المركز العربي للبحوث والدراسات : تداعيات الاعتراف: مسارات العلاقات الأمريكية التركية (طباعة)
تداعيات الاعتراف: مسارات العلاقات الأمريكية التركية
آخر تحديث: الأربعاء 05/05/2021 11:37 م
مصطفى صلاح مصطفى صلاح
تداعيات الاعتراف:

بعد نحو عام ونصف من تبني الكونجرس الأمريكي قرارًا يعترف بـالإبادة الأرمينية، اعترف الرئيس الأميركي جو بايدن في 24 أبريل 2021 بالإبادة بحق الأرمن، ليكون بهذا الاعتراف أول رئيس للولايات المتحدة يصف مقتل 1,5 مليون أرمني على يد السلطنة العثمانية عام 1915 بأنه ابادة. وهو تصنيف تجنبه الرؤساء الأمريكيون لفترة طويلة خوفا من الإضرار بالعلاقة الأمريكية التركية. وكانت ردة الفعل التركية غاضبة كما هو متوقع، بما في ذلك الدعوات إلى حرمان الولايات المتحدة من قاعدة إنجرليك ذات الأهمية الاستراتيجية.

ويجب الإشارة هنا إلى أن القرار الأمريكي يأتي بعد حملة ضغط مطولة قام بها أعضاء في الكونجرس وجماعات أمريكية أرمينية، خاصة أنه تم قبول مسودات الإبادة الجماعية مرتين في مجلس النواب الأمريكي، عامي 1975 و1984، إلا أن مجلس الشيوخ كان يصدها خشية من الأزمات الكبرى بين البلدين وتعني هذه الخطوة، التي تعد رمزية إلى حد كبير، تغيرًا جذريًا عن صياغة شديدة الحذر تبناها البيت الأبيض منذ عقود. وسوف يحتفي بها الأرمن في الولايات المتحدة لكنها تأتي في وقت صدام بين أنقرة وواشنطن بشأن عدد آخر من الملفات. وكان بايدن وعد خلال حملته الانتخابية بأنه سيعترف بالفظائع التي جرت للأرمن باعتبارها إبادة جماعية، وهو ما ساهم في تأجيج التوتر مع تركيا.

ردود فعل تركيا

انتقدت تركيا قرار الرئيس الأمريكي وقالت إنه ليس له أي أساس قانوني "وسيفتح جرحًا عميقًا" في العلاقات الثنائية. وقالت وزارة الخارجية التركية "هذا البيان الأمريكي الذي يشوه الحقائق التاريخية لن يقبله ضمير الشعب التركي وسوف يفتح جرحا عميقا يقوض الصداقة والثقة المتبادلة بيننا". وأضافت أنها ترفض وتستنكر البيان "بأشد العبارات".

واتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "أطرافا ثالثة" بالتدخل في شؤون بلاده. وقال في رسالة بعث بها السبت إلى بطريرك الأرمن في إسطنبول، "لا أحد يستفيد من تسييس أطراف ثالثة للجدل - الذي ينبغي أن يتولاه مؤرخون - وتحويله أداة تدخل ضد تركيا".

وفى رد فعل من جانبه قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن  "يستند فقط إلى الشعبوية". وكتب تشاووش أوغلو على تويتر في أول رد فعل على بيان من البيت الأبيض: "الكلمات لا يمكن أن تغير التاريخ أو تعيد كتابته". وأضاف: "ليس لدينا ما نتعلمه من أي شخص فيما يتعلق بماضينا. الانتهازية السياسية هي أكبر خيانة للسلام والعدالة".

وضمن السياق ذاته أعلنت وزارة الخارجية التركية إنها استدعت السفير الأميركي لدى أنقرة بشأن اعتراف الرئيس جو بايدن بأن مذابح الأرمن في عام 1915 خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية تمثل إبادة جماعية. وترفض تركيا اعتبار المجازر التي تعرّض لها الأرمن في السلطنة العثمانية "إبادة" وتقول إنّ السلطنة شهدت في نهاية عهدها حربًا أهلية تزامنت مع مجاعة مما أدى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وعدد مماثل لهم من الأتراك حين كانت القوات العثمانية وروسيا تتنازعان السيطرة على الأناضول.

الأرمن وحدود الاستفادة

رحب رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بالقرار التاريخي للرئيس الأميركي معتبرًا أنه "خطوة قوية لصالح العدالة والحقيقة التاريخية". ويسعى الأرمن منذ عقود إلى نيل اعتراف العالم بحصول "الإبادة"، وقد بلغ عدد الدول التي تعترف بذلك أكثر من 31 دولة، منها لبنان، وسوريا، واليونان، وفرنسا، وروسيا، وإيطاليا، وألمانيا، والأرجنتين، والبرازيل،وهدفهم من وراء ذلك ثلاثة أمور: الاعتراف وبالتالي التعويض ومن ثم استعادة الأراضي التي كان يسكن الأرمن فيها في شرق الأناضول والتي هُجّروا منها خلال الحرب العالمية الأولى، ويرى الأرمن أن شرق الأناضول ليس سوى أرمينيا الغربية التي يقع فيها أيضاً رمز الأرمن أي جبل آرارات، الذي يقع اليوم داخل الحدود التركية على الحدود مع أرمينيا، ويعتبر مزارًا لكل الأرمن ولو من خلف الحدود.

وقد يحظى الإعلان الأمريكي بترحيب المجتمعات الأرمينية والمشرعين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين ضغطوا من أجل إعلانه، لكنه سيضر أيضًا بالعلاقات المتوترة بالأساس مع تركيا، كما أن الاعتراف بمصطلح الإبادة الجماعية من قبل الرئيس يؤدي إلى قيام مواطنين أمريكيين من أصل أرمني بتقديم مطالبات بالتعويض المالي والمطالبة بالممتلكات ضد تركيا، خاصة أنه  أنه في الماضي رفض القضاة بعض دعاوى التعويض والممتلكات المرفوعة في الولايات المتحدة لأن "السلطة التنفيذية لم تقبل ادعاء الإبادة الجماعية.

تداعيات محتملة

تتميز العلاقات الأمريكية التركية بالكثير من التعقيدات والتشابك التي تتحكم في مسارها مجموعة مختلفة من العوامل التي ساهمت في تقارب أو تباعد علاقاتهما وقد شهدت واشنطن وأنقرة مجموعة من الخلافات خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن بعد فوز المرشح الديموقراطي جوزيف بايدن فإن هذا المتغير يمثل أهمية كبيرة في التأثير على مسار علاقاتهما. وضمن السياق ذاته كانت الشراكة القائمة بين البلدين منذ عشرات السنين شهدت خلافات كبيرة خلال السنوات الخمس الأخيرة، بسبب خلافات على السياسات الخاصة بسوريا، والعلاقات الأوثق التي ربطت بين أنقرة وموسكو، وطموحات تركيا في شرق البحر المتوسط، واتهامات أميركية موجهة إلى بنك تركي مملوك للدولة حول علاقاتها مع إيران، إلى جانب وتراجع الحقوق والحريات في تركيا.

وقد شكل فوز الرئيس بايدن أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا التي تتزايد مخاوفها من التوجهات الأمريكية تجاهها نظرًا لمواقفه وتصريحاته المناهضة للسياسة التركية ولا سيما أنه انتقد مرارًا وتكرارًا علاقات الإداراة الأميركية السابقة مع نظيرتها التركية، ويؤشر على ذلك موقف الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن من الرئيس التركي رجب أردوغان والذي أعلن فيه عن دعم الولايات المتحدة المعارضة التركية للإطاحة بأردوغان الذي وصفه بـالمستبد. بالإضافة إلى ذلك موقف بايدن من السياسة التصعيدية التركية في منطقة شرق المتوسط وتعزيز علاقاتها مع روسيا من خلال امتلاكها منظومة الصواريخ إس 400، والذي أعلن أنه سيجعل أنقرة تدفع ثمن لهذه السياسات، وقد جاء القرار الأمريكي بالاعتراف بمذابح الأرمن بمثابة امتدادًا لهذه السياسات.

ومن ثم فإن ترجمة القرار الأمريكي إلى سلوكيات عملية وأفعال في سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا، وهو الأمر الذي يخضع شأن أي دولة أخرى للمصالح العليا وليس للمعايير الأخلاقية، خصوصًا أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي وشريك أساسي ولا غنى عنه للغرب في سياساته الإقليمية والدولية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن القرار الأمريكي يمكن أن يكون بداية للاعتراف الأمريكي  بالمجازر التي تم ارتكابها في حق الأكراد في سوريا والعراق باعتبارهم أكثر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة في مواجهة التنظيمات المتطرفة في المنطقة خاصة وأن الحزب الديمقراطيي يريد إحراج ترامب بعد اتفاقه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول الوضع في سوريا وإقامة منطقة آمنة، خصوصًا بعدما ذهب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس يرافقه وزير الخارجية وآخرون إلى أنقرة في 17 أكتوبر 2020 لإبرام اتفاق المنطقة الآمنة من 13 بندًا، وقد فتح هذا الاتفاق الباب أمام تشريع التدخل العسكري التركي في شمال شرقي الفرات بين تل أبيض ورأس العين لمواجهة الأكراد حليف الولايات المتحدة.

وفي الختام: من المؤكد أن يتسبب هذا الإعلان في توتر العلاقات الأمريكية التركية التي تشهد في الأساس توترات متصاعدة منذ صعود الرئيس الأمريكي بايدن إلى البيت الأبيض، وهو ما قد يتسبب في إضعاف العلاقة الاستراتيجية بين الجانبين، وإن كان من أهم انعكاساتها إحتمالية عودة تركيا إلى لعب الدور التقليدي المرسوم لها ضمن الاستراتيجية الأمريكية والغربية كما كان في الماضي.

المراجع:

1) الاعتراف بالإبادة الأرمنية.. العبرة في التنفيذ، على الرابط: https://al-ain.com/article/armenians-turkey-crisis

2) بايدن أول رئيس أمريكي يصف القتل الجماعي للأرمن بأنه "إبادة جماعية"، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/world-56874168

3) انعكاسات متعددة.. كيف ستبدو السياسة الأمريكية تجاه تركيا في ظل إدارة بايدن؟، على الرابط: https://cutt.us/49URT