المركز العربي للبحوث والدراسات : بين الماضي والحاضر ... إيران بين الثورتين (ج1) (طباعة)
بين الماضي والحاضر ... إيران بين الثورتين (ج1)
آخر تحديث: السبت 27/08/2022 10:38 م
حسن قاسم حسن قاسم
بين الماضي والحاضر

من المعلوم أن الفترة الواقعة بين الثورة الدستورية وثورة 1979م (الإسلامية) تعد من أهم الفترات في تاريخ إيران بعد العصر الصفوي، والتي تشتمل على أحداثٍ كثيرة تمت الواقع بصلات وخبايا سيتم الكشف عنها من خلال عدد من المقالات المتعلقة بهذا الصدد، حيث سنحاول احتواء كل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ونحاول ربطها بالأوضاع الحالية، ليتم تقديم صورة كاملة عن إيران الحديثة. وفي هذ المقال سيكون الحديث عن أوضاع إيران قبيل الثورة الدستورية وبعدها، ومن ثم سيتم العرض  للأحداث حسب التسلسل التاريخي.

كانت إيران في ذلك الوقت مجتمعًا طبقيًا يتكون من طبقات متعددة، وأبرزها طبقة رجال الدين الشيعة الذين كانوا يعتمدون وبشكل أساسي على الطبقة الوسطي من ملاك الأراضي والتجار الذين كانوا هم السبيل الوحيد لتمويل المؤسسات الدينية آنذاك، وقد ظهرت طبقة رجال الدين في ذلك الوقت بسبب التدخل الأجنبي المكثف في شئون إيران؛ إذ أن هذا الأمر كان داعيًا لقلق رجال الدين على مصالحهم، كما أدى تعدد الأديان والعادات والألسن إلى زيادة الهوة الاجتماعية بين الطبقة والأخرى ومن ثم نجم عنه حركات كثيرة تنادي بالاستقلال والإنفصال عن إيران والتي كان دائمًا ما تُقابل بالقمع والعنف مثلما فعل محمد رضا بهلوي مع الأرمن والعرب وغيرهم.

ويجدر القول بأن المجتمع الإيراني آنذاك كان منقسمًا ومتفككًا سواء من ناحية العرقيات الكثيرة التي كانت قاطبة في مختلف بقاع إيران أو من ناحية المذهب الشيعة الذي توغل الإنقسام إلى جذوره هو الآخر لينقسم وبقول واحد إلى فرق معتدلة وفرق غير معتدلة، وكل هذه الشروخ كانت في صالح الحكومات الإيرانية من الصفويين والقاجاريين وصولًا إلى الثورة الدستورية التي يظهر لنا فيها توحد وترابط الشعب الإيراني ولأول مرة خلف قيادة وزعامة واحدة، حيث خرجو جميعًا ونددوا بالحكم المستبد وطالبوا بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وقبل كل ذلك فرض الدستور، ولم يتركوا الشوارع ولا الميادين حتى وقع مظفر الدين شاه على أول دستور في إيران عام 1906م، والذي كان له أثر كبير على المجتمع الإيراني، ومن هنا يتضح لنا أن هذه الثورة هي من جمعت شتات الإيرانيين، وكانت بمثابة أولى خطوات الإصلاح الإداري.

بعد أن نجحت الثورة وتحققت أهدافها كانت فواتير الإصلاح عالية تعجز الحكومة عن سدادها، خاصة وأن هذا الحكومة المستبدة كثيرًا ما أخفقت في حروبها مع فرنسا وبريطانيا ومن ثم اضطرت لتقديم تنازلات كثيرة والتى على إثرها أصبح السوق الإيراني مستهلِكًا بعد أن كان منتجًا، وكان الفساد الداخلي والتشقق المجتمعي مغريًا لتدخل الدول الأجنبية آنذاك، وفي ذلك الوقت أرادت الحكومة تعويض فواتير الإصلاح، ولم تجد أمامها سوى الملاك ورجال البازار (التجار) الذين رفضوا تحمل هذه التكاليف الباهظة، فلم تجد الحكومة سبيلًا آنذاك سوى الإستدانة من الدول الأجنبية، ومن الطبيعي أن تكون هناك ضمانات على هذه القروض سواء كانت أصول ثابتة أو ضمانات أخرى، ومن هنا سمحت السلطات الإيرانية للدول الأجنبية بالتدخل والذي كلفها فيما بعد القضاء على الحكم الملكي بشكل تام.

والجدير بالملاحظة أن الحكومة قامت بالضغط على الشعب أكثر مما سبق بدلًا من تقديم يد العون له وتشجيعه على العمل والإنتاج، حيث فرضت الضرائب على الفقراء الذين لا يستطيعون الكسب، كما انتشر الفساد الذي تسرب إلى أجهزة الدولة بعد أن أصبحت المناصب عرضة للبيع، ونلاحظ كذلك بأن الإصلاحات التي كان يقوم بها الشاه لم تكن للإصلاح ذاته، بل كانت للتباهي والفخر بالإنجازات، حيث كان الشاه يسافر لأوروبا ويشاهد الإصلاحات، ثم يعود مرة أخرى لإيران ويحاول تطبيقها كنوع من التقليد، وفي الأغلب لم تكن هناك خطط ممنهجة لهذه الإصلاحات ومن ثم عادة ما كانت تبوء بالفشل ومن ثم تزيد الديون وتسوء الأوضاع أكثر فأكثر.

والجدير بالذكر أن المجتمع الإيراني آنذاك كان يتمتع بطبقة مثقفة على مستوى راقٍ جدًا، تلك الطبقة التي كانت ثمرة إصلاحات ناصر الدين شاه، بعد أن وجه البعثات للخارج لاستقطاب العلوم المختلفة، ومن أبرز المثقفين آنذاك جمال الدين الأفغاني، الذي كان حقيقًا له دورًا كبيرًا (يفوق دور الشاه) في الإصلاحات قبيل الثورة، ولكن حاشية السوء ورجال البلاط دفعوا الشاه لعزل جمال الدين الأفغاني من منصبه، ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل تمكنوا من استصدار فرمانًا بإعدامه، وهنا خسرت إيران شخصية كانت قادرة على إحلال الإصلاح والتقدم، وهذا ما يؤكد لنا أنا الشاه لم يكن يقوم بالإصلاح لغرض الإصلاح.

وكانت إيران قبيل الثورة مباشرة تشهد حالة من الفوضى والفساد الذي كان يعم في مختلف البقاع، كما أن رجال الدين اتحدو ولأول مرة مع الشعب بمختلف طبقاته وطياته، كاسرين قاعدة الخروج على الإمام الخاصة بالمذهب الاثنا عشري، وبغض النظر عن إن كانوا قد غفلوا عن هذه القاعدة عمدًا أو جهلًا فقد كان لهم تأثيرًا كبيرًا على الشعب، فهم أشبه بالوقود الذي يدير الآلة، ولكن حتى نكون موضوعيين، لو أن رجال الدين كانت لهم مصلحة في بقاء النظام لكانوا ليبقوا عليه، ولكن كان هذا النظام يشكل تهديدًا على رجال الدين فأطاحوا به وجعلوه في مهب الريح، وبدأوا يثيروا الشعب الإيراني ويحمسوه ويشعلوا لهيبه بالخطب الدينية، مما أدى إلى خروج جموع الشعب في الساحات والميادين، وقد بلغت الثورة أوجها وزادت الإحتجاجات خاصة بعد أن نددت الدول الأجنبية بحقوق الإيرانيين وبحريتهم، وشجعت الشعب الإيراني (لمصالحها الشخصية) على استكمال الثورة لتحقيق العدالة وفرض الدستور، وبالفعل يستجيب الشعب ويقرر مصيره، وينجح في فرض الدستور (1906م) ولكن بشكل مؤقت حتى تؤل السلطة لـ (محمد علي شاه) ابن مظفر الدين شاه ويقوم بإلغاء الدستور، ثم بعد ذلك يتوالى الحكام حتى تنتهي الأسرة القاجارية وتحل محلها الأسرة البهلوية والتي سيتم الحديث عنها في المقال القادم.