المركز العربي للبحوث والدراسات : الشراكة الصينية الروسيـــــة وتباين الموقف الصيني تجاه الحرب الروسيــــــة على أوكرانيــــــــا (طباعة)
الشراكة الصينية الروسيـــــة وتباين الموقف الصيني تجاه الحرب الروسيــــــة على أوكرانيــــــــا
آخر تحديث: الأحد 26/02/2023 10:44 ص
إيمان حشاد إيمان حشاد
الشراكة الصينية الروسيـــــة

فشلت جهود الوساطة الأوروبية في التفاوض لتسوية الصراع الروسي الأوكراني منذ بدايته عام 2014، كذلك فشلت إجراءات العقوبات الاقتصادية الأمريكية -الأوروبية على روسيا في إجبار بوتين على التراجع عن سياساته تجاه أوكرانيا والتنازل عن شبه جزيرة القرم. واستمرت التوترات المتلاحقة والتصاعدات المستمرة بين روسيا من جهة والغرب من جهة أخري حول أوكرانيا، إلى أن أعلنت روسيا ودون سابق إنذار الحرب على أوكرانيا وبدأت في شن عمليات عسكرية هجومية شاملة على المدن الأوكرانية في 23 فبراير 2022. وما بين بداية الأزمة وتطورها إلى مرحلة الحرب المسلحة حرصت الصين على انتهاج سياسة وسطية إزاء الأزمة تعتمد على الحياد الحذر لمراعاة مصالحها الوطنية مع كافة الأطراف.

إن التصريحات الرسمية الصينية بشأن صداقتها مع روسيا وعلاقاتهما الاستراتيجية التي وُصفت بـــ "الصلبة"، وما أُشيع في تقارير- نفت الصين صحتها- أن الصين خططت مع روسيا للحرب ضد أوكرانيا وتدعمها عسكرياً واقتصادياً في الحرب، والدعم الصيني الدبلوماسي لأوكرانيا وتأكيدها علي احترام سيادة الدولة وسلامة أراضيها والذي يتزامن أيضاً مع دعمها الدبلوماسي والاقتصادي لروسيا، ورفضها حتي الأن تسمية الحرب الروسية علي أوكرانيا بالغزو العسكري الروسي وعدم إصدارها بيان رسمي يدين "الحرب الروسية علي أوكرانيا" حتي الأن، إن كل ذلك يؤشر علي أنه وإن كانت هناك محددات وقيود علي الموقف الصيني من الحرب، إلا أنها بموقفها الحيادي الحذر والمتمسك بعلاقات صداقة مع روسيا تحقق مكاسب استراتيجية عالمية في تحديها للهيمنة الغربية علي النظام الدولي في إطار التوافق الروسي الصيني علي مواجهة الاستراتيجية التوسعية لحلف شمال الأطلنطي والعمل بشكل تدريجي ومنظم علي إنهاء زمن القطبية الاحادية والتحول نحو هيكل نظام الدولي متعدد الأقطاب تلعب فيه كل من روسيا والصين والقوي الأسيوية الصاعدة دوراً مؤثراً في السياسة الدولية ومتحدياً للدور الغربي ومؤسساته الأمنية والاقتصادية.

وانطلاقاً من هذا، تستهدف هذه الورقة البحثية تحليل تباين الموقف الصيني تجاه الحرب الروسية علي أوكرانيا في إطار الشراكة الروسية الصينية من خلال الوقوف علي تصريحات الصين الرسمية بشأن الحرب، وما إذا كان هناك تناقضاً في هذا الموقف بين التصريحات الرسمية والممارسة الفعلية أو السلوك الخارجي الصيني، ثم الوقوف علي المحددات والقيود التي ترسم وتفرض هذا الموقف الصيني، وما إذا كان الدور الصيني تجاه الحرب الروسية علي أوكرانيا مرتبطاً بمصالحها الوطنية فقط أم أنه يرتبط بالاستراتيجية العالمية للصين وتعتبره الصين حلقة من حلقات الصراع الاستراتيجي مع الغرب ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي.

أولاً الموقف الصيني من "الحرب الروسية على أوكرانيا":

تضمن موقف الصين من الحرب الروسية على أوكرانيا تناقضاً واضحاً يُثير تساؤلات بحثية متعددة أمام المحلل السياسي ليقف على تفسيرات ذلك التناقض والحدود والقيود التي تحكم هذا الموقف. فعلي نقيض الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الاوروبي ودول العالم الراضية عن النظام الدولي الحالي، لم تعلن الصين اتهاماها لروسيا بعدم الشرعية الدولية ولم تعلن صراحةً إدانتها للحرب الروسية على أوكرانيا، كذلك لم تستخدم التصريحات الرسمية ووسائل الإعلام الرسمية الصينية مصطلح "الغزو الروسي على أوكرانيا" بل أنها تصفه بــ "العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا" منذ اندلاع الحرب في فبراير 2022 حتى الأن. أي أن الموقف الرسمي لجمهورية الصين الشعبية لم يكن مؤيداً بشكل رسمي للحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه كان متناقضاً لعدم إدانته للحرب، أو اعتبارها غزو لأوكرانيا، إلى جانب رفض بكين الانضمام إلى العقوبات الغربية الاقتصادية المفروضة على روسيا، مع إلقاء اللوم على الغرب في تأجيج الصراع، والتصريح بأن الاستراتيجية التوسعية لحلف شمال الأطلنطي هي السبب الرئيسي في الصراع منذ بدايته.

 فقد صرحت الصين بأنه "نأمل أن تلتزم جميع الأطراف الدولية بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة بحل الخلافات من خلال المفاوضات ومعالجة المخاوف المشروعة لجميع الأطراف ومنع استمرار تصعيد الموقف". ولم تُلقي الصين اللوم على روسيا بأي من التصريحات والمواقف الرسمية، ولكنها أرجعت السبب الرئيسي في الصرع إلى توسعات حلف شمال الأطلنطي. فقد صرح وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" بـــ: "ضرورة احترام أراضي الدول وسيادتها بما في ذلك أوكرانيا مع وجوب التعامل بشكل مناسب مع مخاوف موسكو". ولم يختلف هذا الموقف الصيني عن موقفها من الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014 حيث لم تعلن الصين رسمياً اعتراضها علي الضم ولم تعتبره احتلال وتوسع إقليمي، بالإضافة إلي امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الأمريكي الألباني لإدانة روسيا في ضم القرم مستخدمةً في ذلك حق الفيتو باعتبارها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي.

وعلي نهج متوازي صوتت الصين لصالح روسيا ضد اقتراح الجمعية العامة للأمم المتحدة في إبريل  2002 الهادف إلي تعليق عضوية روسيا في منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والعديد من المنظمات والهيئات التابعة للأمم المتحدة كالوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما دعمت الصين روسيا وصوتت لصالحها بقوة ضد قرارات مجوعة دول العشرين(G20) المتمثلة في استبعاد ممثلي روسيا من المؤتمر الاقتصادي للمجموعة كعقاب علي "غزوها لأكرانيا"، فقد صرح وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" في إفادة صحفية دورية بأن: "مجموعة العشرين هي المنتدى الرئيسي للتعاون الاقتصادي الدولي، وروسيا عضو مهم ولا يحق لأي عضو طرد دولة أخرى".

كذلك دعمت الصين روسيا في مواجهة حكم رئيسي صادر ضدها بمحكمة العدل الدولية يقضي بأن "علي الاتحاد الروسي أن يوقف فوراً العمليات العسكرية التي بدأها في 24 فبراير 2022 علي أراضي أوكرانيا"، وتصريح رئيسة المحكمة القضائية الأمريكية "جوان دنجو" بأن "المحكمة ليس لديها أيه أدلة تثبت المزاعم الروسية بارتكاب إبادة جماعية علي الأراضي الأوكرانية للمواطنين الروس وأن اتفاقية الإبادة الجماعية لا تعطي أية سلطة لاستخدام القوة من جانب واحد في أراضي دولة أخري"، فقد صوتت 13 دولة لصالح قرار المحكمة في مقابل صوتين ضد القرار وهما الصين وروسيا.

 وعلى الرغم من عدم تصريحها بإدانة الحرب الروسية على أوكرانيا، التزمت الصين بمنهجها الوسطي الحذر في السياسة الخارجية، ولم تبد أية انحياز رسمي لروسيا في دفعها رسمياً بتصريحات تؤكد على احترامها للشرعية الدولية ولقواعد ومبادئ القانون الدولي في احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وكذلك مبدأ التسوية السلمية للمنازعات الدولية. إلا أنها في الوقت نفسه دعمت الحرب الروسية على أوكرانيا ضمنياً من خلال سلوكها الدولي؛ حيث امتعت الصين كما ذكرنا عاليه عن التصويت على قرار لمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة يدين العملية العسكرية الروسية في أراضي أوكرانيا. وفي تصويت منفصل على مشروع قرار أخر لمجلس الأمن خاص بإدانة روسيا على الوضع الإنساني في أوكرانيا كانت الصين هي الدولة الوحيد التي صوتت مع روسيا. وقد تزامن هذا الموقف الضمني مع تصريحات تتناقض معه لوزير الخارجية الصيني "وانغ يي" قائلاً "إن الصداقة بين الشعبين الصيني والأوكراني متينة جداً وأفاق التعاون المستقبلي للجانبين واسعة جداً، والصين سترسل مساعدات إنسانية إلي أوكرانيا، وهي علي استعداد للعمل مع المجتمع الدولي للقيام بالوساطة اللازمة".

 كذلك رفضت الصين الموافقة على العقوبات الغربية على روسيا جراء حربها على أوكرانيا واعتبرتها عقوبات أحادية الجانب، وحذرت كذلك من المساس بشركاتها ومصالحها الاقتصادية المرتبطة مع روسيا باعتبارها "جار صديق". ففي تصريحه خلال فعاليات الدورة الخامسة للمجلس الوطني الثالث عشر لنواب الشعب الصيني في مارس 2022 صرح وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" بأن: "الصين وروسيا عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي ولدينا شراكة استراتيجية وعلاقتنا هي الأكثر أهمية على صعيد العلاقات الثنائية" كما صرح أيضاً: "العلاقة بين روسيا والصين تقوم على أسس الديناميكية بين الدولتين وهي متينة كالصخر". ومع ذلك لم تعلن الصين صراحةً تأييدها للحرب الروسية على أوكرانيا. وتؤشر تلك التصريحات الرسمية أن العلاقات الروسية الصينية وإن كانت لم ترتقي بعد إلى مستوي التحالف السياسي والدبلوماسي والعسكري إلا أنها وصلت إلى ذروتها من خلال التصريحات الرسمية التي تؤكد تمسك الصين بعلاقات صداقة وثيقة مع روسيا رغم تعرضها للإدانة الدولية وللعقوبات الغربية. فهي وإن كانت لا ترغب – وفقاً لتصريحات مسئوليها- في استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وإن كانت ترغب في لعب دور بنَاء في الوساطة بين الطرفين للتوصل إلي اتفاق وتؤكد علي دعمها لجهود تحقيق السلام ودعم الاستقرار ووقف إطلاق النار ومشاركتها في الجهود الإنسانية الداعمة لأوكرانيا، إلا أنها في الوقت ذاته تقدم مساعدات عسكرية وغذائية إلي روسيا لدعمها في حربها ضد أوكرانيا بما يراعي تحالفاتها وشركاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع روسيا.

وقد تأكد الإصرار الصيني علي دعم روسيا في أزمتها الحالية وعدم التخلي عنها كحليف استراتيجي من خلال موقف الصين خلال الاجتماعات المطولة التي عقدت في العاصمة الإيطالية روما بين "جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي الأمريكي و "يانغ جيشي" كبير مسئولي السياسة الخارجية الصينية في مارس 2022. فقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال محادثات مطولة إقناع الصين بالتخلي عن موقفها الحيادي تجاه الحرب الروسية الأوكرانية والانضمام إلى السياسات الغربية لفرض عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا، إلا أن روسيا رفضت الاعتراف بالعقوبات المفروضة على روسيا وحرصت على علاقات الصداقة معها والتي وصلت إلى مستويات متقدمة من التعاون الاستراتيجي في كافة المجالات، والذي لا يمكن للصين التنازل عنه لأن الصين تدرك جيداً أن تخليها عن روسيا سيضعف مكانتهما في الصراع الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وخلال الاجتماع السنوي لقمة منظمة شنغهاي في سبتمبر2022 أكد الرئيس الصيني "شي جين بينغ Xi Jinping " خلال كلمته أن: "الصين مستعدة للعمل مع روسيا في تقديم دعم قوي لبعضهما البعض في القضايا المتعلقة بمصالحهما الجوهرية" مؤكداً أن الصين ستعمل مع روسيا لتعميق التعاون العملي في التجارة والزراعة والتواصل ومجالات أخري.

واعترفت الصين بشكل رسمي ومعلن عبر تصريحات وزير خارجيتها بأن هناك مخاوف أمنية روسية مشروعة يجب مراعاتها مع توجيهها الاتهام إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأنها هي التي تدعو للحرب، وبناءً عليه امتنعت عن التصويت على مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس 2022 الذي يطالب روسيا بالتوقف عن استخدام القوة ضد أوكرانيا بتصويت أغلبية 141 دولة. وهنا يتضح أن احترام الصين لقواعد القانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة وهمياً لأنها بذلك تدعم استخدام روسيا القوة المسلحة في تسوية نزاعها مع أوكرانيا، وتحبط الدور الأممي الذي تقوم به الدول في إطار منظمة الأمم المتحدة في تسوية النزاعات سلمياً. كذلك عرقلت الصين المحاولات الدولية لتطويق روسيا لإنهاء حربها على روسيا عندما عارضت فرض العقوبات الاقتصادية علي روسيا باعتبارها إحدى وسائل التسوية السلمية التي يتم اتباعها للضغط علي أحد أطراف النزاع الدولي للتراجع عن سياسته أو لتقديم تنازلات من شأنها أن تساعد علي تسوية للنزاع. فقد صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية "هوا تشين ينغ" بأن "الصين لا تعتقد أن العقوبات الاقتصادية هي أفضل وسيلة لحل المشكلات، وأنها لم تؤت ثمرها في السابق".

كذلك انتهجت وسائل الإعلام الرسمية لجمهورية الصين الشعبية استراتيجية إعلانية مدافعة عن روسيا ومروجة لمبررات روسيا في عملياتها العسكرية في أوكرانيا حول مخابرات الأسلحة البيولوجية التي تديرها الولايات المتحدة الأمريكية على الأراضي الأوكرانية، وهو نفس الاتجاه الذي ساد معظم وسائل التواصل الاجتماعي الصينية المحملة بالدعم القومي لروسيا، فعلي الرغم من وجود اتجاهات داخل المجتمع الصيني تنتقد تأييد الحرب علي حساب الأوكرانيين إلا أن التوجه العام للإعلام القومي الصيني يركز علي الاتهامات الروسية للغرب في تبرير الحرب.

ومن خلال العرض السابق لموقف الصين تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا يمكن استخلاص المؤشرات والملاحظات الأتية على الموقف لصينين من "الحرب الروسية علي أوكرانيا":

1-  (تناقض واضح في الموقف) أن هناك تناقضاً واضحاً في الموقف الصيني تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا 2022 بين التصريحات الرسمية والسلوك السياسي الفعلي، وهو ذات الموقف الذي انتهجته الصين حيال الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014. والتي يُمكن أن نطلق عليها سياسة الحياد الظاهري والدعم الضمني من خلال التصرفات والسلوك.

2-   (غلبة المصلحة الوطنية) أن المصلحة الوطنية الصينية هي المحرك الرئيسي لموقفها من الحرب لأنها ترعي سياسة "منتصف العصا" و "الوسطية وعدم الانحياز" لحماية مصالحها الاقتصادية مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي.

3-  (فوائد بعيد المدي من الحرب) إذا كانت الصين ترتبط بعلاقات تبادل تجاري قوية مع الغرب، فإن موقفها من الحرب الروسية على أوكرانيا وعدم إعلانها إدانة روسيا أو اتخاذ موقف سياسي واقتصادي ضدها يوضح أولوية التنافس الصيني مع الغرب على قيادة النظام الدولي في ترتيبات أجندة السياسة الخارجية الصينية. إن الصين من منطلق شراكتها الاستراتيجية مع روسيا تستطيع التدخل بدور محوري في تسوية الأزمة الروسية الأوكرانية لكنها قد تكون بشكل كبير مستفيدة من استمرار الحرب؛ لأن الصراع بالنسبة للصين ليس حول أوكرانيا في حد ذاتها وإنما الهدف هو الخروج من المرحلة الانتقالية التي يمر بها هيكل النظام الدولي وحسم نهاية تلك المرحلة لصالح حدوث تغيير جوهري في طبيعة النظام الدولي ينتهي فيه دور الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أوحد قائد للنظام الدولي ومهيمن على العمليات السياسية الدولية وعملية إدارة الأزمات والصراعات الدولية، وما يتبع ذلك من مزيد من التراجع في الدور الأوروبي في النظام الدولي. وبطبيعة الحال إذا تأكد ذلك السيناريو وفقاً لما ستؤول إليه الحرب الروسية الأوكرانية الحالية في المطاف الأخير فإن التحول الذي سيشهده النظام الدولي سيكون لصالح كل من روسيا والصين والقوي الاقتصادية الآسيوية.

4-  (فرض الأمر الواقع) إن كل من روسيا والصين تتبعان سياسة فرض الأمر الواقع علي المجتمع الدولي بما يخدم حماية المصالح الاستراتيجية الحيوية لكلا البلدين، وهو ما يؤكده الإصرار الروسي علي عدم التنازل والتراجع عن شبه جزيرة القرم منذ ضمها عام 2014 حتي الأن وما تواصله السياسة الروسية من استخدام كل ما هو متاح من أدوات ووسائل لتحقيق مصالحها وإحراز مكاسب في صراعها الاستراتيجي مع دول حلف شمال الأطلنطي في منطقة المجال الحيوي الروسي، ويعززه الموقف الصيني المتحدي للإرادة الدولية والذي يتمسك بروسيا جارته وشريكته الاقتصادية والاستراتيجية بما يحمي الاقتصاد الصيني من الضرر ويخدم الاستراتيجية العالمية الصينية.

5-  (حدود للدعم الصيني لروسيا) إن موقف الصين من الحرب الروسية على أوكرانيا لم يتعدى مستوي الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لروسيا، في ظل فرض العزلة الدولية على موسكو، ولم يرتقي حتى الأن إلى التحالف العسكري الرسمي، وإنما هي شراكة دبلوماسية اقتصادية لمحاولة احتواء التحدي الغربي وإحباط الاستراتيجية التوسعية الشرقية لحلف شمال الأطلنطي، بما يخدم المصالح الاستراتيجية الصينية في تحديها للهيمنة الأمريكية.

 

ثانياً" حدود وقيود الموقف الصيني من الحرب الروسية على أوكرانيا":"

إن الصين رغم إعلانها رسمياً الحيادية واحترامها لقواعد القانون الدولي وعدم تبنيها قرارات الحرب واستخدام القوة في تسوية النزاعات الدولية، إلا أنها تمسكت بدعم روسيا ضمنياً ولم تُدين ما أطلقت عليه "العمليات العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا"، بل ورفضت إطلاق مصطلح "الغزو العسكري" على الحرب.

وقد أصبح الدعم الصيني لروسيا في الحرب على أوكرانيا يُفسر في الوسط الأكاديمي وبين السياسيين بأنه حلقة من حلقات الشراكة الصينية الروسية في الصراع الاستراتيجي على قيادة النظام الدولي بين قوي المراجعة الغير راضية عن مكانتها الدولية الحالية وهي (روسيا والصين) من ناحية والدول الراضية عن النظام الدولي أحادي القطبية والتي تسعي للحفاظ عليه لأنه يحقق مصالحها وأمنها القومي وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك الدعم الصيني لروسيا والذي يتناقض بشكل واضح مع ادعاءاتها بشأن الشرعية الدولية واحترام سيادة الدول واستقلالها، إلا أن هناك محددات وقيود استراتيجية تحكم الموقف الصيني من الحرب وتجعل ما ستؤول إليه الحرب الروسية على أوكرانيا سلاح ذو حدين بالنسبة للصين. يأتي علي قمة هذه التحديات كل من ملف تايوان، الشراكة الروسية الصينية.

(1)           أثر قضية تايوان على موقف الصين تجاه "الحرب الروسية على أوكرانيا":

يأتي ملف تايوان في مقدمة المحددات والقيود التي تحكم موقف الصين الحرب الروسية على أوكرانيا، فعندما رفضت الحكومة الصينية فرض عقوبات على روسيا جراء عملياتها العسكرية في أوكرانيا كان ذلك لمخاوف تبادل الملفات وقيام موسكو بمعاملة بكين بالمثل في حالة قيامها بتنفيذ خطة إعادة توحيد الأمة الصينية بالقوة أي ضم تايوان للصين. فقد صرحت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الصينية "هوا تشونينغ" في مؤتمر صحفي بالعاصمة الصينية بكين أن: "الصين لا تعتقد قط أن العقوبات هي أفضل طريقة لحل المشاكل". كما أن الصين لم تعلن رسمياً إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ولم تشير إلى الأحداث على أنها غزو أو عدوان. إن حكومة الصين تتبني رسمياً مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للأخرين وهو ما يعكس تناقضاً في المبادئ التي تحكم سياستها الخارجية ويبرز أهمية ملف تايوان بالنسبة للصين لكنها في نفس الوقت لا تريد أن يُنظر إليها على أنها داعمة للحرب في أوروبا. وإذا كان هناك اختلافاً بين كل من أوكرانيا، التي تعتبر دولة مستقلة ذات سيادة تتعرض للتدخل الخارجي من قبل روسيا ثم العدوان المسلح من جهة، وتايوان التي تعتبر جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية تتمتع بالحكم الذاتي وتسعي الصين لتوحيدها مع الدولة الأم من جهة أخري؛ إلا أن قضية تايوان تظل قيداً من قيود الموقف الصيني من الحرب الروسية علي أوكرانيا.

وبطبيعة الأمر سبب هذا الموقف الصينين قلقاً لكل من تايوان ودول أوروبا الشرقية خوفاً من تكرار سيناريو أوكرانيا، فقد صرحت رئيسة تايوان "تساي اين جون" خلال اجتماع مجموعة عمل مجلس الأمن القومي بشأن الأزمة الأوكرانية بأنه: "على كل الوحدات الأمنية والعسكرية أن ترفع مستوي مراقبتها وإنذارها المبكر لتطورات عسكرية حول مضيق تايوان". وفي إطار مبادئ شرعية الحزب الشيوعي الصيني وما جاءت به سياسة الرئيس الصيني "شي ينغ" منذ توليه السلطة عام 2012 من مصطلح "تجديد شباب الأمة الصينية العظيمة" تستهدف الصين إعادة التوحيد من تايوان الذي جاء انفصالها نتاج ضغوط إمبريالية، إلى جانب التنمية الاقتصادية ورفع مستويات المعيشة. وتقوم الصين بخطوات تمهيدية لضم تايوان منذ عام 2021 من غارات جوية للطائرات الصينية على حدود الدفاع الجوي التايواني ومناورات عسكرية استفزازية، وفي حال اعتزام الصين على توجيه الضربة العسكرية لضم تايوان سيدعمها في ذلك امتلاكها ألاف الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز ودعمها الدبلوماسي والاقتصادي لروسيا في حربها على أوكرانيا. وهو الأمر الذي سيفرض، في حال حدوثه بتحالف روسي- صيني، اختباراً جديداً لصلاحية القيادة الأمريكية للعالم وشرعية النظام الدولي الحالي.

إن خطورة ملف تايوان بالنسبة للصين لا يرتبط فقط بهدف توحيد الأمة الصينية وضم تايوان، وإنما هو متعلق بشكل كبير بالأهمية المزدوجة التي تحتلها تايوان في اقتصادي كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية. حيث؛ تصنع تايوان 90% من الرقائق الإلكترونية التي تُستخدم في صناعة الأسلحة النووية والذكية التي تتحكم بالطائرات الحربية والهواتف الذكية وكل شيء له صلة بالكهرباء. فتلك الأهمية التكنولوجية العالية التي تتمتع بها تايوان جعلتها موضع اهتمام وتنافس بين كل من الصين والغرب، الأمر الذي يجعل ضم الصين لتايوان يمثل تهديداً كبيراً لمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا خاصةً وأن تايوان تعتبر ثاني أكبر أهم الممرات الملاحية في العالم وأكثرها ازدحاماً بالسفن التجارية. كما أنها تتحكم في 20% من التجارة العالمية بقيمة 5 مليون دولار سنوياً، وإذا سيطرت عليها الصين ستكون متحكمة في 60% من التجارة العالمية. وانطلاقاً من هذا أصبحت حدود السياسة الصينية تجاه الحرب الروسية علي أوكرانيا مقيدة بحسابات قضية تايوان.

كذلك أثارت الحرب الروسية علي أوكرانيا مخاوف دول شرق أسيا من الصين، واحتمال تكرار السيناريو مع تايوان أو غيرها من الدول الجيران، فعلي سبيل المثال قام رئيس وزراء اليابان السابق "أبي شينزو" بتوجيه الدعوة لطوكيو للنظر في عقد اتفاقية استدعاء رؤوس نووية مشتركة مع الولايات المتحدة تسمح لواشنطن بتأسيس أسلحة نووية علي الأراضي اليابانية، والتخلي عن سياسة الغموض الاستراتيجي حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ستدافع عن تايوان ضد الغزو الصيني المحتمل أم لا، داعياً اليابان للتخلص من المحرمات الخاصة بامتلاكها للأسلحة النووية في أعقاب انتهاء الحرب في أوروبا. في حين ردت الصين بغضب على تلك الدعوة.. أما تايوان نفسها فقط أثارت الحرب الروسية على أوكرانيا مخاوفاً استراتيجية لديها دفعتها للاستعداد للحرب وإعداد برامج احتياطية لإصلاح الجيش والتأهب لحالة الحرب.

الموقف الصيني تجاه الحرب الروسية الأوكرانية يُصعد ملف تايوان في السياسة الخارجية الأمريكية

كان قرار "بوتن" باستخدام القوة العسكرية وشن الحرب على أوكرانيا عاملاً من عوامل تأجيج الصراع الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة الامريكية فيما يخص أزمة تايوان، وما تتمتع به من مخاطر جيوسياسية. فمن ناحية أولي تتوافق وجهات النظر الروسية والصينية في رؤية كل من روسيا والصين لأوكرانيا وتايوان؛ حيث ينظر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتن" إلى أوكرانيا على أنها جزء من أراضي روسيا الاتحادية ويستخدم كل ما هو متاح لديه من مقدرات قومية في سياسته الخارجية تجاه الغرب فيما يخص أوكرانيا. ويتوافق معه الرئيس الصيني "شي جين بينغ" في النظر إلي تايوان على أنها جزء من أراضي الصين. وقد كان لهاتين الرؤيتين المتوافقتين تداعيات على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الصين التي تنتهج النهج التصادمي تجاه بكين وتلوح بقضية تايوان واستعدادها لاستخدام القوات العسكرية الأمريكية للدفاع عن تايوان في حال استخدام "شي جين بينغ" القوة العسكرية لضمها. وهو ما جعل الصين تكثف من تواجدها العسكري بالقرب من تايوان من خلال  عمليات عسكرية في المجال الجوي لتايوان خلال الفترة من مارس إلي مايو 2022 والتي حققت رقماً قياسياً خلال شهر مايو 2022 بحوالي 196 عملية توغل، وهو الأمر الذي يعكس الاستعداد والتأهب الصيني لأية تحركات أمريكية تخص ملف تايوان علي خلفية موقفها من حرب أوكرانيا.  ويؤشر على ذلك التصريحات العدائية المتبادلة بين واشنطن وبكين بشأن ملف تايوان والتي أُثيرت بعد إعلان روسيا حربها علي أوكرانيا. حيث تُؤكد تصريحات الرئيس الأمريكي "جون بايدن" خلال لقاء صحفي له مع شبكة CBC NEWS الأمريكية على أن واشنطن ستدافع عن تايوان إذا شنت الصين هجوماً غير مبرراً، وهو ما ردت عليه بكين واعتبرته "هجوماً غير مسبوقاً من واشنطن على بكين". وفي هذا الإطار صرح وزير الخارجية الصيني بأن: "تصريحات الولايات المتحدة تنتهك بشدة الالتزام الهام الذي تعهدت به بعدم دعم استقلال تايوان، وإرسال رسالة خاطئة بشكل خطير إلى قوات الاستقلال التايوانية الانفصالية".

وما يبرز من أهمية ملف تايوان كورقة ضغط في حلقة الصراع الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية هو ذلك التناقض الذي تتصف يه السياسة الأمريكية تجاه قضية استقلال تايوان، ففي الوقت الذي صرح فيه "جون بايدن" باستعداد بلاده لدعم تايوان إذا تعرضت لغزو الصين، فإن موقع وزارة الخارجية الأمريكية يشير إلى: "نحن لا ندعم استقلال تايوان" ولا زالت هذه هي السياسة الرسمية التي ينتهجها وزير الخارجية الأمريكي "أنطوني بلينكين". ويعكس ذلك بطبيعة الحال أن واشنطن وإن كانت لا تدعم استقلال تايوان بشكل رسمي إلا أنها قد تتدخل عسكرياً لدعمها في حال الغزو الصيني لها كردع لقوة الصين وامتدادها الجيواستراتيجي وليس دعماً لقضية الاستقلال.

ويأتي هذا الوضوح الاستراتيجي الأمريكي في التعامل مع الصين في إطار التحول الذي تشهده توجهات السياسة الخارجية الأمريكية منذ تولي "جون بايدن" الرئاسة والتي تركز بالأساس على إعطاء أولوية للداخل الأمريكي وملف الاستقرار الأمني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.  فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي "أنطوني بلينكين" عن عدم رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في الدخول في حرب باردة مع الصين وبدلاً من ذلك تركز السياسة الخارجية الأمريكية علي تشكيل البيئة الاستراتيجية حول بكين بما يواجه التحديات التي تفرضها الصين من أجل إعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً لمنظومة القيم الصينية. وبناءً على تلك السياسة تقوم الإدارة الأمريكية بتشكيل تحالفات دولية وإقليمية لاحتواء الصعود الصيني؛ منها على سبيل المثال اتفاقية "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا، وتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة للصين مثل رابطة "أسيان" دول جنوب شرق أسيا، تحالف "كواد" الذي يضم كل من الولايات المتحدة الأمريكية أستراليا والهند.

ومن خلال أهمية ملف تايوان بالنسبة للصين يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل سيناريو مطروح أمام بكين لدراسة خيار الحرب في ضم تايوان فبعد مرور عام كامل على بداية الحرب الروسية علي أوكرانيا برزت تحديات ومصاعب الحل العسكري وتكليفاته وتأثيراته. إلا أن هناك نتيجة تحذيرية أخري قد تجعل الصين تتباطئ في اللجوء للحل العسكري في تايوان وهو الصورة الذهنية للصين في دول العالم الثالث، فقد أسفرت الحرب الروسية الأوكرانية والدعم الصيني لروسيا عن زياه تمسك دول الكومنويلث المستقل عن الاتحاد السوفيتي بالسعي نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والالتفاف حول الدفاع عن أوكرانيا. ومن ناحية أخري تقف السياسة العدائية التي أصبحت الولايات لمتحدة الأمريكية تنتهجها حيال الصين فيما يخص تايوان كمحدد قوي من محددات الدعم الصيني لروسيا في حربها على أوكرانيا.

 

(2)           أثر الشراكة الروسية الصينية على الموقف الصيني تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا:

تجمع الصين وروسيا علاقات شراكة اقتصادية وطيدة تخدم المصالح الوطنية لكل منهما، لكن الصين تمتلك اليد العليا في تلك العلاقة وتحقق معدلات عالية من النمو على حساب التعاون مع روسيا، ومع ذلك تحقق روسيا هي الأخرى مكاسب من الشراكة مع الصين التي تُعتبر شبه كاملة. ويساعد الاقتصادان المتكاملان على تلك الشراكة بين البلدين؛ حيث تعتبر الصين بالنسبة لروسيا سوقاً ومصدراً رئيسياً للتمويل لأنها على عكس الأنظمة الغربية لا تضع اشتراطات للتعاملات التجارية والصفقات الاقتصادية ولا تجبر موسكو على انتهاج سياسات معينة أو إجراءات إصلاحية داخلية كشرط مسبق للشراكة والاستثمار، كذلك يعتمد النجاح الاقتصادي والصناعي للصين على الإمدادات الثابتة من الكربوهيدرات الروسية وغيرها من المواد الخام. وفي حلقة متصلة أصبحت روسيا في أمس الحاجة لرأس المال الصيني بعد عزلتها عن الغرب منذ ضم القرم 2014 وصولاً إلي العقوبات علي الحرب الروسية الأوكرانية، والتي أصبحت الصين علي إثرها المورد الرئيسي للألات في روسيا والبديل المتاح للاستثمارات والأعمال التجارية الأجنبية داخل روسيا بعد أن أصبحت موسكو أقل جاذبية للمستثمرين بعد سياسة العقوبات الغربية.

إن الشراكة الصينية الروسية لا تتمثل فقط في التبادل التجاري المتنامي والمصالح الاقتصادية المشتركة في آسيا الوسطي وأوروبا والتي تُزيد من القدرة التنافسية للشركات الصينية علي النطاق العالمي، وإنما تُشير الشراكة الصينية الروسية إلي التهديد الذي تمثله للغرب والذي ينبع من الجهود الثنائية للبلدين لتعديل هيكل النظام الدولي لصالحهما. فقد أوضحت الحكومة الصينية أنها ستظل حليفًا استراتيجيًا لروسيا على الرغم من أن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يُنظر إليه عالميًا على أنه "المعتدي في الحرب". وبهذا تكون بكين قد أسقطت الغموض الدبلوماسي حول موقفها من خلال الترويج للرواية الروسية، قائلة إن الولايات المتحدة مسؤولة عن الأزمة. كما أعلنت عن دعم تجاري لمساعدة روسيا على تحمل العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة عليها. كما تري الصين أن عقلية الحرب الباردة من جانب كل من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي هي التي أدت إلى الحرب في أوكرانيا وستكون سبباً في استمرار الصراع الأيديولوجي التاريخي بين القوى العالمية. كذلك ركزت التصريحات الرسمة الصينية على هذا النهج بتصريح الرئيس الصيني " شي جين ينغ" بأن: "الشيء الوحيد الأكثر خطورة هو السعي وراء الهيمنة وقمع الآخرين الذين يقاومون مجرى التاريخ". فعلى الرغم من أنه لم يذكر اسم الولايات المتحدة ، إلا أنه كان من الواضح أن هذه الرسالة كانت موجهة إلى واشنطن.

الحرب الروسية على أوكرانيا تكشف عن عدم قوة الدبلوماسية الصينية في تقدير حيثيات وزمن الحرب

تري بعض التحليلات أن الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت عن عدم قوة الدبلوماسية الصينية في تقدير حيثيات وزمن الحرب، وقد اتضح ذلك مع إعلان الرئيس الصينين "شي ينغ " ونظيره الروسي "فلاديمير بوتين" بياناً مشتركاً عن "التعاون بلا حدود" بين الدولتين. هذا إلى جانب التصريحات الرسمية المتتالية والمتزامنة مع أحداث الحرب، والتي تؤكد على التزام جمهورية الصين الشعبية بالطبيعة المقدسة للعلاقات مع موسكو والدعم المستمر لها. الأمر الذي يثير تساؤلات وتكهنات عديدة حول طبيعة ومستوي الشراكة الثنائية الروسية الصينية الذي تعبر عنه بكين وبشكل رسمي أمام العالم أنه صداقة وتعاون "بلا حدود" مع موسكو التي تتوجه لها أصابع الاتهام وتتعرض لعقوبات دولية جراء حربها ضد روسيا. هذه الشراكة الصينية كشفت عن السياسة الخارجة الصينية المزيفة التي تدعي منهج الحيادية والوسطية وعدم الانحياز كقوة عظمي فعالة في النظام الدولي. فإذا كانت الدبلوماسية الصينية رصينة وتستند إلي أهداف تحقيق السلام الدولي ما كانت تلك الدبلوماسية تُقيد بالشراكة مع روسيا، فمع ادعاءات بكين لتصريحاتها بالرغبة في تقديم جهود الوساطة والتفاوض للتوصل لتسوية مرضية لطرفي النزاع، إلا أنها تُقرن تلك الادعاءات بتصريحات تؤكد علي أهمية مراعاة المخاوف الأمنية الروسية في الاعتبار وترفض أيضاً أية إدانة رسمية للعمليات العسكرية الروسية علي أراضي أوكرانيا منذ فبراير 2022 حتي الأن، الأمر الذي يعكس بوضوح عدم الحياد في ضوء تأكيد التضامن مع روسيا وإلقاء اللوم علي حلف شمال الأطلنطي والولايات المتحدة الأمريكية في تأجيج الصراع.

وفي إطار التركيز علي الشراكة الاقتصادية كإحدى العوامل والمحددات التي تؤثر علي الموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية، أعطت جمهورية الصين الشعبية أولوية للشراكة الاقتصادية مع روسيا علي بقية المحددات الأخرى إذا قُورن موقفها بموقف الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي الذين تجمعهم علاقات تبادل تجاري وتكامل اقتصادي مع روسيا نجد أن الغرب انتهج سياسة الفصل، وأظهر استعداده لتحمل التكاليف الاقتصادية لمعاقبة روسيا وردعها عن انتهاج سياسة توسعية إمبريالية في دول الكومنويلث المستقلة عن الاتحاد السوفيتي. أي أن الصين ركزت على عدم إلحاق الضرر بمصالحها الاقتصادي المرتبطة بالشراكة مع روسيا في حين يلتزم الغرب بالحد من الضعف السياسي الذي ينبع من الاعتماد الاقتصادي الذي يربطه مع روسيا. ومع ذلك، هناك شكوك حول مدي قدرة الأنظمة السياسية الغربية علي تحمل الأثار السلبية للعقوبات الاقتصادية المفروضة علي روسيا علي المدي الطويل، ما إذا كانت تلك الأنظمة الغربية تستطيع انتهاج نفس السياسة في مواجهة الصين في حال نشوب نزاع حول تايوان في ظل عدم فعالية سياسة فرض العقوبات الغربية مع روسيا في أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014، فلا تزال روسيا تتمسك بالقرم ولم تغير سياستها الخارجية تجاه أوكرانيا واستمرت في استفزاز الغرب في أوكرانيا إلي أن أعلنت رسماً ضم إقليمي (الدونيستك و لوجانيسك) ثم شنها الحرب علي كييف في فبراير 2022.

هل كانت روسيا تستطيع الصمود بدون الشراكة مع الصين؟

تُشير بعض الدراسات والتحليلات أنه بدون العلاقات الوثيقة التي تجمع روسيا بالصين لما امتلك بوتن القدرة على المغامرة بشن الحرب على أوكرانيا، ولما كانت له القدرة على تحمل تكاليف العقوبات الغربية المفروضة عليه جراء الحرب. أي أن هناك اتجاه من الدراسات التحليلية للحرب تشير إلي الشراكة الروسية الصينية كعامل مؤثر مزدوج يؤثر بشكل متزامن علي عاملين تابعين وهما: الموقف الصيني من الحرب، وقوة روسيا في إجراءات الحرب ومدي قدرتها علي الصمود والإصرار علي تنفيذ أهدافها في أوكرانيا في ظل الاتهامات الأمريكية للصين بأنها كانت علي علم مسبق بخطة فلاديمير بوتن لشن الحرب علي أوكرانيا.

ومن ناحية أخري حفزت الشراكة الصينية الروسية بكين على تغيير نهج سياستها الخارجية المعتاد من الحيادية الكاملة إلى الانحياز الداعم لموسكو وإصرارها على خروج موسكو منتصرةً من الحرب، من خلال إلقاء اللوم على الولايات المتحدة الأمريكية في هجوم روسيا على أوكرانيا، والذي اعتبرته الصين عمليات عسكرية خاصة جاءت رداً على تصورات الكرملين المشروعة بانعدام الأمن الإقليمي.

ومع ذلك يمكن القول أن هناك حدود لهذه الشراكة والدعم الدبلوماسي الصيني لروسيا في حال تضاؤل المكاسب والأرباح الاقتصادية التي تحققها الصين بدعمها لروسيا على المدي البعيد في مقابل خسارتها للصفقات الاقتصادية مع الغرب في ظل العيوب والمشكلات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الروسي. تلك الشراكة الصينية الروسية محفوفة أيضاً بمخاطر أمنية واستراتيجية في حال التركيز الأمريكي علي ترسيخ السياسات الأمنية والاقتصادية لمحاربة بكين في المحيطين الهادئ والهندي للرد علي التهديد الأمني الصيني الروسي المتزايد، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية حققت أهدافها حتي الأن في تشتيت الضغط الاستراتيجي الأمريكي علي الصين في المحيط الهادئ تزامناً مع المخاوف الصينية الروسية من إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيتها الأمنية في المحيطين الهادئ والهندي، لأن الصين أصبحت بموقفها حيال الحرب الروسية الأوكرانية تشكل أكبر مشكلة استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.

تحديات أصبحت الشراكة الروسة الصينية تفرضها علي سياسة الصين الخارجية

وبناءً على ما تم عرضه من دور الشراكة الروسية الاستراتيجية كمحدد لموقف الصين من الحرب الروسية على أوكرانيا يمكن الدفع بأنه على الصين أن تتخذ خطوات أكثر حيادية وبرجماتية في طريق تحالفها الاستراتيجي مع روسيا لتخفيف حدة الضغط الاستراتيجي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية ضدها، أو أن تنجح من خلال شراكتها مع روسيا في تحقيق المزيد من النفوذ الاستراتيجي المضاد. حيث تلعب الصين دور القوة الوحيدة غير الغربية القادرة على إحداث توازن جوهري في العقوبات المفروضة على روسيا، بالإضافة إلى دعمها الاقتصادي لروسيا في المراحل الأولي من التخطيط للحرب على أوكرانيا.

وعلى الرغم من ظهور أراء تتنبأ بمزيد من التقارب الصيني الروسي بعد الدعم الصيني لروسيا في حربها على أوكرانيا بناءً على ما تم عرضه من دعم دبلوماسي واقتصادي وتكنولوجي وتصريحات تؤكد صلابة العلاقات الثنائية وقدسيتها، إلا أن هناك تنبؤات متناقضة بأن الحرب الروسية على أوكرانيا قد تعطل روابط الشراكة وتعميق العلاقات بين موسكو وبكين. وتستدل تلك التنبؤات بالتأثيرات السلبية للتقارب الروسي الصيني على مسار العلاقات الأمريكية الصينية ومن ثم على النظام الدولي ككل. وبعبارة أخري أدي الموقف الصيني من حرب روسيا علي أوكرانيا إلي تحول مسار العلاقات بين واشنطن وبكين من مسار المنافسة القوية المدفوعة بالمصالح إلي معاملة الولايات المتحدة الأمريكية لكل من الصين ورسيا كقوى معادية وأعداء قابلين للتبادل وراغبين في استخدام العنف لتغيير النظام الدولي في إطار الصراع الإيديولوجي بين الديموقراطية والاستبدادية.

وخلاصة القول:

تقوم الشراكة الصينية الروسية علي شقين الأول اقتصادي تجاري والثاني شراكة أمنية، ويحكم تلك الشراكة التوافق الثنائي حول المصالح الاقتصادية والتهديدات الخارجية التي تؤسس للعمل الاقتصادي المشترك، لأن الضغط الذي تعرضت له كل من الصين وروسيا من قبل حلف شمال الأطلنطي وضع أمامهما تحدي التعاون والشراكة من أجل إثبات أنهما قوي عظمي تعديلية على النظام الدولي القائم الذي لا يراعي مصالحهما. ولم يكن لتلك الشراكة أن تصل إلى ما وصلت إليه- "الشراكة بلا حدود"- إلا من خلال العلاقات الاقتصادية المتكاملة والتي تركزت منذ عام 2014 على مجالات الطاقة والغاز والنفط. لكن في ظل كون روسيا منافساً عسكرياً للصين، وفي ظل الاعتماد الاقتصادي المتبادل الذي يربط الصين مع الغرب لا بد وأن يكون لتلك الشراكة حدود ومن الواقعي الاعتراف بأن الدعم الصيني لروسيا في حربها على أوكرانيا مشروط ومقيد بالحفاظ على المصالح الاقتصادية الصينية وعلي مكانتها الأمنية والاستراتيجية علي المستويين الإقليمي والدولي.