المركز العربي للبحوث والدراسات : توظيف الأمثال الشعبية في الخطاب السياسي (طباعة)
توظيف الأمثال الشعبية في الخطاب السياسي
آخر تحديث: السبت 24/09/2022 08:08 م
الصادق الشعراني الصادق الشعراني
توظيف الأمثال الشعبية

مقدمة

لطالما أُعتبرت الأمثال الشعبية في كثير من الأحيان مادة مُحملة بالحكمة، عميقة المعنى، ومُشبعة بالتجارب، وهو ما أعطاها القُدرة لنقل خبرات الأسلاف عبر الزمن، وأيضا أعطى لها قوة دفع حجاجية كعنصر إقناع. يهدُف هذا البحث الي تقصِي ورصد إستخدامات الأمثال الشعبية في الفضاء السياسي العام مابعد ثورة ديسمبر 2018م، وذلك عبر متابعة إستخدام المثل في الخطابات السياسية، لمعرفة مدى إنتشار ذلك الإستخدام، ومُساهمته الأمثال في الخِطاب السياسي، ومن ثم رصد الخصائص العامة للظاهِرة إرتبطاتها بالخطاب السياسي العام.

تتناول هذه الورقة في الفصل الأول، الإطار النظري، من حيث تعريفات الأمثال وتصنيفاتها، ثم التطرق لوظائف الأمثال الشعبية المختلفة.وأخيراً نتطرق لطبيعة الخطاب السياسي في الفضاء السوداني بعد ثورة ديسمبر 2018م، وعرض نماذج من إستخدام الأمثال الشعبية في الخطاب السياسي المباشر من قبل المشتغلين بالسياسة ،والمتفاعلين معها.

وفي الإطار المنهجي،ونسبة لطبيعة الدراسة،يتناول الباحث الموضوع ، في أبعاده الزمانية والمكانية المحددة. ستأخد منهجيتها أبعاد مختلفة، يمتزج فيها السيسيولجي الإجتماعي كحامل للتراث الشعبي مع البُعد السيكولوجي كموقف نفسي وعقلي لحامل الثرات.

ستهتُم هذه الدِراسة بعرض نماذِج من تلك الإستخدامات، في وسطها وسياقها السياسي والإجتماعي المُتعلق بحياة الناس السياسية. وهي غالباً إستخدامات لفظية - شفاهية – تُستخدم بشكل مُستمر في الحياة اليومية لمختلف الفاعلين والمتفاعلين مع الشأن السياسي العام.

أهمية البحث

إن ما دفع الباحث لهذا الموضوع هو أن لديه إعتقاد بأن للمثل فعالية في التخاطب السياسي والتواصل الإجتماعي، وهذا الموضوع تمت دراسته من زوايا عديدة، أغلبها إجتماعية وفلكلورية وحتى فلسفية، ولكن لم يُضاء عليه بالقدر الكافي في أبعاده السياسية.كما يتضح لنا من خلال عرضنا للدراسات السابقة التي ناقشت الموضوع.  

أهداف البحث : يمكننا أن نُجمل أهداف هذا البحث في التالي :

1.      رصد وتوثيق توظيف المثل الشعبي في الفضاء السياسي بعد ثورة ديسمبر 2018م.

2.      الإضاءة على أهمية المثل كحامِل للحكمة.

3.      توضيح أهمية المثل الشعبي في فهم وفعالية الخطاب السياسي.

منهجية البحث

بطبِيعة الموضوع المُراد دِراسته يطال النهج الفلكلوري المرويات الشفاهية والمدونة، ولا يفصِل الظاهرة عن سِياقها الإجتماعي والسِياسي والثقافي. ولكن هنا في ثنايا هذا البحث نتلمس الإستفادة من المنهج الإستقرائي.

الدراسات السابقة

هناك دراسة لسليمان يحى محمد(1)، قارب فيها إنعكاس صورة المراة في المثل الشعبى في دارفور، وقد تطرق البحث للخصائص الفنية والنواحي الوظيفية للمثل الشعبي، كالتعليم والتوجيه والإرشاد والسخرية والنقد والتحذير والتشريع. كما تعرض البحث الي دراسة العناصر والمكونات الإجتماعية، وتفاعلاتها مع المثل وبيان وظائفه. أيضاً إهتمت الدراسة بالدور الذي يمكن أن يلعبه المثل الشعبي في تنمية المرأة، وذلك في إطار مفهوم التنمية المتكاملة بمعناها الشامل.خلص الباحث إلى أن ثمة علاقة بين التوجهات الإجتماعية والثقافة، كحامل لمفاهيم متعلقة بالمراة، فقد إنصب إهتمام المثل على الجوانب التي تساهم في تهمييش دورها في المجتمع الدارفوري، والتي في غالبها مفاهيم سالبة تنتقص من حق المراة.فتوصل الي إهمال المثل الشعبي المحلي للمجهودات الكبيرة  للمرأة في عمليات الإنتاج في الزراعة والرعي، غير أن المثل أهمل هذا الجانب أيضاً وإختزل دورها في الإنجاب.

بالنسبة لدور المرأة السياسي، يعتقد الباحث أنه كان حاضراً بفكرها ورأيها في توجيه  السِياسات العامة، إبان عهد الممالك والسلطنات، إضافة لدورها في المقاومة الوطنية. وتمثل دورها الثقافي في إنتاج الشعر والقصائد كشاعرة محلية، والتي تسمى "حكامة" في الأدب الشعبي المحلي. وفي المحصلة،  يرى الباحث أن ماعبرت عنه الأمثال الشعبية، لا يمكن تغييره، إلا بإحداث تغيير شامل ومتكامل يهدف للتحديث في الواقع، وخلخلة البناء الإجتماعي ونظمه وأنساقه، بغرض التغيير في الافكار والمفاهيم. وأشار لعدة وسائل ومجالات متنوعة، يُمكن توظِيف المثل الشعبي من خلالها. وأنا أتفق مع الباحث في الحوجة لهذا التحديث، ولكن أرى أن هناك دور إجتماعي يمكن أن يلعبه حكماء المجتمع  وأعيانه، فضلاً عن شعرائه وأدبائه، لتكريم المراة وتعظيم دورها في الأدب الشعبي عموماً، والأمثال على وجه الخصوص لتعمل كرافعة ثقافية لمكانة المرأة في المجتمع الدارفوري.

وهناك دراسة لدانيل أوشينغ(2)، تعرضت للتحول الهائل والعميق لحياة الناس اليومية في أفريقيا الذي ترتبط جذروه  بالغِنى الثقافي للقارة الأفريقية. الذي تُعتبر الأمثال الشعبية أحد مستودعاته الغنية والزاخرة بالخبرة والحكمة، وأيضاً تعتبر وسائل وأدوات لتحليل الأفكار والأنماط الإجتماعية. تناولت الدراسة  إستخدام السياسيين والأحزاب السياسية الكينية للأمثال الشعبية بكثافة، وذلك بغرض تقوية مواقفهم ومراكزهم السياسية، في الحملات الوطنية والسباقات الإنتخابية، فضلاً عن إستخدامها بكثرة في منصات الإعلام. وركز الباحث على إستخدام السياسين والأحزاب في كينيا  للمثل، على السواء ،وذلك بغرض خطب ود الناخبين وإستمالتهم،  وكذلك في إستخدامات أخرى  في تفنيد وجهات النظر المعارضة.وفي إعتقادي أن الدراسة نجحت في إلقاء بعض الضُوء على إستخدام المثل في الفضاء السياسي الكيني، وتقبل الكينيين كشعب إفريقي صاحب ثقافات محلية متنوعة،  لهذه النوعية من الخطابات مما، يدلل على فعاليتها في هذه المنطقة من العالم، وذلك نظرأً لتشابة خصائص المجتمعات التقليدية في القرن الإفريقي .

في الفضاء الإجتماعي تناولت  دراسة لعبدالباقي دفع الله وسمية عبدالرحمن(3) ، بالبحث والتحليل، المضمون المعرفي في بُعديه النفسي والإجتماعي، الذي يؤديه المثل الشعبي السوداني في عملية التنشئة الإجتماعية. خلصت الدراسة لعدد من النتائج ،أبرزها تطرق الحس الشعبي متمثلاً في الأمثال إلى أسس تكوين الأسرة، إبتداءاً من مراحل إختيار الزوجة وإنتهاءاً بزواج الأبناء.

ثم الإنسجام والتوافق، وأن التوافق السوي إحدى مبتغيات الحس الشعبي التي يحققها عبر المثل.إضافة إلى إبراز أهمية بناء شبكة علاقات إجتماعية، مثل العلاقة بالرفاق وعلاقات الجوار وبقية أفراد المجتمع. كما أبرز الباحثان مكانة المثل ،خاصة في مضامين القيم الإجتماعية التوافقية مثل : العمل والكرم والتعاون والتسامح. وإستهجان القيم اللاتوافقية مثل :النفاق والبخل والطمع. وأوصت الدراسة بتوجيه الجهود العلمية بدراسة الأدب الشعبي والتوثيق الثقافي بغرض إعداد مادة معرفية، تساهم في التثقيف والإرشاد في مجالات إجتماعية ونفسية وروحية. وأن يستفيد القائمون على العلاج النفسي والسلوكي من المعاني والمفاهيم التي تحملها نصوص الأمثال الشعبية.أعتقد أن الباحثان وُفقا في توضح المحمولات القيمية للأمثال، ولم يقفا عند هذا الحد، وإنما أوصيا  بتوظيفها لأغراض العلاج النفسي والسلوكي، وهو أمر جدير بالبحث نظراً لقيمته العلاجية والتربوية التي تنبع من قوة المثل نفسه. 

وفي سياقات الحِجاج والإقناع، تناولت دراسة لبيلا جلونتي(4) موسومة بـ: المثل كأداة إقناع في الخطاب السياسي، وتحديداً في اللغة الفرنسية والجورجية . فتمت دراسة وتحليل المقالات والخطاب السياسية في البلدين. وأظهرت الدراسة أن الأمثال الموجودة والمستخدمة ليست فقط فرنسية الأصل، وأغلب إستخدامات الأمثال في الخطاب الفرنسي كعناويين للمقالات في الصحافة والإعلام، أما في جورجيا تُسخدم الامثال المعروفة للعامة, ويُستشهِد بها في عنوان المقال. وخلص الباحث في الختام إلى إستخدام السياسيين للأمثال كأداة إقناع في البلدين إلى حد كبير. ويكون ذلك الإستخدام فعالاً عندما يكون مقنعاً، ويؤدي إلى ردات فعل عاطفية ، كما إستخلص الباحث أن الأمثال هي واحدة من تقنيات الحِجاج المِفتاحية. وهذا أمر أتفق معه، نظراً لطبيعة المثل كرسالة قصيرة تُفضِل معظم شعوب العالم إستقبالها،أو تداولها، بسبب خصائصها الفنية والفلسفية.

أما الأمثال كقنوات للفلسفة(5)، فذلك طريق سلكه حامد طاهر في كتابه الفلسفة المصرية في الأمثال الشعبية وهي محاولة منه لإستخلاص الفلسفة من المثل الشعبي المصري، وذلك إلاحاقاً لبحث سابق له تحت عنوان : نحو فلسفة مصرية. إعتمد الباحث على الأمثال كأحد مصادر الفلسفة، وتتبعها وتفحصها، ورصد الفلسفات الموجود داخلها.وخلص في نهاية الكتاب المشار إليه إلى أن الأمثال المصرية وُضعت في عهد المصريين القدماء، وإنتقلت للعهد القبطي فأضاف إليها , ثم العصر الإسلامي فأثر فيها.  أما الأمثال الشعبية المصرية ، فهى كنز يحتوى على الكثير من اللآلئ المشعه، التى لا تتوقف أشعتها عن اللمعان . وقد أهملها الباحثون فى الفلسفة لأنها وردت إلينا باللهجة العامية ، ولم ترد باللغة الفصحى ! ويشير الباحث إلى أهمية أن ندرك أنه حين وُضعت، إنما كان يراد بها عامة الشعب المصرى وليس فئة محدودة العدد منه. وقد ظلت الأجيال تتناقلها وترددها ، وتنعكس فى حياتها وتعاملاتها اليومية، وخلص إلى القول إنها كانت بمثابة معالم يستهدى بها الإنسان المصرى فى فكره وسلوكه.وهو أمر مفهوم ومتوقع لما تحمله الأمثال من حكمة قادرة على ضبط الفضاء الإجتماعي.

وحول صفة شعبية المثل،أو المفهوم الشعبي فهنالك عدة أراء لعلماء علم النفس الإجتماعي، أوردت عبدالباقي دفع الله وسمية عبدالرحمن مقاربات ريتشارد فاكس، التي تتبنى :" أن مفهوم "شعبي" يشير إلى مجموعة من الأفراد ، الوطن الواحد على إختلاف إنتماءاتهم الطبقية ومستوياتهم المهنية التعليمية ".(6) وكل هذه الفئات تقع تحت طائلة تأثير الثقافة الشعبيةالسائدة.وبالتالي الخضوع لسلطة المجتمع ،الذي تمثل الثقافة الشعبية جزئية من تكوينه.  

أولاً- تعريف الأمثال .. التصنيف والوظائف

1-تعريف الأمثال الشعبية

على الرغم من قِدم المثل، وأنه من أعرق فنون القول عند البشرية،إلا أنه لا يعرف له تاريخ معين. ولم يُجمع علماء التراث على أصله ونشأته. إلا أنه يمكننا القول بأنه قديم قِدم اللغات نفسها، ولذلك يُقال للأمثال أنها فنُ القدِيم. وكما يقول المثل الغربي: "أن المثل لا يأتي من العدم". فحيثما وجدت لغة، وجد القول المأثور والنص المنثور، وذلك في جميع اللغات. وفي الأديان ورد المثل بكثافة في الإنجيل، في العهد القديم والجديد، وكان العِبريون ميالين للألغاز والإبهام، ولذلك كانت أمثالهم ملغزه، على عكس العرب في الجزيرة العربية، كانوا أميل للوضوح. فجاءت الأمثال في القرآن الكريم غايه في الوضوح والبلاغة، متناسبة مع الطبيعة والبيئة التي نزلت فيها.

يقول العرب الأمثال مصابيح الكلام. والمثل ينشأ بطارئ التكرار في المواقف والأحداث، ويتمثل بإجترار الموقف للتشابه. ويُقال أيضا الأمثال فلسفة الجماهير، وفي ذلك إعتبر خيري شلبي، في تقديم كتاب فلسفة المثل الشعبي للشاعر إبراهيم أبو سِنه أن المثل هو نوع من عصير الحياة، ومحلول الخبرة والتجربة الإنسانية في جميع مجالاتها، أما صاحب الكتاب نفسه، فيسميها الفلسفه الشعبية التي تقدم ذاتها بذاتها، ولفحص المثل ومقاربته يتوجب الرجوع إلى الأدب الشعبي. لأن المثل سليل الأدب ومظهره. فالأدب الشعبي هو المرآة التي تعكس حقيقة الحياة لمجتمع أو جماعة ما، والمثل هو فن من فنونها الشعبية، كما يشمل أنواع أخرى كالقصص والألغاز والسِير الشعبية والأساطير.

وفي الأديان، إستخدمت الكتب السماوية الأمثال بكثرة، فضربت الأمثال في القران الكريم، وكتبت في ذلك الكتب والدراسات.أما بالنسبة للتوراة ، فلقد تضمن العهد القديم سفراً  كبيراً عرف بإسم (سفر الأمثال)، وإقتصر على الأمثال والحكم الجارية مجراها، وقد نُسبت الكثرة المطلقة من محتوياته لسليمان، أما في العهد الجديد فإن الذين نقلو عن السيد المسيح - عليه السلام – كانوا قد أكثرو من الإشارة لضربه للأمثال.حتى قال محمد جابر الفياض: "حتى لكأنه لم يكن يبلغ الجموع  تعاليم رسالته إلا بالأمثال".(7)

لقدت حدثت طفرات أكاديمة في دراسة الأدب الشعبي، عبر توظيف وإستخدام العلوم المتداخلة في فهمها ودراستها، والتوسع في نطاقات وساحات الثقافة التقليدية، وظهر ذلك جلياً  في دراسات الانثربلوجيا الثقافية. على هذه الخلفية، سنقدم على الإضاءة على الأدب الشعبي من بُعدين، إستناداً على شروحات محمد الجوهري في علم الفلكلور. الأول سيكوسيسولجي يُقدم لنا تعريفات متطورة حول عامة الناس والشعب. وتطور المفهوم "الشعبي" من جماعة إجتماعية معينة، إلى شكل من أشكل السلوك المشترك، بدرجات متفاوته. والثاني أن هناك زاوية سيكلوجية، فجميع المِهن والأعمال والمكونات المجتمعية يشتركون في خاصية كونهم "شعباً". بهذا المعنى يخضع الفرد لسلطان المجتمع وتراثه، وفي هذا المذهب، يستشهد الجوهري بقول ليوبولد شميدت:"يوجد في داخل كل إنسان شد وجذب دائميين بين السلوك الشعبي وغير الشعبي " ولذك يتضح عند  كل إنسان في المجتمع موقفان مختلفان إحدهما فردي، والآخر شعبي أو جماعي".(8)

يعتبر المثل وجه من وجوه الأدب الشعبي، وتسري عليه خصائة وصفاته، أما من حيث التعريف في سياق اللغة والمصطلح  فهناك العديد من التعريفات، والمدلولات المتداولة. فبعض المعاجم كلسان العرب والقاموس المحيط، تُعرف المثل لغةً على أنه :

 أنّ للفظ “المثل” معانى مختلفة في اللغة، كالنظير والصفة والعِبرة، وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه، إلى غير ذلك من المعانى.

وتعرفه في  الإصطلاح:  قسم من الحِكم، يرِد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها. ثمّ يتداولها الناس، في الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
                وهناك من يعرف الأمثال على :" أنها الجمل القصيرة، والعبارات المختصرة التي تشبه القصة القصيرة ،وتتحدث عن تجربة معينة مر بها أشخاص في زمن معين، يتناولها الناس عندما يُعاد الحدث نفسه، على شكل مختلف من الناس، بينما الوقائع التي قيلت فيها هذه الامثال نعيشها في أي حِقبة من الزمن. كما يرى البعض بأن المثل هو الشبه، وهناك من يعتبر أن المثل هو الحكمة.ويُقال أن كلِمة المثل تعني المُوازنة والمقارنة. ومشتقة من اللغة اليونانية،  لمقابلة كلمة مسل في العبرية، للتوسع في معنى المجاز، كما أشار لذلك سليمان يحي.

أما تعريف المثل عند الغرب، فقد أوردت فتحية بخالد تعريفاً عن معجم لاروس للأمثال، وهو معجم فرنسي القول بأن وضع تعريف دقيق للمثل، غير ممكن،وأن أحسن تعريف له هو ذلك الذي يقبل الإحتمالات. بهذا المعني تحديداً تتبني هذه الدِراسة التعريف القائل بأن المثل هو : القول القصير المموثق ذي معنى مخصوص بحال ومقال.

تتنوع مصادِر المثل ومنابعه، من الحِكايات المنقولة شفاهة، أو التجارب والمُمارسات، ولذلك تجد أن مصادر المثل متعددة، بتعدد موضوعاته وتنوع مدلولاته وفضاءاته التي يعتمل فيها. فقد يكون مستمد من التراث الأدبي الشعبي، أوالسرديات المحلية أو العادات الشعبية. كذلك الأدب الكلاسيكي نجده غنى بالأمثال والحكم. ويرى نعوم شقير بأن للأمثال مقامات مشهورة تظهر بها ويقول:"فإذا عرضت الحالة وناسب المقام أخرجها أهل النظر والخبرة بما راع من اللفظ وبدر من المعنى فتبرز في الكلام ممُمتازة عنه فيتناولها  الجمهور ويتداولها في حالاتها ثم تنتشر وتدوم بالإستعمال".(9)

كما يمكن أن تُرجع بعض الأمثال في أصلِها ومصادرها للغة العربية الفصحى، كلغة سابقة للغة العامية في المنشأ والوُجود، وكحامِلة للثقافة العربية والإسلامية. هذا علاوة على مصادر مهمة أخرى، كالطبيعة، والجغرافيا التي تؤثر في تحديد وتوجِيه بيئة المجتمعات. هذه المجتمعات أيضا تتداخل في ثقافاتها وعاداتها وإقتصاداتها وتنتج الأمثال بطريقة أو بأخرى كمحصلة لهذا التداخل.

2-وظائف الأمثال الشعبية

للمثل وظائف عديدة، تختلف بإختلاف المجتمعات التي تتداوله، يعتمد ذلك على نوعية وتكوين تلك المجتمعات، فالأمثال في المجتمعات التقليدية، تخلتف من تلك التي تُوجد في المجتمعات الحديثة. وبالتالي تختلف وظيفة المثل بإختلاف نوع المجتمع. وصحيح أن المثل الشعبي قد يكون مجهول المؤلف، إلا أنه في كل الحالات معلوم الوظيفة، ويعتمد ذلك في المقام الأول على سِياق التمثيل والتشبيه. بهذا المعنى تكون الوظيفة الأساسية للمثل الشعبي هي" ضبطية"، ولكن ضبطيه عُرفية، تهدف للضبط والسيطرة، على المجال المُجتمعي العام، في السلوك والرأي، وذلك بقوة دفع العقل الجمعي للمجتمع، تتفرع منها وظائف أخري تعمل نفس سياق المجتمع ويمكن أن نذكر منها على سبيل المثال :

-الوظيفة التواصلية:

الخصائص الفنية للمثل الشعبي، كالقِصَر والإيجاز، جعلته أداة مثالية لنقل الحكم والعبر، والأحكام،  من الأزمنة السابقة للوقت الحاضر، ويقوم بعملية الرصد والتسجيل والنقد، وبالتالي يعمل كوسيط ناقل، وحامل للموروث الغير مادي للجماعات، وكحامي لعادات تلك المجتمع من الإندثار، علاوة على أنه يعتبر مستند إثنوغرافي، تتداوله الجماهير في عاديات الحياة اليومية ومعالجاتها. كقول المثل في السودان:"الماعندو قديم ماعندو جديد".

-الوظيفة التعليمية (الأخلاقية):

وقد يعمل المثل أيضاً كضابط ورابط للأخلاق والسلوكيات، وهي وظيفة تربوية بإمتياز. يوظف المجتمع المثل الشعبي لتهذيب النشئ، وتقويم أفراد المجتمع، ولذلك يعتبر بمثابة الضابط الاجتماعي. ويتحقق ذلك عبر مجموعة تشريعات مجتمعية حاكمة، مستمدة من السلطة التي يمنحها الوعي الجمعي للمجتمع للمثل نفسه. وفي هذا السياق نورد المثل السوداني :"الأكبر منك بيوم،أعرف منك بسنة".

-الوظيفة الثقافية الإجتماعية:

يمكن أن تكون للمثل وظائف فنية ترفيهية، أو حتى ثقافية بغرض الفكاهة والسُخرية وإثارة الضحك، وذلك بالفعل موجود في كثير من المجتمعات. ويمكن أيضا أن تتقاطع مع وظيفة دينية، ولذلك أمثلة كثيرة، مثلاً، الصبر مفتاح الفرج ،والتي هي دعوة دينية بالأساس.ولكن يمكن أن تجدها نفس هذه المعاني في ثقافات أخرى، في سياقاً إجتماعي،كالمثل الأمازيغي الصبر تقريبأً يصنع أجنحة.الذي يحشد الحس الشعبي للصبر كقيمة إجتماعية.

ثانياً- توظيف الأمثال الشعبية في الخطاب السياسي السوداني

1-طبيعة الخطاب السياسي في السودان

لقد طور كل من علماء اللغة والتفسير والبلاغة مفهوم الخطاب عبر الزمن ، وذلك تم عبر تطور تلك العلوم نفسها . وقد عرف الآمدي الخطاب مراعياً فيه خصوصية قصد الإفهام بقوله: (إنه اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.(10) حتى أصبح مصطلح الخطاب. معلوم الدلاله في سياقه، سوى كان خطاب ديني، أو خطاب ثقافي، أو خطاب سياسي. ويرى حسن مروان أن الخطاب السياسي يراد ويقصد به خطاب السلطة الحاكمة في شائع الاستخدام. وهو الخطاب الموجه عن قصد إلى متلق مقصود، بقصد التأثير فيه وإقناعه بمضمون الخطاب. ويتضمن هذا المضمون أفكارا سياسية، ولهذا نجد المادة اللفظية قليلة في حين يتسع المعنى الدلالي لتلك الألفاظ.(11)

والخطاب عند ميشيل فوكو هو شكل أدبي، ومصطلح لساني، يتميز عن غيره من الأشكال الأدبية بطريقة نظمه. وعن كونه من إنتاج صاحب الخطاب، كتعبير عن أراءه وأفكاره ، التي كونتها ثقافته وخبرته وبيئته، وبالتالي يتحدد شكل ونوع الخطاب، بالإضافة لخبرة وبيئة الحضور أو المتلقيين للخطاب.

 ولقد فصل وليد عبدالحي ألوان الخطاب السياسي، وقسمها خطاب أكاديمي وجماهيري وفكري، ولكن هنا نذكر منها نوعين فقط:

أ- الخطاب السياسي الأكاديمي التعليمي: ويشمل هذا اللون المُؤلفات السياسية التعليمية، منهجا ومعلومة. وهذا نموذج متاح في الفضاء الأكاديمي والعلمي.وهذا غير محل دراسة هنا.

ب- الخطاب السياسي الجماهيري: وهو نص تحريضي، دعائي، يرتبط في الغالب الأعم بالمناسبات والأزمات، ويأخذ شكل الخبر السياسي أو النص المتكامل أو الشعار أو الأغنية أو الطرفة. وهذا النوع هو الغالب في المجال السياسي السوداني، وذلك بطبيعة الحال والتكوين والظرف السياسي والتاريخي. وهنالك أيضاً الخطاب الآيدلوجي الذي ينتجه المفكرون ووتتبناه المنظومات السياسية وغير السياسية.

أما في منهج تحليل الخطاب السياسي، من المُفيد في حالة دراستنا، الإضاءة على تحليل المضمون، وفي هذا السياق يقول وليد عبد الحي:" لعل الوظيفة الرئيسية لتحليل المضمون تتركز في كشف "ما وراء النص" من خلال قياس كمي للمفردات للكشف عن تلك التي تتكرر أكثر من غيرها بغرض تكثيف الدلالة في ذهن المتلقي نتيجة لسيطرة مفهوم معين على المنظومة المعرفية لمنتج الخطاب، وقد يأخذ القياس شكلا آخر، وهو قياس المساحة المعطاة للنص سواء بالمساحة أو الزمن (للخطاب الشفوي)"(12).ويمكنني أن أضيف هنا قياس نوعي أيضاً، كما أورد منهجاً أخر للتحليل الخطاب وهو منهج التحليل الإدراكي أو التأمل النقدي الذي يربط بين بنية الخطاب السياسي وسياقه الذي قيل فيه.

ويتمايز الساسة في ما بينهم بإستخدام اللغة والتعبير، وطوعاً لذك تتفاوت قدراتهم التعبيرية عن أفكارهم وأرائهم. وذلك بالأساس يعتمد على البُنيان اللغوي والثقافي للمتحدث من جهة، ثم البيئة الثقافية واللغوية للمتلقي في سياق الموضوع المحدد، في الزمان المحدد في الجِهة الأخرى.وهذه هي حدود الخطاب السياسي.في هذه البئية تشكل الخطاب السياسي في السودان، وأصبحت أهم ملامحه هو خِطاب فردي ، شفوي، جماهيري. من المتكلم للحاضرين. هذا النوع من الخِطابات  في السودان قديم، قِدم تكوينهُ الإجتماعي والحضاري. ولكن الخطاب السِياسي المُوجه، بشقيه السُطلوي والمعارِض بدأ منذ إرهاصات الإستقلال. حيث كانت هنالك مجموعات سياسية تدعو للإتحاد مع مصر ،وأخرون آثرو الإستقلال . فكان هذا مفهوم في  السياق السياسي والإجتماعي الذي أُنتج فيه أول خِطاب سوداني مزدوج ( مؤيد ومعارض).

أُسُتخدم في ذلك الخطاب كل الأدوات السياسية والإجتماعية. فعادة ما تميل الأوساط الإجتماعية والسياسية في السودان لإستخدام الأمثال. سوى كان ذلك الإستخدام في الحياة اليومية في الفضاء الإجتماعي.أو في حِواراتها ونقاشاتها وينخرط هذا في أزماتها في الفضاء السياسي. ويعود ذلك لطبيعة المُجتمع السوداني، الذي يتكون في جزء غير صغير منه من مُجتمعات إنتقالية. والمجتمع الإنتقالي المقصود به هنا هو المجتمع الذي فارق مرحلة المجتمعات التقليدية، ولم يصل بعد لمجتمع الحداثة. ثم حُضور طاغي أيضأ المجتمعات التقليدية أو القبلية والعشائرية .سبب أخر هو :طبيعة التكوين الثقافي الديني، وهو تكوين مشبع بالثقافة العربية، المحملة بطبيعة الحال بالثقافة الإسلامية. والثقافتين يكثر فيهم التمثيل، وإستخدام الأمثال وإجترار التشبيه.  

الخطاب السياسي ليس خطاب صادر من السلطة فقط، وإنما يمكن أن يكون صادر أيضا من المعارضين، أو الناشطين، أو الجمهور. وفي هذا النوع الأخير، الذي ينتج بتفاعلات جماهيرية نجد أن المجتمع السوداني عبر عن تفاعله مع السياسين بطرق كثيرة، إحدى هذه الطرق هي تفاعله مع شخصية السياسي نفسه. كعلامة سياسية، تنتج بصورة نهائية كنتاج لتفاعل الجماهير مع السياسي، ومع بعضها البعض، ونُلاحظ  ذلك في تكوين الصورة الذهنية للسياسي، وكنيته أو تسميته، عبر التاريخ السياسي، منذ الإستقلال وإلى الان.

وفي هذه العلامة السياسية تحديداً، ملاحظة مبذولة في الإسفير (مجهولة المصدر)، تشير إلى أن الجيل الأول أو ما يعرف بجيل الإستقلال، كان يعرف بإسمين فقط، كعلامة سياسية منتجة من خطاب سياسي معين، في ظرف زماني معين، فتجد في الجيل الأول : إسماعيل الازهري .. مبارك زروق .. عبدالخالق محجوب .. الهادي المهدي .. الشريف الهندي .. الصادق المهدي.. فاروق أبوعيسي.. عبدالله نقدالله.. عبدالكريم ميرغني .. محمد وردي .. احمد المصطفي .. سيد خليفه .. عبدالكريم الكابلي .. صديق منزول .. ابراهيم يحي .. سبت دودو .. عمر التوم .. عمر عثمان .. يوسف مرحوم.

ثم في مرحلة تالية، وسياق سياسي وإجتماعي أخر، ولأسباب أخرى تخص التفاعل مع النظام السياسي الإجتماعي ككل ،والخطيب السياسي بالخصوص،  تم تداول ثلاثة أسماء فقط في حقبة السبعيناتت مثل :  جعفر محمد نميري..أبوالقاسم محمد إبراهيم .. الرشيد الطاهر بكر .. مأمون عوض أبوزيد .. خالد حسن عباس .. زين العابدين محمد أحمد. ثم في عهد حكومة الإنقاذ تم تداول الإسم  السياسي في أربعه أسماء مثل : عمر حسن احمد البشير .. علي عثمان محمد طه .. محمد طه محمد احمد.الآن، وبعد ثورة ديسمبر تحول تداول الجمهور لبعض الأسماء لإسم واحد فقط  مثل : حمدوك ... البرهان .. كباشي .. حميدتي .. الأصم .. الدقير.هذه "الظاهرة" جديرة بالبحث والدراسة. ولكن، مايهمنا هنا هو تفاعل المجتمع مع السياسي في الحُكومة أو المعارضة، كخطاب سياسي "عكسي" من المجتمع للسياسي.

بالمُحصلة يتجلى فصل الخطاب، في قدرة المخاطِب إستخدام قول قصير وواضح، لا يلتبس على المتلقي وذلك بتوظيف الحلية اللفظية كالسجع والطباق والمجاز،بغرض تقديم الأفكار والأراء ووجهات النظر، وإسقاطها على المجتمعات المحلية، ويلعب في ذلك ثلاث عناصر: المناسبة، والجمهور، والمتكلم. بهذه المعاني تو توظيف المثل الشعبي في الخطاب السياسي بعد ديسمبر.

2-توظيف المثل الشعبي في الخطاب السياسي ما بعد ثورة ديسمير 2018

أُسُتخدم المثل الشعبي في الفترة التي أعقبت ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018م، بكثافة، وذلك لكثرة الفاعلين والشركاء السياسين، المحليين والإقليميين. بالإضافة لمناخ الحريات التي وفرتها الثورة، وعلى رأسها حرية التعبير، فكثرت المنصات والمنابر، وبطبيعة الحال الثوري الموضوعات. لقد أصبح المثل الشعبي أحد مكونات الخطاب السياسي وسيمائه.فإستخدمه الزعماء السياسين وزعماء العشائر والقبائل، والناشطين السياسين، والصحفيين، وحتى الجماهير المشتغلين بالسياسة.وهنالك تقنيات متعددة لإدراج المثل الشعبي في الخطاب ،على سبيل المثال إستحضار الرابط ، وأيضاًإستعمال بعض العبارات مثل كما يقول المثل أو زي ما بقول المثل،كما أن هنال تقنية المجاورة  بوضع المثل قبل أو بعد الكلام.   

وظف الإمام الصادق المهدي – وهو زعيم سياسي وإمام ديني – المثل الشعبي في الكثير من خطاباته ،نورد منها هنا توظيف للمثل في لقاء جماهيري، مشبهاً بين الدواء واللقاء :"من شوفة الحبيب جسمي إملئ عافية"، وهنا إستخدم المثل للتعبير عن حاله بعد وقوفه أمام الجمهور.وهو ما يحمل الكثير من المضامين السياسية للجمور.كما إستخدم المثل الشعبي: "متقابضين الحزز".في إشارة لحالة بالغة الخصام مع النظام السابق. وبتوظيفه لمضون هذا القول القصير المموثق ،إختزل الكثير من الشرح لطبيعة ودرجة ذلك الخصام. وفي ذات الخطاب إستخدم المثل الشعبي :"مرمي الله ما بترفع"، وذلك في معرض شرحه لعدم قبول نصائحه لقيادات الإنقاذ.وأخيراً إستخدم المثل الشعبي " جري وطيران" ،مستنكراً لمارسة تجمع المهنيين العمل النقابي والسياسي في وقت واحد.(13) وفي كل هذه الأمثلة وظف الصادق المهدي المثل الشعبي المحلي للدفع فى إتجاه موقف سياسي أو تبريره ،أو تسويقه للجمور.  

وإستخدم نائب رئيس مجلس السِيادة الإنتقالي، الفريق محمد حمدان دقلو، المثل الشعبي في الخطاب السياسي في الكثير من المُناسبات، ومنها على سبيل المثال إستخدامه للمثل الشعبي "الجواب يكفيك عنوانو" في إشارة لكرم أحد مضيفيه، البائن عنوانه من ضخامة مكان إستقبال الضيوف.ثم إستخدم المثل : "طفيح الكيل". في إشارة لعدم تحمله المزيد. ثم إستخدم :" بدل تمطر مطر التمطر حصو"، وذلك في إشارة لعدم إكتراثه بالعواقب،لاخذه موقف سياسي معين. ثم إستخدم المثل الشعبي :"تركب في أي سرج".وفي ذلك إشارة للمشاركة السياسية للإدارات الأهلية، والطرق الصوفية في السلطة، لكل الحكومات المتعاقبة، في المركز والإقليم، بغض النظر عن طبيعتها.

ثم إستخدم المثل الشعبي: " الرهيفة خليها تِنقد".(14) في سياق تاكيده على تحمل عواقب إنحيازاته وإختياراته السياسية.في كل هذه المناسابات إسخدم المثل الشعبي بغرض دعم حججه وخياراته السياسية، ووظف الأمثال الشعبية بوضوح لخدمة هذا الغرض.

واستخدم المعارض والناشط السياسي، عثمان ذوالنون المثل الشعبي المحلي في خطابه السياسي، المبذول في وسائط التواصل الإجتماعي :"دق البليد بأبو راساً غليد"(15) في إحدى خطاباته،وذلك في إشارة الى مستقبل سياسة التفرقة وتضارب المصالح بين المجموعات السياسية، ووظف المثل الشعبي المحلي في إختزال توقعاته لطبيعة السياسية في مستقبل عمر الفترة الإنتقالية،بالإضافة للإستناد على حجية المثل ووظيفته لنوعين من مستقبلي محتوى الرسالة السياسية الجمهور السياسي العام و الأحزاب والتنظيمات السياسية.

الفاضل الجبوري - وهو ينشط في التعليق على الخطابات السِياسية – وبالتالي يمكن إعتباره خطاب سياسي عكسي(كردة فعل للخطاب السياسي)، يتفاعل مع الأحداث والخطابات السياسية بصفة شعبية، مما يعطيه مِيزة إضافية لإيراده في هذا المبحث.إستخدم الجبوري المثل الشعبي :"البليلة بحجارها"، في إشارة لعدم لتوخي الحذر والإنتباه، وإستخدم ذلك المثال في سياق تعليقه على النزاع القانوني بين لجنة إزالة التمكين والقضاة(16)، ووظف المثل في رسم حالة ونوع الصراع محل التعليق للجمهوره من جهة، ثم بيان إمكانية وجود محاذير من جهة آخرى.

أما الصُحافية شمائل النور فقد إستخدمت المثل الشعبي:" عوّة في ضُلُف "(17) وتوسلت به، ووظفته في سياق الخطاب السياسي المتداول، في إشارة لإختلاف المكونات السياسية على أحقية قيادة الحكومة الإنتقالية، وكفاها المثل في مضمونه شرح قيمة الحكم في الظرف التاريخي والسياسي المخصوص بكثير من العِلات، وخالص القول فيه أن المختلف عليه غير ذي قيمة كبيرة، وهو خطاب موجه عبر الميديا للشرح والتعبيير عن حالة الشِقاق التي تسود المشهد السياسي.

وتوسل الوزير الأول السابق في حكومة دكتور عبدالله حمدوك الثانية خالد عمر يوسف بالمثل الشعبي :"الزمن غربال"(18)، في مقابلة إعلامية على قناة الجزيرة مباشر،عقب خروجه من الإعتقال الذي حُلت على إثِره الحكومة. على هذه الخلفية تم توظيف المثل لبيان أن المواقف تُمايز الصفوف، في سياق التغييرات السياسية والإجتماعية الكبرى والإنحيازات التي تفرضها على الفاعلين السياسين.والدور الذي لعبه هذا المثل هو توصيل هذه الحمولة والرأي السياسي للجمهور والإعلام بكلمات قليلة جداً.

كان هذا منتخب لإستخدام المثل وتوظيفه، في الخطاب السوداني المسيس لبعض عناصر النظام السياسي ومكوناته الحزبية والحكومية والناشطين والصحفين والجمهور. في مناسبات وأزمات مختلفة كان المثل الشعبي فيها حاضراً.بحكم أنه مستثاق جماهيراً ، وأنه يظل قادرا بدرجة من التدرجات لتوفير حامل "متعدد الوظائف " للرسائل السياسية والإجتماعية للسياسين وغيرهم.  

الخاتِمة:

هدفت هذه الورقة، للوقوف على التغير في ملامح الخطاب السياسي في أعقاب ثورة ديسمبر2018م، وأحد أهم ملامح هذا التغيير، هو بروز الخطاب السياسي القادم من خارج المركز الثقافي، والدليل على ذلك إستخدام الامثال الشعبية بكثرة في هذه الفترة.لأسباب ثقافية وإجتماعية، أكثرها وضوحاُ ،هو صعود ألسنة الأرياف والبوادي على حساب لغة ومفردات النخبة المثقفة الحاكمة. وتأسيساً على ذلك إتضح أن الوسط السياسي السوداني، بكل مكوناته، السياسين والمراقبين والمحللين والجمهور.وطوعاً لذلك يوظفون المثل الشعبي بكثرة في خطاباتهم السياسية.وفيما يلي جملة ما يمكن تلخيصه من نتائج :

1.      وُظف المثل السوداني بكثافة،في الخطاب السياسي بعد ثورة ديسمبر2018م. ويتشارك  في ذلك المذهب الكثير من المشتغليين بالسياسة والمتفاعيلن معها.

2.      إن قيمة المثل الشعبي لا تكمن في أنه قول حكيم مُمُوثق فحسب، بل تتعدي المُواصفات الفنية والبلاغية لحِلية الكلام وبلاغته، ليعمل كعنصر مؤثر في الفضاء الإجتماعي والسياسي للمجتمعات. حيث يعمل المثل كضابط إجتماعي في الوسط الإجتماعي.هذه الصفة الضبطية تحديداً، منحته سُلطةً وسطوة في الخطاب. وهو ما وظفه الضارب – لا سِيما – السياسين في تفعيل خِطابهم السياسي، وتعدي ذلك لإستخدام السياسين إلي الإعلاميين والنُقاد والصحفيين والناشطين.

3.      كثرة الإستخدام أيضا مؤشر على قبول الحس الشعبي السياسي السوداني للأمثال وضربها في المناسبات السياسية والإجتماعية ، والأزمات.وربما يعد طغيان الخطاب المثلي هو طغيان لخطاب المجتمعات التقليدية على حساب المجتمعات الحضرية.

التوصِيات:

بناءاً على خلاصة هذه الدراسة ، يوصي الباحث بما يلي:

1.      يتوجب على الأكاديمين والمهتمين دراسة أثر توظيف الأمثال في الخطاب السياسي، والخطاب الإجتماعي اليومي، ودوره في زيادة الوعي بالحس الشعبي السياسي الوطني.

2.      في الفضاء السياسي السوداني، يمكن التعويل على التمثيل (إستخدام المثل) في الخطاب السياسي بمقتضي الحال، لتجزيل المحتوى الخطابي، ولقدرته على توفير بيئة فهم وإستيعاب للقضايا الوطنية والسياسية للجمهور السياسي.

3.       يمكن للمثل الشعبى العمل على حفظ محتوى القيم والعادات والتقاليد الإجتماعية والوطنية، وحفظها وتمريرها للأجيال القادمة بفعالية عالية.

الهوامش

1)      سليمان يحى سليمان(1999): إنعكاس صورة المرأة في المثل الشعبي في مقرونة بدورها في مجتمع دارفور،بحث لنيل درجة دكتوراة،معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية،جامعة الخرطوم.

2)            ORWENJO, D. O. (2009). Political grandstanding and the use of proverbs in African political discourse. Discourse & Society, 20(1), 123–146. http://www.jstor.org/stable/42889246

3)      عبدالباقي دفع الله وسمية عبدالرحمن(2014)،المضمون النفسي – الإجتماعي للمثل الشعبي السوداني في عملية التنشئة الإجتماعية،مجلة الدراسات الأفريقية والآسيوية، العدد الأول،الخرطوم، ص 97.

4)            Glonti, Bela. (2020). Proverb as a Tool of Persuasion in Political Discourse (on the Material of Georgian and French languages). Theory and Practice in Language Studies. 10. 632. 10.17507/tpls.1006.02.

5)      حامد طاهر: الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية،القاهرة ؛ 2008، الرابط : https://bit.ly/3DRRCuI.

6)      المضمون النفسي – الإجتماعي للمثل الشعبي السوداني في عملية التنشئة الإجتماعية، مرجع سابق، صفحة 103.

7)      محمد جابر الفياض(1981)،الأمثال في القران الكريم،الدار العالمية للكتاب الإسلامي،الرياض، الطبعة الثانية ، ص 367.

8)      محمد الجوهري،(1977)، علم الفولكلور-  دراسة في الانثروبولوجيا الثقافية ، دار المعارف، القاهرة،  الطبعة الثالثة،  ص 44.

9)      نعوم شقير(1984)، أمثال العوام في مصر والسودان والشام، مطبعة المعارف، مصر.

10)  يوسف كرماح ،المجلة العربية، الخطاب العربي ،(2014) العدد _____ ، الرابط : https://bit.ly/3EtUBtv

11)  حسن مروان،الخطاب السياسي الحزبي،المركز الديموقراطي العربي،(2019)،الرابط : https://bit.ly/3oUs3nD

12)  وليد عبد الحي، لغة الخطاب السياسي: المشكلة والحل، (2013)، الرابط :  https://bit.ly/3o4HHwk

13)  كلمة الصادق المهدي ،2 فبراير 2020م،زالنجي – وسط دارفور، الرابط:shorturl.at/zOR01

14)  خطاب محمد حمدان دقلو، شرق النيل،25-9-2021م ،الرابط :  https://bit.ly/3lnhyqC

15)  عثمان ذو النون ،فيدو مسجل ، الرابط : https://bit.ly/3Broo3Z

16)  الفاضل الجبوري،10-2021م ، الرابط :https://bit.ly/3oKXJfi

17)  شمائل النور، 2-10-2021، الرابط : https://bit.ly/2YAlgoo

18)  مقابة الجزيرة مباشر ،خالد عمر يوسف ، الدقيقة 50 ، الرابط : https://bit.ly/31yraYp

 

قائمة المصادر والمراجع

الكتب:

-          محمد جابر الفياض(1981)،الأمثال في القران الكريم، الرياض ،الدار العالمية للكتاب الإسلامي.

-          محمد الجوهري،(1977)، علم الفولكلور-  دراسة في الانثروبولوجيا الثقافية، القاهرة، دار المعارف.

-          سليمان يحى (1999):إنعكاس صورة المرأة في المثل الشعبي مقرونة بدورها في مجتمع  دارفور.

-          نعوم شقير(1984)، أمثال العوام في مصر والسودان والشام، مطبعة المعارف، مصر

-          حامد طاهر(2008): الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية، القاهرة، دار الهاني.

الدوريات والدراسات :

-          يوسف كرماح ،المجلة العربية، الخطاب العربي ،(2014)

-           -عبدالباقي دفع الله وسمية عبدالرحمن(2014)، المضمون النفسي – الإجتماعي للمثل الشعبي  السوداني    في عملية التنشئة الإجتماعية.

-          حسن مروان، الخطاب السياسي الحزبي،المركز الديموقراطي العربي.

-          وليد عبد الحي، لغة الخطاب السياسي: المشكلة والحل.

المنشورات الإلكترونية :

-          كلمة الصادق المهدي ،2 فبراير 2020م،زالنجي – وسط دارفور

-          خطاب محمد حمدان دقلو، شرق النيل،25-9-2021م

-          الفاضل الجبوري،10-2021م

-          شمائل النور، 2-10-2021

-          مقابة الجزيرة مباشر ، خالد عمر يوسف ، 1- 12- 2021

الدراسات الأجنبية :

-     Glonti, Bela. (2020). Proverb as a Tool of Persuasion in Political Discourse

-     ORWENJO, D. O. (2009). Political grandstanding and the use of proverbs in African political discourse