المركز العربي للبحوث والدراسات : الأسباب والآثار .. أزمة المدرسة العربية في العلوم السياسية (طباعة)
الأسباب والآثار .. أزمة المدرسة العربية في العلوم السياسية
آخر تحديث: السبت 21/11/2020 09:59 م
محمد عبد الهادي محمد عبد الهادي
الأسباب والآثار ..

الإطار التحليلى

تتكون مدخلات العملية التعليمية فى العلوم السياسية من عدة عناصر تنعكس على مخرجات هذه العملية ومسارات التدريس وتكوين الجماعة العلمية وطبيعة القضايا الأجدر بالتناول فى الأجندة البحثية لحقل علم السياسة ومنهاجياته واهتمامات مراكز الأبحاث، وذلك كما يوضحه الشكل التالى (نموذج المدخلات والمخرجات كإطار ومدخل تحليلى):

الأسباب والآثار ..

يتضح مما سبق النموذج التحليلى لمدخلات ومخرجات العملية التعليمية، ولأغراض وطبيعة هذه الورقة البحثية سوف يتم التركيز على المدخلات: القائمون بالتدريس، المقررات الدراسية، الدارسون، والمخرجات: الجماعة العلمية (الأكاديمية والبحثية)، الموضوعات والمنهجية البحثية، مراكز الفكر والبحث. وذلك فى سبيل تشريح وتحليل واستعراض أسباب وآثار أزمة المدرسة المصرية والعربية في العلوم السياسية فى ظل واقع معاش للأمة العربية يوصف بحالة "الوهن"، وكيفية الخروج من هذه الأزمة فى ضوء النظر للإنسان من منظور حضارى.

ولما كانت العلوم الاجتماعية ومنها علم السياسة، يتناول بالفحص والتحليل الظواهر المجتمعية وتطورها، برزت علاقة وثيقة بين التحولات التي يشهدها الواقع والنظريات والأفكار التي تهتم بها العلوم الاجتماعية، ومما لا شك فيه أن أحداث الواقع العربي والإسلامى  وما طرحته من أسئلة وما فتحت له من آفاق تطور سوف يكون له تأثيراته على مجالي التدريس والبحث فى العلوم السياسية، من حيث الموضوعات الجدیدة التى ستشكل محور الأبحاث.

يشهد علم السياسة محاولة التوسع فى تعريفه، وتنوع في الموضوعات محل الاهتمام والتحليل واختيار الاقترابات وأدوات جمع المادة العلمية، وتجدر الإشارة إلى ما ذكره الدكتور/نصر عارف عند تحليله للبنية الابستمولوجية والبنية الأنطولوجية لعلم السياسة فى مرحلة المراجعة والتقويم، إلى أن علم السياسة يعود تاجاً للعلوم (عارف، 2002، 25 : 28).

ومن ثم تستند هذه الورقة فى تشخيص أزمة العلوم السياسية في الجامعات العربية وواقع تدريسها إلى مراعاة الاحتياجات العربية الراهنة والمستقبلية في ميدان الحياة السياسية، وإدارة العلاقات العربية الدولية، ومناهج البحث في العلوم السياسية ببعديها الكيفي والكمي، والمقررات العلمية التي تخدم هذه الأبعاد، دون الانفصال عن التطور الإنساني العالمى.

أولاً- توجهات العلوم السياسية فى الخبرات الدولية

رغم أن أدبيات السياسة تعود إلى تاريخ يتجاوز 2500 سنة، فإن التطور باتجاه مرحلة التخصص العلمي الجامعي المستقل عن ارتباطاته بعلوم معرفية أخرى في الغالب بأقسام القانون والإدارة يعود إلى عام 1903 في الولايات المتحدة، مع إنشاء الجمعية الأميركية للعلوم السياسية، ثم تلكّأ حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ليحقق استقلاليته في أغلب الجامعات الأوروبية، وإن كان قد حققها قبل ذلك في بعض دول شمال أوروبا.

وبالنظر إلى الميدان المعرفي لعلم السياسة، فقد حدد الدليل البيوغرافي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية التخصصات في 7 حقول رئيسة و45 موضوعًا فرعيًا، بينما حدد مؤتمر اليونسكو عام 1949 التخصص في أربعة موضوعات رئيسة هي: الفكر والنظرية السياسية، الحكومات والنظم السياسية، ديناميات الحياة السياسية، العلاقات الدولية والقانون الدولي.

يمكن تقسيم توجهات بعض مدارس العلوم السياسية فى الخبرات الدولية إلى عدد من النماذج على النحو التالي:

-          ترتكز معظم الجامعات الأمريكية إلى تغليب بُعدين، هما: البُعد الاجتماعي لعلم السياسة، وكل ما يدور في فلك علم الاجتماع السياسي وعلم النفس السياسي والأنثروبولوجيا السياسية...إلخ، بينما يغلب على العلاقات الدولية بعد نظرية القوة والمدرسة الواقعية، ويعد النموذج الأمريكى هو الأشهر والأكثر انتشارا فى علم السياسة عبر جامعات عديدة فى العالم.

-          يغلب على التوجه في الجامعات البريطانية الاقتصاد السياسي الدولي أو الإقليمي، وهو استمرار لتقاليد المدارس الفكرية البريطانية في هذا الجانب.

-          غلبة البُعد القانوني والدستوري على التوجه العام للعلوم السياسية في فرنسا، وتعتمد على المنهج المؤسسي فى دراساتهم.

-          تميل دراسات العلوم السياسية الألمانية إلى البُعد الفلسفي، ويغلب عليها التوجه نحو الجوانب الفكرية والتأصيل التاريخي...إلخ.

-          تميل أغلب الجامعات في أوروبا الشرقية إلى المزج بين النمط السابق على انهيار الاشتراكية والتوجهات الجديدة، وتمزج بين الأيديولوجيا والاقتصاد السياسي والبعد الاجتماعي.

-          يهيمن المنظور الأيديولوجي في الصين، بجانب تزايد تدريس البعد القانوني.

يستفاد مما سبق أن التوجه العام لتخصص العلوم السياسية فى المدارس المختلفة، محكوم بعاملين أساسيين هما:

1.    الإرث الحضاري للمجتمع.

2.    والمشكلات الراهنة بكل أبعادها للمجتمع.

بناء عليه، لا بد أن يُراعى العاملان السابقان عند تحديد التوجه العام لتخصص العلوم السياسية في بلد معين، وتدل مراجعة تطور العلوم السياسية على المستوى العالمي إلى التزايد المتسارع لموضوع الدراسات المستقبلية أو الاستشرافية Future Studies، وهو ما أملاه تسارع التغير في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكل لم يمكن لآليات التكيف من مجاراتها، وهو ما بدأ ينعكس على استقرار النظم السياسية والاجتماعية الدولية والإقليمية والمحلية.

ثانياً- تدريس علم السياسة فى المنطقة العربية: النشأة والتطور

أما في الوطن العربي، فإن معهد العلوم السياسية في جامعة الجزائر يمثل أول كلية جامعية عربية متخصصة بالعلوم السياسية منذ عام 1949، غير أن ذلك كان تحت حكم الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ثم ارتبط بمعهد الإعلام في فترة لاحقة ليصبح معهد العلوم والسياسية والإعلام. وفي بقية الدول العربية كانت أول كلية للعلوم السياسية تلك التي فُتحت في العراق عام 1987، بينما بقيت العلوم السياسية على مستوى الأقسام التي ترتبط بكليات مختلفة، فهي مع الحقوق أحيانًا أو مع الآداب أو الاقتصاد أحيانًا أخرى، وهذا أمر مرتبط بتأثيرات تاريخية مختلفة، كما تأسست الجمعية العربية للعلوم السياسية في عام 1985. وحتى عام 2010 قد توزعت دراسة تخصص العلوم السياسية في 39 قسما للعلوم السياسية في الجامعات الحكومية العربية. وتتباين المقررات التي يجري تدريسها من حيث درجة العناية بموضوعات محددة، بسبب الخلفيات الأكاديمية للأساتذة، ويلاحظ غلبة النموذج الفرانكوفوني في الجامعات المغاربية قياسًا بالأنجلوسكسونى في الجامعات المشارقية.

ثالثاً- لمحات عن المدرسة المصرية فى العلوم السياسية

إن تحليل واقع مدرسة العلوم السیاسیة المصریة وآفاقها المستقبلیة يطرح تساؤلات حول: هل یوجد مدرسة للعلوم السیاسیة فى مصر؟ وهل تمر مدرسة العلوم السیاسیة المصریة بحالة أزمة ؟ وكیف یمكن معالجة أزمة العلوم السیاسیة فى مصر؟. وللإجابة على ذلك لا بد التطرق إلى تاریخ مدرسة العلوم السیاسیة المصریة وأهم الموضوعات الجدیدة التى یتناولها علم السیاسة الآن مع الإشارة إلى الأزمة التى تتجلى في الواقع من خلال تلاحق الأحداث بسرعة شدیدة مما یؤدى إلى عجز علم السیاسة المتباطىء نسبیا عًن تفسیر وتحلیل وبالتالى التنبؤ بالظواهر السیاسیة الجدیدة في مصر، ودراسة عدد من التجارب والخبرات المفیدة في هذا الصدد، وضرورة تطویر منظورات ومناهج وأدوات تدریس العلم وأیضا تناول قضایا جدیدة في حاجة للنقاش داخل المجتمع وبحث سبل إعادة بناء الصلة بین الأكادیمیا والمجتمع، وإمكانیة قیام عالم السیاسة بدور أكبر بحیث لا یكون منفصلاً عن المجتمع.

عند تأسیس أقسام العلوم السیاسیة في مصر في أواخر الخمسینیات، فأنه تمت الاستعانة بالعدید من الكتابات الغربیة، وكانت محتویات هذه الكتب وتقسیم موضوعات العلم فیها منبتة الصلة بالواقع الفكري- السیاسي الذي أفرز تلك المحاولات المذكورة.

وعلم السیاسة فى مصر حتى اللحظة الراهنة فیما یتعلق بالواقع لم یستطع التأثير فى إفادة الواقع على النحو المطلوب من خلال القیام بوظائف العلم في المجال السیاسى وهي الرصد الوصف والتصنيف التحلیل والتفسیر والتنبؤ والتقویم. فمنذ تسعینیات القرن المنصرم، أعلن باحثون كبار وبارزون عجزهم عن معرفة جوهر الواقع السیاسي وآلیات التغییر فیه، ناهیك عن اتجاهات التغییر في المستقبل. وبالتالى عجزوا عن التنبؤ بالتطورات السیاسیة الكبرى التى مرت بها مصر فى السنوات الماضیة بعد حالة من السكون ظلت لمدة عقود. و"استمر أساتذة العلوم السیاسیة كحالهم قبل الثورة، یلبعون أدواراً سیاسیة مختلفة، مباشرة وغیر مباشرة، لكن تقدیراتهم جمیعها قد فشلت، وبل وسقطت رهاناتهم السیاسیة، ووجدناهم إما یتعلقون بأهداب سلطة مضى عهدها أو سلطة یبزغ نجمها أو تبدلون ویتلونون مع كل عصر وسلطة".

وتنعكس عقدة السلطة وقيودها على نماذج التغییر فى علم السياسة، مما دعى البعض للقول بعدم وجود مدرسة مصریة للعلوم السیاسیة حتى الآن، ومع لحظة تاریخیة فارقة كثورة ٢٥ ینایر ٢٠١١ وجدنا أنفسنا أمام مأزق معرفى فكل النظریات والمناهج التى طرحها أساتذة علم السیاسة لم تنطبق على الواقع، وأوضحت أن تلك الثورة تمثل فرصة لبناء مدرسة مصریة حقیقیة للعلوم السیاسیة تتعامل مع الأدبیات العلمیة الموجودة بمنطق الحریة ولیس منطق رد الفعل، بمنطق لا یرفض كل شىء ولا ینقل كل شىء. وذلك بما یمكننا من أن نطرح تساؤلات وافتراضات مغایرة، ونتبنى مفاهیم واقترابات جدیدة، ونبدع طرق مختلفة للكتابة وحینئذ فقط نستطیع بناء مدرسة مصریة للعلوم السیاسیة.

وعلى ضوء هذه الخلفیة يمكن استعراض أهم الاتجاهات السائدة فى دراسة العلوم السیاسیة فى مصر بصفة عامة وفى كلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة بجامعة القاهرة بصفة خاصة فى اللحظة الراهنة وهى:

1.    الاتجاه السلوكى الوضعى الذى یفصل بین القیم والممارسة السیاسیة وهو الاتجاه الرئیسي الغالب والذى یتخذ من السلوك الظاهر وحدة لًلتحلیل تختزل الحقیقة الإنسانیة إلى مجرد منبه واستجابة – كما هي حالة كلب بافلوف – ویستبعد العناصر القیمیة والبنیویة من التحلیل.

2.    الاتجاه الإسلامي الذى ینُظر فیه إلى علم السیاسة بأنه یرتبط بالمصیر الإنسانى الدنیوى والآخروى، وقد أتى الاتجاه المعرفي الإسلامي كردة فعل على طغیان الاتجاه السلوكي تدریساً وبحثًا، وینبع هذا الاتجاه من إدراك أن للسیاق الحضاري والتاریخي والمجتمعي أثره في صیاغة المفاهیم الكلیة التي یتأسس علیها العلم.

3.    الاتجاه التأویلى ما بعد الحداثى وقد جاء متأخراً زمنیا على هذینْ الاتجاهینْ، وأتي كرد فعل على تعثر مسیرتهما. ویحاول هذا الاتجاه فتح طریق جدید أمام علم السیاسة في الحیز المعرفي المصري من خلال استلهام تقالید النقد الحداثیة وما بعد الحداثیة وتوظیفها في دراسة قضایا الواقع السیاسي الفكري والحركي باستخدام اقترابات تحلیل الخطاب والتفكیك وجینالوجیا السلطة. وهناك بعض الباحثین الذين لم یرغبوا فى الانخراط البحثى إما فى الاتجاه السلوكى الامبریقى أو الاتجاه الاسلامى، وأعدوا عدد من رسائل الماجستیر والدكتوراه فى كلیة الاقتصاد تنبع من أهمیة الاتجاه ما بعد الحداثى الذى یطرح تقالید جدیدة تمكننا من فهم الظاهرة السیاسیة جیدا ووضع معاییر من أجل تفسیرها وتقییمها.

رابعاً- ملامح أزمة المدرسة العربية فى العلوم السياسية

أن تخصص العلوم السياسية هو التخصص الأكثر حاجة إلى بيئة أكاديمية حرة تمامًا، وموضوعاته لا يمكن التطور في تدريسها من دون توافر بيئة بحثية حرة، ونظرًا إلى ضيق هامش الحريات في الوطن العربي وتباين مستوياته من دولة عربية إلى أخرى، فإن ذلك يفسر إلى حد ما تباين الخطط الدراسية من ناحية، وتعثر تطور المعرفة السياسية في الجامعات العربية من ناحية أخرى، واقتصار البحوث السياسية العربية على موضوعات من وجهة نظر السلطة السياسية أو النظام الاقليمى العربى (غير حساسة)، ويتناول هذا المحور من الورقة تحليل أزمة المدرسة العربية فى العلوم السياسية: أسبابها وآثارها، واستعراض عدد من أزمات العلم فى الواقع الراهن من خلال التركيز على جوانب المدخلات: القائمون بالتدريس، المقررات الدراسية، الدارسون، والمخرجات: البعد الإنسانى الذى يتمثل فى الجماعة العلمية (الأكاديمية والبحثية)، والبعد المعرفى الخاص بالموضوعات والمنهجية البحثية، والبعد المؤسسى الذى يشير إلى مراكز الفكر والبحث. وذلك على النحو التالى:

1.    تخلو الخطط الدراسية من دالة لها، فالخطط الدراسية لا تخدم هدفًا محددًا، بل هي أسيرة تجاذبات بين خلفيات مختلفة للقائمين بالتدريس؛ إذ يعيد كل مدرّس إنتاج النمط الذي درّسه في الجامعات (عربية أو أجنبية)، وهوما يؤدي علميًا  إلى جعل الخطة " كشكولًا ".

2.    تباين المراجع التي يحال إليها الطلاب الدارسين أو يستند إليها أساتذة الأقسام؛ فمثلًا من النادر أن تجد مرجعًا باللغة الإنجليزية في مكتبات جامعات المغرب العربي، وتخلو مكتبات المشرق العربي، باستثناء لبنان، من مراجع باللغة الفرنسية، وهو ما يجعل الطلاب، والمدرسين إلى حد ما، يتبنون مضامين فكرية أو منهجيات معدة لمجتمعات معينة.

3.    عدم تمویل الأبحاث خاصةً للشباب، وعدم إتاحة الأدبیات العلمیة خاصةً فى الموضوعات الجدیدة، وقلة البحوث المیدانیة.

4.    إن التیار الرئیسى لدراسة علم السیاسة في مصر كان یتبني في الفترة الأخیرة الاتجاهات التقلیدیة التى تنظر إلى علم السیاسة بصفته منفصلا عًن العلوم الآخرى، برغم أن فى أحیان كثیرة هناك فواعل تلوح فى الأفق السیاسى ولا ینُظر إلى أهمیتها فى التأثیر على الواقع السیاسى بدعوى أنها لیست فواعل سیاسیة فى المقام الأول مع أنها تؤثر بقوة.

5.    تأثير تعدد روافد الفكر العربى من تيارات إسلامية وقومية ويسارية وليبرالية على  توجهات وايديولوجيات أعضاء الجماعة العلمية (الأكاديمية والبحثية) العربية فى العلوم السياسية، كما تعانى هذه الجماعة من عدم التماسك.

6.    انعكاس عوامل السياق السياسى وظروف البيئة المحيطة وقضية مصدر التمويل وجلب الموارد على الأداء المؤسسى لمراكز البحوث، وطبيعة توجهات وسياسات النشر وتحديد الموضوعات البحثية لديها.

7.    تغيب المقررات والمساقات أو الأطروحات الجامعية الخاصة بالجانب السياسي للقارة الأفريقية في أغلب الجامعات العربية (مع وضع أفضل إلى حد ما في الجامعات المصرية والعراقية)، فمثلًا لا يوجد في الجامعات الأردنية كلها أي متخصص بالشؤون السياسية الأفريقية.

8.    يلاحَظ قلة المقررات والمساقات أو المتخصصين في دراسات الصين أو اليابان أو أميركا اللاتينية أو كندا.

9.    قيام مبادرات من علماء وباحثين فى العلوم السياسية لبناء علم سياسى عربى أو إسلامى، إلا أنها ما زالت محدودة وتكاد تكون فى معظمها محاولات فردية تفتقد أبعاد المؤسسية، والتلمذة بين أجيال الباحثين، والاستدامة.

10.                       يوجد ندرة فى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية فى الجامعات العربية تدريسًا في مستوى البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه، كما أن حقل الدراسات المستقبلية لم يتطور رغم أن الموضوع أصبح تخصصًا علميًا منذ عام 1975 في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتم بناء نموذج لتخصص معرفي عربى أو إسلامى أو حتى تحديد الهدف من هذا التخصص فى العلوم السياسية، حيث لا بد أن تخصص فى العلوم السياسية أن يخدم تحديد ومعالجة المشكلات ذات الطابع الاستراتيجي للمجتمع والأمة بشكل رئيس.

خامساً- معالجة أزمة مدرسة العلوم السياسية

هناك عدة آثار وتداعيات انعكست نتيجة هذه الأزمة فى عدم الاكتراث أو إهمال قضايا حيوية تحت دعاوى عدم مناسبتها لموضوعات البحث السياسى العلمى وتقاليده المنهجية السائدة، منها عدم الاهتمام بتعريف ودراسة العلاقات التفاعلية بين تديين السياسة وتسييس الدين، وقد استهدفت الخطة البحثية لقسم العلوم السياسية  2017-2020 بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، تقديم تصور استرشادي: لطلاب الفرقة الرابعة بقسم العلوم السياسية، وطلاب الدراسات العليا فى تحديد موضوعات مشروعاتهم البحثية بما يخدم حالة علم السياسة وواقع المجتمع، وموضوعات السيمنار العلمي للقسم ومؤتمراته العلمية، وبحوث أعضاء هيئة التدريس. وقد ارتكزت هذه الخطة في بنائها على ثلاثة أسس رئيسية:

1.    حال علم السياسة في العالم والجدالات الكبرى فيه.

2.    الأولويات البحثية التي ترتبط بالواقع المصري والعربي.

3.    نتائج تقرير الفجوة الأكاديمية الذي أقره القسم عام 2016.

وهكذا استعرضت الخطة البحثية حالة علم السياسة والأولويات البحثية بالنسبة للفروع أو التخصصات الفرعية الرئيسية لعلم السياسة: النظرية السياسية والفكر السياسي، والنظم السياسية المقارنة، والعلاقات الدولية، فضلا عن حقل الدراسات البينية.

تطرقت الخطة إلى الجدل الكبير الذى يدور حول تفسير السلوك السياسي، فنتيجة للبحوث البينية والتداخل بين علوم السياسة والنفس والاقتصاد، توصل عدد من الدراسات إلى نتيجة مفادها أن:  "قدرا يُعتد به من السلوك البشري والخيارات الفردية والجماعية يتأثر بمؤثرات غير عقلانية، وهي إن كانت تتضمن نزعات أو "انحيازا محددا"، فإنها تتم بطريقة منتظمة ومتكررة؛ مما يجعلها موضوعا للبحث العلمي، وهنا يمكن الإشارة إلى صعود التيارات الشعبوية.

ويشهد علم السياسة محاولة التوسع فى تعريفه، وتنوع في الموضوعات محل الاهتمام والتحليل واختيار الاقترابات وأدوات جمع المادة العلمية، ويلاحظ أن المجتمع الدولي المعاصر ينطوي على ظاهرتين متناقضتين هما الترابط الاقتصادي من ناحية والتفتت الاجتماعي والسياسي من ناحية أخرى. تجدر الإشارة إلى تحليل للبنية الأبستمولوجيا والبنية الأنطولوجية لعلم السياسة فى مرحلة المراجعة والتقويم، إلى أن علم السياسة يعود تاجاً للعلوم. تتمثل بدائل ومقترحات معالجة أزمة العلوم السياسية من أجل الوصول لمستقبل أفضل لعلم السیاسة مصريا وعربيا فيما يلى:

1.    قیامنا بمراجعات فكریة ونقد ذاتى، والثناء على بعض مبادرات التغییر الذى ننشده فى دراسة العلوم السیاسیة فى مصر والعالم العربى، والأمر الذى تمثل فى ظهور اقترابات جدیدة لدراسة الظاهرة السیاسیة والعنایة بتحلیل ظواهر سیاسیة ظلت خافیة عن الباحثین لمدة طویلة، والاستفادة من أخطاء الماضى أى الاستفادة من العیوب التى وقع فیها الباحثون فى الفترة السابقة.

2.    التأكيد على أهمیة الجهد الذى یقوم به العدید من الشباب المصریین فى أبحاثهم وفى رسائلهم للماجستیر والدكتوراه، وهو الأمر الذي من شأنه أن یطور علم السیاسة فى مصر وذلك بعد سنوات من الركود وعدم التغییر فى مناهج واقترابات دراسة العلوم السیاسیة.

3.    أهمیة الاستفادة من التراث المصرى الشرقى والغربى وهو ما یمكن تسمیته بالتراث الإنسانى فكلها تقالید یجب البحث فیها حیث لابد أن نزید من معارفنا وبالمصادر المختلفة للمعرفة والأفق الذى نتطلع إلیه.

4.    الكشف عن انشطار الجماعة العلمية في حقل العلوم السياسية إلى تيارين، أحدهما يستند  ما بعد السلوكية والنسبية الثقافية ويرفض التفسيرات السببية أو التنظير التقليدي الذي هيمن على دراسات السياسة المقارنة، بينما ينشغل الآخر بالركائز المنهجية من خلال تركيزه على أبعاد مثل العقلنة والنمذجة ونظريات المباراة، وتجسد هذا الانشطار في تكاثر أفكار النهائية مثل نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا، والما بعدية مثل ما بعد الصناعية وما بعد المادية وما بعد القومية.

5.    أن عالم السیاسة والباحث فیها ینبغى ألا یتمتع بالحیاد القیمى ولابد أیضا ألا ینخرط مع السلطة السیاسیة، فهو ینبغي أن یكون في مكانة أعلى وأسمى من كل الفرقاء السیاسیین، فهو لیس خبیر للسیاسة بمعنى "Expert". فرغم ضرورة اقتراب باحث العلوم السیاسیة من الواقع لیجعل علاقته به علاقة مباشرة بلا حجاب من الوسائط المفاهیمیة والفكریة، بل یستلهم قضایاه وتوجهه النظري ومنهجه من ذلك الواقع، إلا أنه لا یجب أن یخوض غمار العمل السیاسي كأحد الفرقاء المتصارعین .

6.    تنمية وظیفة علم السیاسة والاهتمام بالوظیفة العلاجیة للعلم. وذلك بالتأكید على تشبیه لیوشتراوس لوظیفة عالم السیاسة بالطبیب ولداء الاستبداد بالسرطان. فوفقا لیوشتراوس فإن علم السیاسة الذى لا یستطیع تسمیة الاستبداد مرضا لًا یمكن أن نطُلقِ علیه مسمى علم.

7.    تطوير دراسة القيم السياسية الكبرى: (العدالة والحرية والمساواة)، حيث أن الأزمة المعرفية التي بدأت تلقي بظلالها على نموذج المعرفة الحداثي والحركة السلوكية مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي أعادت من جديد إعادة الاعتبار إلى القيم السياسية وتصدرها موقع الوجاهة في بناء الدراسات السياسية، ويوجد فارق بين النظم الفكرية في تحديد القيمة العليا لكل منها من ناحية، والقيم التابعة من ناحية ثانية، فبعضها (الليبرالية) يجعل من الحرية قيمته العليا، بينما تحتل العدالة والمساواة موقعهما كقيم تابعة، بينما هناك نظم (الإسلامى) تجعل من العدالة هي القيمة العليا وتخضع القيم الأخرى لهذه القيمة العليا، وهكذا...

8.    تطور دراسة مناهج البحث في العلوم السياسية، من خلال بُعدين مهمّين هما بناء النظرية من ناحية، وتطوير تقنيات البحث نحو الجانب الإمبريقي كالتقنيات الكمية والإحصائية والمقابلة والملاحظة ودراسة الحالة وتحليل المضمون من ناحية أخرى.

9.    تمحورت مناقشات التيارات المختلفة في نهاية القرن الماضي وحتى الآن على متغير التكنولوجيا بشكل محدد، وهو ما دفع إلى بروز مجموعة من الدراسات التي تتمحور في أبعادها التنظيرية نحو ما يلي:

                                  أ‌-         الدراسات المستقبلية التي يمكن اعتبار ألفين توفلر من أبرز روادها الأوائل.

                               ب‌-       ربط التغير التكنولوجي بعدم الاستقرار السياسي، وتُعد دراسات ديفيز بيرمان من أبرزها.

10.                       دراسة الديموغرافيا السياسية وعرض نظريات الدراسات السكانية، ثم دراسة أعداد السكان، نسب النمو السكاني، توزيع الدخل، التوزيع السكاني، الكثافة السكانية، التنوع الإثني (الدين، المذهب، اللغة، العرق، اللون)، نسبة طلاب الجامعات، نسبة الباحثين إلى السكان، نسبة التمدين والإنفاق العسكري، نسبة هجرة العقول... إلخ. لتعزيز المعرفة التفصيلية بالبنية المجتمعيّة والربط بين البنية السكانية والأبعاد السياسية، وطرق قياسها.

11.                       الاهتمام بدراسات الإعلام العالمي، حيث أدت ثورة التكنولوجيا في مجال المواصلات والاتصالات إلى فيضان معرفي وتزايد قدرة المؤثرات السمعية والبصرية على التأثير في التوجهات السياسية لمختلف المجتمعات، وتوظيف الإعلام في مجال الدعاية السياسية البيضاء، أو السوداء، أو الرمادية كما يصنفها المنظّرون في مجال الدعاية السياسية، ودراسة نماذج مختلفة لتأثيرات وسائل الاتصال على القادة والنخب السياسية والرأي العام من حيث التأثير في خصائص الطابع القومي أو الأيديولوجيات أو الأديان والثقافة السياسية أو في التوجهات بشأن قضايا سياسية معينة.

12.                       إعادة الاهتمام بدراسات الحركات السياسية الإسلامية العربية المعاصرة، وزيادة النظر إلى الربط بين الفكر والحركة، نظرًا إلى الوزن النسبي للحركات السياسية الإسلامية في الواقع العربي المعاصر.

وختاما فى النهاية فأن؛ حل أزمة العلوم السیاسیة مصريا وعربيا وإسلاميا لا یمكن أن تكون فى صورة روشتة یقدمها فرد واحد ولكن من خلال جهد كثیر من باحثى علم السیاسة یضعون أیدیهم أولا عُلى المشكلات ثم یقدمون الحلول. ومن هنا فإن الدعوة إلى التجدید في علم السیاسة وفتح آفاق جدیدة لهذا الحقل المعرفي في المستقبل، إنما هي دعوة دائمة لا تتوقف ولا تقتصر على جیل دون جیل، ویشارك فیها الجمیع كهم ورسالة مشتركین. ومن أجل ذلك، لا ینبغي أن تتلبس هذه الدعوة شكل التمرد الطفولي على منجزات الأجیال السابقة في الماضي القریب أو البعید أو حتى السحیق، ومقصدها هو إعادة توظیف هذه الجهود من أجل التجدید المستمر في بناء العلم، ولا یحول هذا دون التخلص من العناصر الفكریة التي تسبب الجمود الفكري وتعرقل التغییر تحت أي زعم.

تشير المراجعات لحالة علم السياسة إلى أنه من خلال الدراسات البينية يوجد تراجعا للحدود الفاصلة بين فروع علم السياسة مع العلوم الأخرى من حيث الموضوعات والاقترابات والمفاهيم.

وفيما يرتبط بالعلاقة بين علم السياسة والبيولوجيا؛ يمكن الإشارة إلى أنه: بالرغم من أن الانتشار الواسع لفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" وتحوله إلى جائحة على هذا النحو، هو شيء ليس بالغريب أو الاستثنائي في عصر العولمة، إلا أن انتشار هذا الفيروس يعد أخطر أزمة وبائية غير مسبوقة في العلاقات الدولية في العالم المعاصر، بما وُصف بأنه أكبر حالة استنفار طبي في التاريخ على مستوى النظام الدولى، وهذا ربما يمثل طفرة علمية فى حقل علم السياسة، من خلال عدة قضايا بحثية ومنهجية، نذكر منها ما يلى:

§       تكرار نماذج إدارة الأزمات: حيث تعاملت جميع الدولُ التي امتدّ إليها الفيروس، والدول الأخرى التي تحاول منع امتداده إليها، مع هذه الأزمة بإجراءات مشابهة، والتي تضمنت غلق الحدود، ووقف رحلات الطيران، والعزل الصحي، وتعليق الدراسة وإلغاء التجمعات والفعاليات العامة، وحتى الشعائر الدينية.

§       هشاشة الديموقراطيات الغربية الليبرالية: حيث أظهرت جائحة كورونا الضعف الهيكلي فى الدول الغربية والمتقدمة فى اتخاذ تدابير لمواجهة انتشار الفيروس تحفظ صحة وسلامة المواطنين، وعدم توفر استعدادات طبية مناسبة على نطاق واسع.

§       عودة الاعتبار لدراسات الأمن الإنسانى، وقياس حالة الثقة بين المواطن والحكومات: حيث قد تضافرت حالة عدم اليقين في تعامل الحكومات مع الأزمة بما قد يكون له تداعياته على النظم السياسية.

§       بروز متوقع لدراسات التحول عكس الديمقراطية: من خلال سياسات وإدارة الحكم فى معظم الدول فى الشمال نحو أساليب تسلطية أو عودة نموذج الدولة المتدخلة.

§       الاهتمام بدراسة تأثير المتغيرات المادية والجغرافية على قدرات النظام السياسى على مواجهة الأزمات والكوارث وقدرة الدولة على الصمود وسياسات جودة استمرار البقاء على قيد الحياة، بدون معاناة طبية يمكن تجنبها كحق إنسانى.

بالرغم من أن علم السياسة لا يزال علما أمريكيا، إلا أن الاتجاهات النقدية لحالة العلم تستدعي التحليل الثقافية والقيمية كمداخل لتحليل الظاهرة السياسية والتنظير حولها، والأخذ بتعددية المنظورات الحضارية، مما يبرز ضرورة التجديد فى الفكر السياسى، ووجود منظور عربى فى حقل علم السياسة وفروعه المختلفة. دون الانفصال عن التطور الإنساني العالمى.

المصادر:

(*) هذه الورقة البحثية نسخة منقحة وحدثة من دراسة قمت بتقديمها فى تكليفات مقرر العلاقات الدولية فى الإسلام ضمن برنامج الدراسات العليا (الماجستير) بقسم العلوم السياسية بكلية التجارة – جامعة أسيوط.

1.     أحمد علي سالم، تطور علم السياسة في الولايات المتحدة: من بناء التقاليد المهنية إلى محاولات إعادة تماسك الجماعة العلمية، مجلة النهضة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 11، العدد 1، يناير  2010، ص ص 15-34.

2.     داليا أحمد رشدي، الثورة المصرية والتغير في دراسة العلوم السياسية، مجلة النهضة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 12، العدد 3، يوليو  2011، ص ص 153-162.

3.     رائد عكاشة، وعائشة الحضيري (تحرير)، صورة الإنسان بين المرجعيتين الإسلامية والغربية، (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠٢٠).

4.     علي الدين هلال، الثورة المصرية وتأثيرها على البحث والتدريس في العلوم السياسية، مجلة النهضة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 12، العدد 2، أبريل 2011، ص ص أ – د.

5.     مريم وحيد، العلوم السیاسیة في مصر: الواقع والمستقبل، مجلة النهضة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 15، العدد 3، يوليو 2014، ص ص 177 – 184.

6.     نصر محمد عارف، حالة علم السياسة في القرن العشرين: تاج العلوم هل يستطيع أن يكون علماً، مجلة النهضة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، المجلد 1، العدد 1، أكتوبر 1999، ص ص 5-34.

7.     وليد عبد الحي، العلوم السياسية في الجامعات العربية: اقتراح نموذج، مجلة عمران، المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 2، خريف 2012، ص ص 153 – 169.