخيارات والمبادرات الاستراتيجية التى ينبغى تنميتها بصفة مستمرة، يتطلب آلية مستمرة للفكر الاستراتيجي، فهناك ضرورة ماسة لإنشاء مجلس قومى استراتيجى يمثل معقلا فكريا يضم مفكرين استراتيجيين متميزين من مختلف التخصصات يلحقون بمؤسسة الرئاسة يعمل لتحليل المواقف والمستجدات المهمة ولمدها بالدراسات والخيارات الإستراتيجية والسيناريوهات البديلة وتوابعها الممكنة، وكذلك تقديم تقارير عن متابعة وتقييم الإنجاز والنتائج المتحققة.

 

ثانيا: تحقيق نجاحات قوية وسريعة

لابد أن تشعر الجماهير خاصة الفئات الضعيفة التى قامت الثورة لنصرتها بأن الثورة تتخذ إجراءات تتوجه لها وتستهدف مصالحها. وقد قامت ثورة 23 يوليو بعد أيام قليلة من نجاحها بإجراءات استثنائية تضمنت تخفيضات فى أسعار السلع الأساسية وبعد أقل من شهرين بإصدار قوانين الإصلاح الزراعي. صحيح أن كل زمن له ظروفه وأولوياته، لكن اختيار المجالات التى يمكن فيها تحقيق نجاحات سريعة وملموسة ومؤثرة واتخاذ إجراءات استثنائية بشأنها بما يعطى إشارة إلى توجهات وانحيازات الثورة، يساعد فى كسب تأييد قواعد جماهيرية للسلطة الجديدة خاصة تلك التى تحتوى جيوب الفقر والتشرد والبطالة. وكانت هذه الجيوب مستهدفة بالدعم والمساعدة وكذلك لتجنيد أنصار من قبل قوى الإسلام السياسى فى الماضي، وما زالت مستهدفة من قبل قوى الإرهاب والتخريب خلال السنوات الأربع الأخيرة.

وينبغى أن يحتوى مزيج الإجراءات الثورية فى المدى القصير ليس فقط على ما يستشعره الناس ويمس حياتهم ومعيشتهم بصورة فورية ومباشرة، وإنما أيضا على إجراءات تتعلق مثلا بإيقاف أوضاع ظالمة لفئات اجتماعية عريضة ومهمة (مثل العمال والفلاحين والأسر المعدمة وساكنى المناطق العشوائية والفقيرة)، وفئات تم تهميشها لعقود مثل الشباب والنساء والأقباط، فضلا عن توفير دعم وتهيئة ظروف أفضل لقطاعات تنموية طال تهميشها وإهمالها مثل بعض القطاعات والصناعات الإستراتيجية (القطن والغزل والنسيج على سبيل المثال فى الحالة المصرية) ومثل المشروعات متناهية الصغر والصغيرة، واتخاذ إجراءات فورية تجاه الفساد المستشرى فى قطاعات مهمة من أجهزة الدولة واستعادة الأموال والأصول المنهوبة ولو داخليا كبداية لسلسلة أخرى من الإصلاحات المؤسسية التى تتصدى للفساد. لقد تأرجحت خطوات ثورة 25 يناير وكذلك 30 يونيو، ولم يتضح بعد انحيازاتها ولا إنجازاتها ذات الصدى والمردود الاجتماعى والجماهيري. وآن الأوان بوجود رئيس جاء بتأييد شعبى جارف أن تتخذ الحكومة حزمة من الإجراءات التى تفصح عن توجهات وأولويات الثورة. ودون هذا سيترك المجال واسعا لعمل القوى المناوئة ولانحسار التأييد الشعبى للثورة ذاتها الذى أصاب ثورة 25 يناير، وبدأ يتجه إلى ثورة 30 يونيو. وينبغى أخذ الدرس من أخطاء حكومات المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير وخلال حكم مرسى والمرحلة الانتقالية بعد ثورة يونيو.

فقد تصاعدت المطالب الفئوية ليس فقط نتاجا لغياب الرؤية وعدم وضوح التوجه، وإنما أيضا لعدم تحقيق نجاحات موجهة للفئات والقطاعات التى عانت من ظلم وتهميش لعقود. ولن يجدى لدى هذه الفئات والقطاعات إطلاق مبادرات لمشروعات قومية كبرى تتحقق نواتجها فى المدى البعيد رغم أهميتها الفائقة، إذا لم تتحقق بعض النجاحات الملموسة (مثل تحسين منظومة الخبز المدعم ووصوله لمستحقيه) الموجهة لهذه الفئات التى طال إهمالها. فالأولى ليست بديلا عن الأخيرة ولا تغنى عنها لأن ثمارها وعوائدها مؤجلة. والأخيرة تمثل اللبنة الأولى لأرضية الثقة بين السلطة الجديدة والجماهير المظلومة والمقهورة لسنوات طويلة ووفق العقد الاجتماعى الجديد للثورة. وتكمن الخطورة فى حدوث بداية لتآكل هذه الثقة إذا لم يساندها فعل ونتائج ملموسة قريبة تمس حياة هؤلاء الناس.

تصاعدت المطالب الفئوية ليس فقط نتاجا لغياب الرؤية وعدم وضوح التوجه، وإنما لعدم تحقيق نجاحات موجهة للفئات والقطاعات التى عانت من ظلم وتهميش لعقود

 ثالثا: المواجهة الإستراتيجية للقوى المناوئة والحروب الجديدة

حينما تهدد الثورة مصالح قوية لعناصر داخلية نافذة وتمثل مصدر مخاطر لمصالح عليا لتجمعات وتنظيمات سياسية وشبكات إرهاب دولية ولدول لها دور وأطماع ضد الثورة، فمن الطبيعى أن تستنفر وتتحد جهود هذه الأطراف جميعها (وإن تم هذا بطرق ووسائل ليست جميعها بالضرورة ظاهرة أو مباشرة) لمقاومة التغيير الذى تنشد الثورة تحقيقه؛ وقد تصل إلى شن حروب من نوع جديد فى محاولة تفكيك الدولة وإثارة فتن داخلية وتأليب عناصر المجتمع على بعضها، ينتهى إلى كسر عزيمة الدولة والمجتمع وإجهاض الثورة. وعندما تملك الثورة قواعد جماهيرية قوية وواسعة وتكون أهم مؤسسات الدولة مثل القضاء والجيش والشرطة متماسكة نسبيا وتمثل سندا للثورة، وتكون الأضرار أو المنافع الضائعة للقوى المضارة من الثورة عالية، غالبا ما تشتمل الجهود المضادة للثورة على حزمة متعددة الأدوات والوسائل هى أسلحة الأجيال الجديدة من الحروب غير النظامية.

ويسعى الجيل الرابع من الحروب إلى هزيمة الإرادة المجتمعية وتقويض مؤسسات الدولة وتقسيمها من خلال وسائل تخريبية عديدة ومنها العمليات الإرهابية ولا يستخدم الجيوش والأسلحة النظامية بصورة كاملة أو مباشرة. أما الجيل الخامس فيسعى لتفكيك المجتمع ذاته ومؤسسات الدولة والمجتمع من خلال إشعال فتن ونزاعات وإحداث استقطاب مجتمعى حاد وحروب أهلية دينية وعرقية وثقافية. وتتوجه وتضرب هذه الحروب على أكثر من جبهة لتحقيق مجموعة مركبة من الأهداف التى تستهدف إنهاك وشل وتعجيز القدرة فى مجالات حيوية متعددة وفى نفس الوقت؛ بعضها سياسى واقتصادى ومؤسسي، وبعضها مادى وعسكري، وبعضها اجتماعى ومعنوي. وهى تستغل جوانب الضعف والفجوات الموجودة فى هذه المجالات. وتخوض مصر وتعانى منذ 25 يناير ومن قبله أيضا، من هذين النوعين من الحروب. كما تخوضه أيضا ومنذ بداية ثوراتها الجماهيرية فى 2011 ما كان يسمى بدول الربيع العربي. والسؤال هو كيف تتم المواجهة الإستراتيجية لهذه القوى المناوئة وهذا النوع من الحروب؟ يتوقف التعامل مع القوى المناوئة على طبيعتها ومصادر قوتها وأساليب عملها.

بالتالى على ما تشكله من مخاطر لأهداف ومسار الثورة. فالقوى الداخلية التى تعمل بأساليب سياسية سلمية صرفة ينبغى أن تواجه بنفس الأساليب، التى تتدرج من الإعلام والتوعية وتكثيفهما والاستيعاب والتحويل الفكرى إلى الحشد والتعبئة الجماهيرية لمواجهتها وأخيرا إلى تفكيك تنظيماتها واستبعادها والتصدى لفكرها عندما تحاول الإجهاض السياسى للثورة (مثل محاولتها إعادة التغلغل والهيمنة على مؤسسات ومراكز صنع السياسات أو حمايتها لمنظومات الفساد أو إشاعتها أن ثورة 25 يناير ما هى إلا مؤامرة خارجية استهدفت نظاما مستقرا كان يعمل لصالح الوطن وإن كانت له أخطاء). أما الأعمال الموجهة لتفكيك الدولة والمجتمع التى تتضافر فيها القوى الخارجية المناوئة مع قوى التطرف الداخلية، فينبغى أن تواجه بإستراتيجية متعددة الأدوات تتناسب مع طبيعة وسائل وأسلحة الإرهاب والحروب الجديدة التى لا تستخدم فيها جيوش نظامية. ومن الخطأ تصور إمكانية نجاح المواجهة مع هذه الحروب بالاقتصار على الوسائل والجهود الأمنية.

فينبغى أن تعتمد هذه الإستراتيجية على مزيج من وسائل الوقاية والمنع لوقوع بعض العناصر فى المناطق المهمشة فريسة للتجنيد أو الانخراط فى هذه الجماعات والشبكات المتطرفة (الجهادية والتكفيرية مثلا)، فضلا عن أهمية استخدام وسائل الاختراق لها والأساليب الاستخباراتية تمهيدا لإجهاض مخططاتها وتفكيكها وكسر حلقاتها ومقوماتها الفكرية والقيادية والبشرية واللوجستية والتمويلية ومصادر تسليحها. وسيحتاج الأمر أن تولى عناية استثنائية للبرامج السريعة التى تستهدف سد الفجوة التى اتسعت لعقود بين مستوى حياة ومعيشة المناطق المعزولة والمحرومة من الخدمات مثل سيناء والمناطق الحدودية الأخرى فى الغرب والجنوب والسعى الحثيث لتغيير طبيعتها الديموجرافية بتكثيف الأنشطة التنموية فيها ومدها بالخدمات ونقل تجمعات بشرية من قلب الوادى إليها. يقترن بهذا ضرورة تشديد الرقابة على المنافذ الحدودية لمنع التسلل وتهريب الأسلحة والأموال، وكذلك تنمية وعى وكسب ثقة ومشاركة ورقابة تجمعات المواطنين أنفسهم حيث يقع عليهم دور كبير فى هذا النوع من الحروب. تماسك الجبهة الداخلية وحماية وعيها وفكرها وقناعاتها من الاختراق من القوى المناوئة، يمثل صمام أمان مهما وحاسما فى هذه المعارك الممتدة.

 

رابعا: تلازم تفكيك النظام القديم مع إعادة البناء

كل الثورات تواجه تحديات ومخاطر لأنها تزلزل وتسقط نظما قائمة لها المنتفعون منها فى الداخل والخارج وهى تضرب وتقوض مصالحهم. الثورات الناجحة تقوم بمهمتين متداخلتين: أولاهما تفكيك العناصر المهمة من النظام القديم وتحجيم وربما تقويض نفوذ أصحاب المصالح المنتفعين منه وعزلهم عن المشاركة فى بناء النظام الجديد، حتى لا ينقضوا على الثورة ويحولوا مسارها لصالحهم؛ وثانيتهما بناء النظام الجديد بكل أركانه وتعميقه وترسيخه. وعن المهمة الأولي، من السذاجة تصور أن من كانوا ركائز فى نظام ظالم وقهرى سواء كانوا داخل مؤسسات الدولة أو خارجها، سيتحولون فجأة ليكونوا مناصرين للنظام الجديد. فمناصرتهم الظاهرية ما هى إلا مناورة لإيقاف مسار التغيير وضمان عدم المساس بمصالحهم، وربما العودة للنظام القديم وإن كان فى ثوب مختلف وبوجوه مختلفة.

المخاطر المتمثلة فى القوى الخارجية التى لا تريد للثورة أن تستمر فى مسارها تمثل تحديا هائلا، حيث تلعب أجهزة الاستخبارات الدولية وهى أجهزة متمرسة دورا خطيرا فى إثارة القلاقل والاضطرابات الداخلية وتمويل عمليات الإرهاب (وإن تظاهرت بأنها تحاربه وتكافحه) من خلال طول اختراقها لأجهزة الدولة والمجتمع خلال حكم النظام القديم، وتهييج الرأى العام العالمى وتعبئته ضد الثورة تحت مقولات مثل الشرعية والحريات وحقوق الإنسان. الحالة المصرية مشبعة بهذه الظواهر فى كل جوانبها وتطوراتها خلال السنوات الأربع الماضية. وهى أيضا دالة على كثير من الخطايا والأخطاء خلال الفترة الانتقالية بعد 25 يناير وخلال حكم مرسي، وعلى مسارات التصحيح بعد 30 يونيو.

لكن مخاطر عودة قوى نظام مبارك وإعادة تنظيم صفوفها واستعادتها مواقع التأثير وصنع القرارات فى كثير من قطاعات ومؤسسات الدولة وكذلك فى الساحة السياسية والإعلامية يمثل مخاطر كبرى تنذر بعواقب وخيمة أقلها تجميد الإصلاح وعدم فتح ملفات الفساد والتصدى له والاستمرار فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى سادت خلال تلك الحقبة. لقد أحرزت ثورة 30 يونيو نجاحات ملموسة فى مجال التصدى الأمنى للإرهاب وتعقب تنظيم الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة الموالية لها (وإن كانت الحلول الأمنية وحدها غير كافية وغير ناجعة)، وكذلك فى التصدى للمخططات الخارجية. وكان أبرز نجاحاتها الخارجية تعميق الروابط مع الدول العربية خاصة الخليجية المناصرة لثورة 30 يونيو ودول كانت حليفة تاريخيا فى المعارك التى خاضتها مصر خلال الحقبة الناصرية مثل روسيا والصين والدول الافريقية.

وقد فتحت هذه الروابط والعلاقات مصادر للدعم المالى والاقتصادى والعسكرى فضلا عن الدعم السياسي. وتحاول مصر استخدام هذا الرصيد الجديد فى معركتها التفاوضية مع اثيوبيا حول سد النهضة، الذى يحمل مخاطر عظمى لحياة المصريين، ولم يظهر إلى الوجود إلا بسبب إخفاق النظام القديم فى علاقاته الخارجية مع إفريقيا وظروف عدم الاستقرار التى مرت بها مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة. أما إعادة بناء النظام الجديد المعبر عن توجهات الثورة، فينبغى أن تتم بصورة متداخلة مع تفكيك النظام القديم. وتوفر الرؤية الاستراتيجية والمعقل الفكرى المقترح إنشاؤه أسس وركائز النظام السياسى والاقتصادى الجديد وكذلك مختلف المؤسسات المتعلقة بهما. وينتظر أن يواجه النظام الجديد مشكلات أبسطها التركة القديمة والقوى المتبقية من الماضي، وأعقدها متطلبات تكيف الناس والتعامل مع تخوفاتهم وعدم تآلفهم مع الجديد. لهذا ينبغى أن توجه جهود منظمة ومقصودة لترسيخ النظام الجديد ويكون هذا بتعميق قناعة الأطراف التى تسيره وتتعامل معه، من خلال توعيتها وتوحد مصالحها معه.

خامسا: النخبة القيادية والعناصر المناصرة

لا يمكن تحقيق تحول استراتيجى ثورى إلا بقيادات وعناصر تملك الكفاءة والخبرة وكذلك روح وحماس الثورة والإيمان بتوجهاتها ومبادئها وضرورات وأولويات الإصلاح والتغيير إلى الأفضل لمصلحة جموع المواطنين. ولا يمكن قبول أن من شاركوا فى نظام الحكم ومنظومة الفساد بكل صوره وأضروا بمصالح الوطن وكانت لهم توجهات أفضت إلى ما آل إليه الوطن وقطاعات عريضة من مواطنيه واقتصاده ومؤسسات الدولة والمؤسسات السياسية من تراجع وتخلف وتبديد لفرص التقدم والتنمية، أن يكونوا هم أنفسهم قيادات الإصلاح وإعادة البناء. وفى هذا استمرار لتهميش وتجنيب عناصر وطنية كفؤة داخلية وخارجية، يحمل مخاطر جسيمة على الثورة. وخلال فترات التراجع والانهيار قد تبحث العناصر الكفؤة الطيبة عن فرص خارج الوطن ويستقر بها المقام كمغتربين فى بقاع شتي. وبعض هذه الطيور المصرية المهاجرة تملك خبرات نادرة يمكن استخدامها للإصلاح وإعادة البناء فى قطاعات عديدة. وهناك أنماط وصور شتى لجأت إليها الكثير من الدول لكيفية بناء روابط مع هذه العناصر للاستفادة منها.

ناهيك عن دعوتها للعودة والمساهمة فى المسيرة الجديدة وإعادة البناء بعد الثورة. ويمثل حسن اختيار القيادات والاستعانة بالعناصر الوطنية الكفؤة فى الداخل والخارج عاملا مهماً من عوامل نجاح التحول الثوري. وتعانى مصر حاليا من اضطراب المعايير فى اختيار القيادات وذوى الخبرة (مثل الوزراء والمحافظين والقيادات العليا والخبراء فى العديد من القطاعات) وفى كيفية التعامل مع النخبة والقيادات والعناصر القديمة. ويرجع هذا لعدم وضوح الرؤية واستراتيجية التحول من جانب، وعدم بلورة استراتيجية جديدة تتناسب مع غايات وأولويات الثورة فضلا على عدم إيلاء موضوع القيادات ونخب الكفاءات العناية الكافية من جانب آخر.

 

سادسا: تطبيق قواعد العدالة الانتقالية

نشأت مبادىء العدالة الانتقالية من واقع خبرات الدول التى قامت بالتحول إلى نظم ديمقراطية تقوم على احترام حقوق الإنسان بعد إسقاط نظم استبدادية أضرت بالمجتمع والمواطنين حيث انتهكت الحريات وحقوق الإنسان وسمحت للفساد بأن يتغلغل فى مؤسسات الدولة والمجتمع. وتشير هذه الخبرات إلى أن نجاح التحول يرتهن بالنجاح فى تطبيق العدالة الانتقالية تمهيدا لإرساء أسس النظام السياسى الديمقراطى الجديد. وتقوم هذه المبادىء على خمسة عناصر هى كشف الحقيقة، والمحاسبة والقصاص، وتعويض الضحايا أو جبر الضرر، والتطهير والإصلاح المؤسسى، وأخيرا المصالحة الوطنية. وقد استنبطت هذه المبادىء لتواجه احتياجات التحول خاصة فى المرحلة الانتقالية لتحقيق عدالة ناجزة تمهد لمصالحة وحماية المؤسسات من الوقوع فى ذات الأخطاء للنظام السابق وعلى نحو لا تفى به التشريعات والمؤسسات القائمة. ومنذ ثورة 25 يناير لم يتم تطبيق أى نوع من مبادىء العدالة الانتقالية. وهكذا كان أيضا ولا يزال وضع دول الربيع العربى. ويرجع هذا القصور إلى غياب الأدلة والبيانات والحقائق التى تمكن من تطبيق الشق الأول المتعلق بكشف الحقائق عما اقترفه النظام السابق وعما وقع من جرائم وانتهاك لحقوق الإنسان خلاله وإبان الثورة الجماهيرية ذاتها.

فالجزء الأكبر من هذه الأدلة كان فى حوزة أجهزة الأمن التى توفر فى الظروف العادية الوقائع والحقائق عن الجرائم التى ترتكب تمهيدا للمراحل التالية للتحقيق والمحاكمة. ولا يتصور أنه فى حالة كون هذه الأجهزة هى المتهمة خاصة عندما تكون التهم محل المحاكمة هى قتل وإصابة المتظاهرين (كما فى الحالة المصرية) وليس إفساد الحياة السياسية وإفساد سياسات ومؤسسات الدولة، أنها ستوفر الأدلة التى تدينها. كذلك فإن الدعوات والمبادرات التى ظهرت فى الساحة للمصالحة الوطنية، مثلت تعجلا وقفزا على مراحل ينبغى أن تسبق هذه المصالحة. كذلك لا يمكن أن توكل مهمة وضع أسس العدالة الانتقالية للمجلس التشريعى الجديد مثلما فعل واضعو دستور 2014 (وفى هذا خطأ كبير)، فهو مجلس لم توفر له أى شروط أو مقومات لضمان تعبيره عن الثورة، وبالتالى يفترض أن يجيء بعد تطبيق هذه الأسس وليس قبلها.

المفارقة الكبرى هنا هو استحداث منصب وزارى للعدالة الانتقالية بعد ثورة 30 يونيو لمدة تزيد الآن على عام ونصف العام دون أن تتخذ أى خطوات أو يتحقق إنجاز فى هذا المجال. هذه ثغرة كبرى ينبغى تداركها وإلا ستظل الأسئلة حائرة حول من أفسد الحياة السياسية وأفسد الدولة وأضر بمصالح مصر خلال أكثر من ثلاثة عقود؟ ومن قتل متظاهرى ثورة يناير وقتل المتظاهرين خلال مختلف أحداث السنوات الأربع الماضية؟ وأخيرا من قتل الناشطة شيماء الصباغ؟ ولماذا لم يتم توفير ضمانات لحماية الشهود على هذه الأحداث والأفعال؟ ولماذا لم تحسم هذه الأمور وتتم عملية المحاسبة والقصاص والتعويض عن الأضرار حتى يمكن أن تبدأ المصالحة؟ ويؤدى عدم إنجاز العدالة الانتقالية إلى استمرار شعور الأطراف المضارة المتمثلة فى بعض عناصر الجماهير والثوار وعائلاتهم بالظلم وتراجع تأييدهم، وربما تحولهم فى النهاية إلى قوة مناوئة بعد نفاد صبرهم وتبين عجز النظام الجديد عن تحقيق العدالة وتعويضهم، وبالتالى صعوبة الوصول إلى الحد الأدنى من التوافق المطلوب لنجاح التحول الثورى بكل أبعاده.

أحد أعمدة النجاح للثورة فى المدى القريب والمتوسط والبعيد، يتمثل فى الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وتنمية الوعى والتغيير الفكرى والثقافى والقيمي

سابعا: تعبئة وحشد الإعلام والتحول الثقافى

أحد أعمدة النجاح للثورة فى المدى القريب والمتوسط والبعيد، يتمثل فى الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وتنمية الوعى والتغيير الفكرى والثقافى والقيمي، التى يرتكز إليها تقدم الثورة وتوسيع دائرة التأييد والمناصرة لها واستمرار واستدامة التقدم والتنمية. وفضلا على هذا فإن هذا التغيير يمثل فى الوقت نفسه وسيلة لتحقيق التماسك الثقافى والوعى المجتمعى المستهدف الآن بالتفكيك والتشويه من قبل القوى المناوئة، وهى إحدى صور الحرب النفسية.

وتلعب مؤسسات تشكيل الوعى مثل المؤسسات الدينية والتعليمية والسياسية وأدوات التواصل الاجتماعى الحديثة والقنوات الفضائية والصحافة أدواراً مهمة فى الحفاظ على الروح المعنوية عالية فى مواجهة الحرب النفسية، وكذلك صناعة الفكر والرأى العام وتحقيق تماسكه، كما يمكن أن تسهم فى إضعافه وتشويهه، إذا لم تعمل وفق بوصلة تنطلق من المصالح القومية العليا. ولأن بلدا كمصر يواجه الآن حروبا عدة فى نفس الوقت، فإن الأمر يتطلب مواجهة استراتيجية متعددة الجبهات والأدوات، يمثل الوعى والفكر أحد أهم عناصرها. وينبغى هنا التعامل مع ما يستخدمه العدو والقوى المناوئة من استراتيجيات ووسائل لإضعاف الجبهة الداخلية والروح المعنوية.

بعض هذه الوسائل يستثمر ويعتمد على ما هو قائم من فكر دينى رجعى ومعتقدات مشوهة ومغلوطة تكون عبر قرون يسانده الجهل وهشاشة التعليم وما تم زرعه من تعصب ورجعية وجمود فكرى لدى المؤسسات الدينية ذاتها مثل الأزهر. والبعض الآخر يعتمد ويجد مادة خصبة فى أوضاع الفقر والعوز والبطالة والتخلف فى القرى الفقيرة والمناطق والأحياء الحضرية المهمشة والعشوائيات وفى أوضاع من يسهل تجنيدهم لأعمال البلطجة والتخريب ومنهم مثلا من كانوا منذ سنوات قليلة أطفال شوارع فأصبحوا الآن شبابا ضائعا. لذلك فإن تعبئة واستنهاض كل جهود الإصلاح الدينى من خلال حشد الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعى وإعادة توجيه مهام ومضامين أدوار مؤسسات ودور العبادة والبدء فى مسيرة ممتدة للتغيير والإصلاح الثقافى والقيمى التى سيكون لمؤسسات التعليم والمؤسسات الدينية والإعلامية وللدور والقدوة التى تمثلها النخب أدوارا خطيرة وحيوية فيها.

الحرب الفكرية والثقافية الدفاعية والوقائية وكذلك الهجومية فى المجال الفكرى والثقافى لا تقل أهمية أو خطورة عن الحراك والتغيير الذى يجرى فى مجالات أخري. فتحقق هذا التحول بتحرير وتنوير العقل هو الذى سيمكن مصر والمصريين من مسايرة العصر ومن التقدم وكذلك المساهمة فى الفكر الإنساني. لذلك ينبغى أن يخطط لهذه الحرب وأن تعد لها العدة وأن تشارك فيها وبهمة عالية مؤسسات وأطراف عديدة تملك القدرة على إدارة التحول والإبداع فى الاستراتيجيات والوسائل المستخدمة وتحقيق الانتصار فيها.

 

ثامنا: كسب وتوسيع دائرة الأنصار داخليا وخارجيا، وتحويلهم إلى شركاء استراتيجيين

التحول الشامل الذى تنشده الثورات يتطلب أرضية واسعة من المؤيدين والأنصار. فهؤلاء هم من تعتمد عليهم الثورة فى مسيرتها وهم من يدافعون عنها فى مواجهة محاولات التشويه والإجهاض وهجمات المناوئين والحروب التى تشن عليها من الداخل أو الخارج. لذلك فإن خلق قاعدة من المستفيدين من الثورة وتوسيعها باستمرار سيحقق ليس فقط العدالة والتضمين وإنهاء التهميش الذى قامت الثورة من أجله، وإنما أيضا فى خلق تجمعات لجنود مدافعين عن الثورة من بين جموع المواطنين. ولا يتحقق أو يكتمل هذا إلا من خلال إنجاز نجاحات مبكرة موجهة للفئات المظلومة والضعيفة والمهمشة، مثلما تم إيضاحه، وكذلك من خلال جبر الضرر والتعويض لمن أضيروا (العدالة الانتقالية)، ومن خلال كسب مشاركة فئات فاعلة مثل مجتمع المستثمرين وأصحاب الأعمال الوطنيين النزيهين والنخب الفكرية والعلمية.

ويعتمد النجاح أيضا على القدرة على اجتذاب واستقطاب تأييد ودعم سياسى واقتصادى وعسكرى خارجي. وقد نجحت القيادة السياسية فى المضمار الأخير بامتياز. ويهم فى المدى الأبعد أن يتم الاحتفاظ بدوائر الأنصار الداخليين والخارجيين. ويتحقق هذا بتحويلهم إلى شركاء من خلال مشروعات شراكة استراتيجية مثلما حدث خارجيا مع روسيا والصين والسعودية والإمارات. ويتطلب الأمر تعميق هذه الشراكات وتوسيعها لتضم دولاً أخرى تمهيدا لتوظيفها فى المشاركة فى مشروعات ومبادرات الاستثمار والتنمية (أحد أهداف المؤتمر الاقتصادى القادم) وكذلك توفير الدعم السياسى لمعالجة إشكالية مثل سد النهضة. يبقى أن يجرى تنمية شراكات مع دوائر التأييد والمناصرة الداخلية، فهى تمثل العماد الرئيسى فى تحقيق قوة وتماسك الجبهة الداخلية.

 

تاسعا: التحولات والإصلاحات المؤسسية

يتطلب تنفيذ الرؤية الجديدة والخطط والسياسات المنبثقة عنها إطاراً تشريعياً جديداً وقضاء ناجزا ونزيها ومؤسسات تنفيذية كفؤة وفعالة وخالية من الفساد، تدار وتراقب بنظم جديدة تضمن تحقيق الأهداف الموضوعة. ولا يمكن الاعتماد على ذات الإطار التشريعى ومؤسسات الدولة التى سادت خلال النظام القديم الذى ثار المجتمع ضده فى تسيير وإدارة شئون الدولة وصنع وتنفيذ سياساتها وبرامجها بعد الثورة. وتكمن الصعوبة هنا فى أن هذه المؤسسات مطلوب منها الاستمرار فى تقديم الخدمات الأساسية، وكذلك توفير بيئة داعمة للاقتصاد والإنتاج والاستثمار، فى نفس الوقت المطلوب تطهيرها من العناصر الفاسدة والموالية للنظام القديم (خاصة القيادات العليا) وكذلك إعادة تأهيلها وإصلاحها وتغيير نظم إدارتها وأساليب عملها ومساءلتها لتواكب النظام الجديد.

تتمثل نقطة البدء فى هذه المسيرة الإصلاحية فى إعادة هيكلة الحكومة وأجهزة الرقابة حتى يمكن أن تعالج فجوات استمرت وما زالت تشكل عقبة فى سبيل تضافر السياسات الحكومية وتكامل مسئوليتها عنها وتقوية آليات الرقابة. القيام بهذه المهام الجسام الصعبة وحل تناقضاتها وتعارضاتها، يتطلب مناهج وحلولاً مبتكرة ينبغى أن تستقى من الخبرات والمرجعيات العالمية، وأن تقوم عليها نخب عالية الكفاءة والخبرة ليس فقط فى الأبعاد الفنية للتحول المؤسسى، وإنما فى جوانبه وأبعاده السياسية والاجتماعية. وستفرض الملاءمات ألا يتم تغيير مؤسسات الدولة (فيما عدا إعادة هيكلة الحكومة والأجهزة الرقابية والأجهزة التى تتعامل مع القطاعات الاقتصادية) والنظام القديم فجأة أو كلية، ليتم بناء المؤسسات الجديدة بعد ذلك. فمثل هذه الحلول تكلف المجتمع كثيرا حيث يمكن أن تؤدى إلى الاضطراب وتعثر تقديم الخدمات خلال عملية تغيير المؤسسات القديمة، فضلا على المقاومة الكبرى من القائمين على المؤسسات والقطاعات المرشحة لإدخال تغييرات جذرية.

 

ويحتاج التغيير المطلوب فى التشريعات والمؤسسات إلى منهج مرن مبدع ومتجدد يحاول حل التناقضات التى تنشأ خلال التحول والإصلاح المؤسسى. ويقلل من هذه التناقضات وضوح فلسفة ومبادىء الثورة وبلورة الرؤية الاستراتيجية التى توجه عملية التغيير وإعادة البناء المؤسسى. ويفترض أن يلعب المجلس النيابى الجديد فى مرحلة لاحقة دورا مهماً فى الإصلاح التشريعي. لذلك فإن مراجعة قواعد تكوينه واختيار أعضائه على النحو الذى يكمل مسيرة التحول الثورى فى المؤسسات والتشريعات يمثل عاملا مهماً. وتواجه مصر تحديات هائلة لتحقيق الإصلاح التشريعى والمؤسسى المطلوب لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق الانطلاقة الاقتصادية ولاستكمال التحول الثوري. فقد وضع الدستور الأخير فى غيبة الفلسفة والمبادىء العليا للثورة.

لم تجر عملية تطهير لأجهزة ومؤسسات الدولة من العناصر الفاسدة، ولا اتخذت أى إجراءات جادة للتصدى للفساد، ولا خطوات ولو أولية فى مجال الإصلاح الحكومى والمؤسسى بما فى ذلك أجهزة ومؤسسات الرقابة. فذات المؤسسات الحكومية المترهلة والفاسدة لا يمكن التعويل عليها فى تقديم ما يشعر جماهير المجتمع بأن الثورة أتت بنتيجة وأحدثت تغييرا. وفضلا على هذا، فستجرى الانتخابات ويجيء مجلس النواب الجديد دون تنقية الساحة السياسية من العناصر القديمة التى كانت طرفا ضالعا فى الفساد السياسي، ودون توفير مقومات تصمن هوية المجلس وتوجهاته. ويكفى العدد المتضخم لحجم المجلس (أكثر من 630 عضواً) وعدم وجود شروط جادة للترشح والعضوية تتناسب مع جسامة وظائفه ومهامه خلال المرحلة القادمة، للدلالة على ما يمكن توقعه من أداء تشريعى ورقابى له. ففى ظل هذه المعطيات والمقدمات لن يكون أداء المجلس مميزا أو محققا لآمال أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين فى كل ربوع مصر فى 25 يناير ثم فى 30 يونيو. وسيتطلب الأمر أن يبادر الرئيس بما له من رصيد وتأييد شعبى بمجموعة من التغييرات والإصلاحات المؤسسية بما فى ذلك بعض التعديلات الدستورية وإعادة هيكلة أجهزة إستراتيجية، وقد يرى طرح بعضها فى حزمة واحدة للاستفتاء الشعبى العام.

 

عاشرا: وضع وتنفيذ والرقابة على سياسات العهد الجديد

سيمكن وجود رؤية استراتيجية تحدد الغايات والأهداف والأولويات من بناء الخطط والسياسات الجديدة على نحو يحدد وجهتها ويحقق تكاملها وتضافرها. ومن هذه الرؤية يتحدد ما الذى ينبغى تغييره فى السياسات الأمنية والخارجية والاقتصادية والإنتاجية وفى التعليم والبحث العلمى والتنمية التكنولوجية والصحة والإسكان والرعاية الاجتماعية والعمل الثقافى والفنى وفى البرامج والخدمات المحلية، وما أدوار الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى والإعلام فى هذه المجالات. ولا ينبغى أن يترك تحديد وتنفيذ والرقابة على هذه الخطط والسياسات بالكامل للكوادر الفنية فى كل جهة بمعزل عن بقية المؤسسات والأطراف المعنية وفى سرية تامة (مثلما يحدث الآن فى بعض القطاعات)، وإلا ستتحول الخطط والسياسات إلى جزر منعزلة لن تحقق النقلة النوعية والفاعلية المنشودة.

المطلوب أن توضع الخطط والسياسات الجديدة بشفافية وأن تعبر عن عهد جديد تمتزج فيه الخبرات الفنية بالخبرات والأبعاد السياسية والاجتماعية فى كل مراحل الإعداد والتنفيذ وكذلك المتابعة والرقابة على الخطط والسياسات، وأن تعتمد على المشاركة من قبل الأطراف والقطاعات المجتمعية المعنية والمتلقية لنواتج هذه الخطط والسياسات. وهناك دور ينبغى أن يفعل بقوة نتاجا للثورة وهو مشاركة جماهير المواطنين والتجمعات والنخب التى تعبر عنهم كمصادر للأفكار والمبادرات لحل مشاكل قائمة وكذلك فى متابعة العمل التنفيذى والأداء والنتائج المتحققة على أرض الواقع. وفى ضوء هذه الخطط والسياسات يتطلب الأمر المتابعة والرقابة استنادا إلى الأهداف الموضوعة ومقارنتها بالنتائج المتحققة، وأن تجرى محاسبة عن هذه النتائج. فلقد مرت مصر بعقود طويلة لم تجر فيها محاسبة جادة وحقيقية عن نتائج الخطط والسياسات، فكان طبيعيا ألا يتحقق تقدم فى أغلب الجبهات، ولهذا قامت ثورتا 25 يناير و 30 يونيو. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟