المركز العربي للبحوث والدراسات : مراجعة كتاب "حزب الله .. الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان" (طباعة)
مراجعة كتاب "حزب الله .. الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان"
آخر تحديث: الخميس 19/03/2020 01:23 م جوزيف ضاهر–مراجعة: عمر حسن - عرض وترجمة: أحمد نبوي
مراجعة كتاب حزب الله

يتعرض الكاتب في هذه الدراسة لمراجعة كتاب في غاية الأهمية، هو كتاب جوزيف ضاهر عن حزب الله في لبنان، والجديد في هذا الكتاب ليس فقط العمق التحليلي المبني على دراسة امتدت لسنوات للحزب، بل أيضًا الإضافة التي وإن لم تكن جديدة لكنها نادرة في حقل دراسات الإسلام السياسي، وهو استخدام اقتراب الاقتصاد السياسي في دراسة الإسلاموية وحركاتها، هذا الاقتراب في الحقيقة في غاية الأهمية، ويسهم في فهم الكثير عن حركات الإسلام السياسي بتنويعاتها المختلفة، شيعية كانت أو سنية، معتدلة كانت أو متطرفة، ففي النهاية يلعب المال دورًا بارزًا في بنى هذه الحركات وتحركاتها، وتشكيل عقائدها،  وفي ترجمتنا هنا للورقة التي كتبها الباحث عمر حسن، نأمل أن تتبعها ترجمات أخرى، لكتابات تستخدم ذات الاقتراب في دراسة الظاهرة الإسلاموية.

يتحدث الكاتب في المقدمة عن أن الأحزاب الإسلامية تزايدت شعبيتها على عدة أصعدة في السنوات الأخيرة، سواء من حيث التأثير أو الانتشار، يبرر هذا بأسباب مختلفة، كفشل الدولة الوطنية العربية، وسياسات النيوليبرالية المتوحشة، مضاف إليهما فشل اليسار في تقديم بديل فعال للمجتمعات العربية، التي لم تسلم من الآثار السلبية قصيرة المدى للهزيمة الشاملة لـ "الاشتراكية القائمة" آنذاك- التي تُفهم بشكل أفضل كستالينية،  يمكننا أيضًا أن نضيف إلى هذه الصورة العامة أحداثًا إقليمية محددة، بما في ذلك معسكرات التدريب التي رعتها الولايات المتحدة للمجاهدين الأفغان في الثمانينيات.[1] مضاف إليها الإرث الوحشي والطائفي الذي خلفه الاحتلال الأمريكي في العراق،  كذلك اشتعال التنافس بين إيران والمملكة العربية السعودية، ونتيجة لهذا هيمنت الأحزاب الإسلامية في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، والعراق (الدعوة)، وتتقاسم السلطة في تونس (النهضة)، وفلسطين (حماس)، ولبنان (حزب الله)، وشكلت لسنوات أحزاب المعارضة الرئيسية في دول أخرى كمصر.

على الرغم من هذه التطورات، كان هناك القليل من التنظير أو البحث الجاد حول هذه الحركات. وغالبًا ما تعتمد مناقشات المنظمات الإسلامية من قبل الأكاديميين والصحفيين المؤثرين على تحليلات مختزلة تجمع بين أطياف إسلامية واسعة من المنظمات والأيديولوجيات في مجموعة واحدة يطلق عليها "الإسلام السياسي" ، أو ، "الإرهاب".

لم يُعفى اليسار كلياً من هذا الفخ المفلس والعنصري سياسياً. خذ تحليل أولئك الذين يدافعون عن النظام السوري، والذين يشيرون بشكل متكرر إلى الثوريين على أنهم "جهاديون" و "متهورون" ، ويرفضون التمييز بين المشاعر الديمقراطية التي حفزت الثورة الأصلية، وبقايا الجيش السوري الحر (FSA) والجماعات الإسلامية المعتدلة, وبين النصرة وتنظيم داعش. فأي إشارة إلى الإسلام في البرنامج السياسي للحزب تجعل المرء رجعيًا، وفقًا لهذا الرأي.

في هذا السياق، يكون من المفيد أن نقرأ كتاب جوزيف ضاهر الهام، حزب الله:  الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان ،  الذي من الواضح أنه نتاج سنوات من البحث المضني، إذ يجمع النص كمية هائلة من الإحصاءات والخلفية التاريخية والمقابلات مع الجهات الفاعلة الرئيسية لإنتاج صورة مفصلة لأهم حزب في السياسة اللبنانية. 

الإسلاموية النيوليبرالية

الجدل الأساسي في الكتاب هو أن حزب الله أصبح حزبًا تمثل سياساته مصالح الجزء الشيعي من البرجوازية اللبنانية،   لدعم هذا الادعاء يوثق ضاهر الروابط الواسعة والمتنامية بين الطبقة الصاعدة من الرأسماليين الشيعة والتسلسل الهرمي للحزب.

فلفترة طويلة سيطرت الطبقة الرأسمالية المارونية والسنية، إما الثمانينات والتسعينات فقد شهدت صعود الطبقة الرأسمالية الشيعية التي ركزت بشكل أساسي على البناء والتجارة،   وكانت إعادة بناء المناطق المدمرة والفقيرة في الغرب وخاصة جنوب بيروت - وهي المناطق التي تتميز بوجود تجمعات كبيرة من الطوائف الشيعية - وسيلة للاستثمار المربح لطبقة من المستثمرين الشيعة،  وبدعم كبير من التحويلات المالية من المهاجرين الشيعة الناجحين وأيضًا من تعويضات ما بعد الحرب، حيث مال هذا الاستثمار  إلى التركيز على فرص السكن والسياحة للعائلات الشيعية ذات الدخل المتوسط والعالي.

وتم تنظيم هذه الاستثمارات بشكل عام على النمط الطائفي والزبائني الذي يسود بقية الرأسمالية اللبنانية،  وهذا يعني أن حزب الله يستخدم مواقعه في السلطة لصالح الشركات الشيعية التي يُدعم أنشطتها، بمنحها إعانات، وموافقات البناء والتغطية الإعلامية التفضيلية،  في المقابل، فإنه يتوقع الولاء المطلق، وهو على استعداد لسحق أولئك الذين يحاولون تشكيل وجود اقتصادي وسياسي مستقل فيما يعتبرونه مناطق نفوذ خاصة بهم.

على سبيل المثال، قامت إحدى الشركات الخاصة ببناء سلسلة من الأماكن السياحية الدينية في جميع أنحاء جنوب لبنان، ومدرسة إسلامية يديرها حزب الله ، وبرج إذاعي لمحطة إذاعة تابعة للحزب، والآن تحصل على عقود حكومية مربحة لمشاريع بناء في العراق،  ويسلط هذا الجانب الأخير الضوء أيضًا على الروابط الجوهرية بين رأس المال الإيراني والشيعي اللبناني، وهي العلاقة التي تقابل علاقة أخرى تربط رأس المال السعودي برأس المال السني اللبناني.

توسع حجم ونطاق مشاريع البناء هذه بشكل كبير بعد حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006، واستفاد المستثمرون المرتبطون بحزب الله من معونات حكومية كبيرة لإعادة الإعمار الاجتماعي، وقد أدى ذلك إلى بدء دورة فعالة من الاستثمار والإقراض والتجارة والمزيد من الاستثمار الذي ، على الرغم من أنه لم يفد المجتمع الشيعي بأكمله، فقد رفع عشرات الآلاف إلى صفوف الطبقة المتوسطة والعليا.

لإثبات ذلك، يقدم ضاهر البيانات التي تشير إلى أنه على الرغم من أنه لا تزال هنالك طبقة كبيرة عاملة فقيرة من الشيعة (كما هو الحال بالنسبة لكل الطوائف)، فإن المناطق الخلفية كمدينة طرابلس الشمالية تعاني من فقر أشد، وهي منطقة ذات أغلبية سنية، وشهدت في الآونة الأخيرة تصاعدًا لنشاط منظمات إسلامية على غرار داعش بعد عقود من سيطرة النخب السنية الحضرية عليها.

الحزب البرجوازي

في مقالته الرائدة في العام 1994 تحت عنوان " النبي والبروليتاريا" ، جادل الماركسي البريطاني كريس هارمان أن التنظيمات السياسية الإسلامية جذبت الدعم من جميع الطبقات، لكنها ركزت بشكل أكبر على دعم الطبقة الوسطى الفقيرة، سواء كانوا تجارًا تقليديين، أو أصحاب متاجر ورجال دين أو حتى صغار موظفي الخدمة العامة،   لذا كان هذا المقال إضافة هامة في الحجاج حول كيفية فهم الإسلاموية ، وطرح تحليلاً يتجنب الإسلاموفوبيا ويتجنب كذلك التأييد الأعمى الغير منطقي للإسلاموية،  وتبقى المقالة نقطة مرجعية هامة لليسار في التحليل والتعامل مع مثل هذه المنظمات.

وفي قسم هام وغالبًا ما يتم تجاهله في بداية المقال، يشير هارمان إلى القواعد الطبقية المختلفة للحركات الإسلامية، بالإضافة إلى الطبقات التقليدية الحاكمة والطبقة المتوسطة والطبقات الحضرية الفقيرة ، حيث يدرس طبقة من الرأسماليين الحقيقيين الذين يدعمون هذه الأحزاب:

ثانيًا، غالبًا ما يخرج من بين [الطبقة المستغلة القديمة]، بعض الرأسماليين الذين حققوا النجاح على الرغم من العداء من تلك الجماعات المرتبطة بالدولة،   في مصر ، على سبيل المثال، شقّ الإخوان المسلمون طريقهم إلى النسيج الاقتصادي لمصر السادات في وقت تحولت فيه أجزاء كاملة منه أنذاك إلى رأسمالية غير منظمة،  عثمان أحمد عثمان، الملقب بروكفلر المصري، لم يخف هذا التعاطف مع الإخوان. [2]

وعلى الرغم من أهمية هذا التبصر، يمكن القول بأن دور هذه الطبقة البرجوازية يظل غامضًا، فثمة قطعة من حجر البازل يظل مفقودًا،  وهذا أمر مهم لأنه بعد عقدين من الزمان، نما التأثير النسبي لهذه القوى البرجوازية على الأحزاب الإسلامية الجماهيرية عبر المنطقة بلا شك،   ولم تعد هناك أحزاب مثل الإخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية وحزب الله من خارج المؤسسة السياسية، ربما باستثناء مصر حيث كان القمع هائلاً ، لم يعد من الممكن القول إنهم في الأساس أحزاب من الطبقة الوسطى، وبالتأكيد هم ليسوا "إصلاحيين". [3] هم الآن، على الرغم من الاختلافات الإقليمية والوطنية، أجزاء تتكامل مع النظام الرأسمالي سياسيًا واقتصاديًا،  وقد تجلى هذا التحول في البراغماتية والسلطوية المتزايدة على الساحة السياسية، والتكيف مع الاقتصاد النيوليبرالي على الصعيد الاقتصادي،  وبقدر ما لا يزالون يتصادمون مع الأقسام المتنافسة من رأس المال، إلا أنه صراع يقتصر حول الوصول إلى أجهزة صنع القرار وتخصيص الأموال؛ و لا توجد خلافات جوهرية مع صميم الاقتصاد النيوليبرالي واستراتيجيات التنمية في حد ذاتها.  

ضاهر باقتدار يوثق رحلة حزب الله في هذا الطريق، حيث كان الحزب في بدايته  يعارض بشدة الهياكل السياسية الطائفية للمجتمع اللبناني، ودعا لتحديث ودمقرطة النظام الانتخابي الطائفي،   كان هذا جزئياً انعكاساً لتوجهات الشرائح الفقيرة والطبقة الوسطى من الطائفة الشيعية، التي تعرضت للاضطهاد والاستبعاد من قبل المؤسسة اللبنانية،  بالإضافة إلى ذلك، فقد اتضح موقفه من خلال تنافسه مع الحزب الشيوعي اللبناني واليسار التقدمي، الذين تمتعوا لفترة طويلة بدعم قوي من الطبقة العاملة والفقراء من أبناء الطائفة الشيعية،  اليوم، تخلى حزب الله كلياً عن هذه التوجهات مقابل حصة في النظام الطائفي الفاسد للسياسة اللبنانية.

وعلى الرغم من الحزب يواصل جذب دعمه من جميع طبقات المجتمع الشيعي، إلا أن النخب الشيعية هي التي تشكل بشكل متزايد الجزء الأكبر من الكوادر القيادية في الحزب، ويميل الجيل الجديد للحصول على مستويات أعلى من التعليم العالي والثروة بخلاف الأجيال السابقة من القادة.

يعكس هذا الاتجاه الطبيعة المتغيرة للمجتمعات الشيعية في لبنان، والتي يتم تمثيلها بشكل متزايد في الطبقات المتوسطة المهنية، ويوثق ضاهر كيف استولى المرشحون المنتمون إلى حزب الله في العقد الماضي على نقابة المهندسين والمهندسين المعماريين، وعلى منصب نائب رئيس نقابة أطباء الأسنان، وتمثيلهم في المجموعة الحاكمة في نقابة الأطباء، وفشلوا فقط في الحصول على نقابة الصيادلة بأقل من    2٪ من الأصوات. [4] وتنعكس هذه العملية في التكوين الاجتماعي للجناح البرلماني للحزب: 

فخمسة من أصل عشرة نواب منتخبين من حزب الله يحملون شهادات الدكتوراه، وأربعة آخرون على الأقل يشتهرون في مجال الأعمال بلبنان،  فينحدر علي عمار على سبيل المثال، وهو نائب حزب الله الأطول خدمة، من إحدى أغنى العائلات في برج البراجنة. [5]

دولة داخل الدولة

على الرغم من هذه الطبيعة البرجوازية للحزب، فإن قادته قلقون للغاية للحفاظ وتوسيع قاعدتهم الجماهيرية في المجتمع الشيعي،  ولهذه الغاية، أنشأ الحزب سلسلة من منظمات المجتمع المدني التي تنشر الطابع الخاص بالمنظمة من إيديولوجيات سياسية واقتصادية ودينية.

ويبدو الحزب في بعض النواحي، مشابهًا للحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD) في أوائل القرن العشرين، على الرغم من أنه أكثر استهدافًا للربح، ويدير سلسلة متكاملة من المؤسسات، بما في ذلك المدارس والتلفزيون والإذاعة ووسائل الإعلام المطبوعة والعيادات الصحية والصناعات السياحية والترفيهية والمساجد والبرامج الكشفية وأكثر من ذلك،  فهو يقدم بطاقات تسوق مخفضة لاستخدامها في المتاجر المعتمدة (المدعومة من حزب الله، المملوكة للشيعة)، والرعاية الصحية المدعمة لأعضائه، ورعاية أسر القتلى في العمليات العسكرية للحزب، وما إلى ذلك.

تتجسد في بنية وخطاب كل هذه المؤسسات علامة مميزة إسلامية شيعية شاعها آية الله الخميني لأول مرة في الثورة الإيرانية،  تشدد على ضرورة الطاعة الكاملة للهيئات الدينية العليا، والالتزام بقواعد التواضع والامتثال الصارمة، ومقاومة الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائها.

ويشرح ضاهر كيف نفذ الحزب استراتيجية طويلة الأمد تسعى إلى تديين الطائفة الشيعية في لبنان، وهو ما يعتبره الحزب وسيلة لتعزيز سيطرته،  وقد تزامن ذلك مع مواقف رجعية للغاية انتهجها الحزب تجاه النساء والمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين - وفي المناطق التي يسيطر عليها الحزب، يُفرض الحجاب بشكل أو بآخر على النساء، ويتم فرض حظر على الكحول وغيرها من الأعمال "الحرام" بشكل صارم،  وقد تبنى الحزب أيضًا موقفًا أكثر طائفية تجاه الجماعات الطائفية الأخرى، ويشارك الآن مع المؤسسة الأمريكية تركيزًا هوسيًا تقريبًا على تهديد التكفيريين ، أو الجماعات الإسلامية السنية المتطرفة.

وكان تدخله في الحركة النقابية من أكثر الجوانب الشنيعة لممارسته السياسية - وأحد الأجزاء الأكثر أهمية في كتاب ضاهر ، ففي التسعينيات ، كانت الحركة جزءًا من النظام الليبرالي الجديد المؤسس من قبل رفيق الحريري، ودعمت الخصخصة الوحشية لأصول لبنان،  في حين أن حزب الله بدأ وجوده على دعوى أنه يدافع عن مصالح الفقراء والعمال، لكن في الحقيقة كان الحزب الأكثر تحالفًا مع المستثمرين ورجال الأعمال.

وعندما واجهت مقاومة نقابية قوية، تدخلت الحكومة مباشرة في شؤون الاتحاد العام للعمال اللبنانيين (CGTL) من أجل هزيمة اليسار وفرض السلبية على الحراك،  وتم ذلك من خلال الاستفادة من الخصائص الدستورية غير الديمقراطية للاتحاد، والتي أعطت حقوقًا متساوية لجميع النقابات بغض النظر عن حجمها،  وحينها شكل حزب الله، إلى جانب الأحزاب الحكومية الأخرى، عددًا من النقابات الطائفية المزيفة من أجل تكديس المجلس والحفاظ على سيطرتهم على الصناعات الرئيسية،   ولم يكن اليسار قادرًا على مقاومة هذه الهجمة المنسقة، وما تزال الحركة النقابية تعاني من نتائج هذه الأزمة حتى الآن.

الثورة والثورة المضادة

كما هو الحال في السياسة في كثير من الأحيان، فإن التأثير التراكمي لتوافق حزب الله التدريجي مع الوضع الطائفي الراهن يمكن أن يصبح واضحًا تمامًا تحت ضغط الأحداث الحاسمة،   وهكذا يختتم ضاهر كتابه بتحليل رد فعل حزب الله على أهم حدث في الشرق الأوسط منذ عقود –ثورات 2011.

حاول حزب الله عمومًا، مثل العديد من المنظمات التي تندرج وتدخل في حرب العصابات في المنطقة، الحفاظ على موقف الحياد تجاه السياسة الداخلية لمختلف الأنظمة العربية، ويعتمد هذا الموقف الخاطئ على حاجة مثل هذه الجماعات إلى تلقي تمويل خارجي وأسلحة من الجهات الحكومية المتعاطفة، حيث تعتمد استراتيجية حرب العصابات على البراعة العسكرية بدلاً من النضال الجماعي السياسي أو الاقتصادي،  وحتى عام 2009، كان زعيم الحزب حسن نصر الله قد أعلن أن حزب الله "ليس لديه صراع أو مشكلة مع أي شخص، أو نظام سياسي عربي في هذا البلد أو ذاك، سواء كان ديمقراطيًا أو ديكتاتوريًا أو ملكيًا أو سلالة أو دينيًا أو علمانيًا أو قانونيًا أو غير قانوني ...  بغض النظر عن الوصف لا نتدخل في مثل هذه الأمور ".  [6]

ومع ذلك، فعندما بدأت الاحتجاجات في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، اتخذ الحزب موقفاً مبدئياً لدعم هذه الحركات، بحجة أن "انتفاضات السكان العرب هي فرصة حقيقية لاستعادة حرية القرار،  والعودة إلى روح الموقف العربي الرافض للهيمنة الأجنبية ". [7]

ومن المثير للاهتمام أن نصرالله بدأ بإدانة نظريات المؤامرة التي كثرت حتى منذ الأيام الأولى:

أي اتهام يدعي أن أمريكا هي من تقف وراء هذه الثورات، وحرضتها وقلبتها، وهي تقودها يمثل اتهامًا زائفًا وظالمًا لهذه الشعوب ...  هذه أنظمة تتبع أمريكا وتنسجم معها قدمت وما زالت تقدم خدمات للمؤامرة الأمريكية، ولا تشكل أي تهديد للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الداعمة لإسرائيل. [8]

ولكن مع اندلاع الثورة في جميع أنحاء سوريا، أصبح حزب الله متناقضاً بشكل متزايد بشأن الثورات، ويوضح ضاهر كيف أن معايير الحزب لدعم الحركات الاحتجاجية وموقفها مع إسرائيل واستعدادها للإصلاح طبقت بشكل انتقائي ومنافق،  ففي الواقع، كان الحزب معاديًا تمامًا للثورة في سوريا لأن الأسد كان حليفًا مقربًا للنظام الإيراني ومصدرًا مهمًا للموارد والدعم السياسي.

ومع إطلاق الحكومة السورية العنان للقمع الوحشي ضد الثوار، انضم حزب الله بكل ترحيب إلى ذلك القمع، وشارك في الحصار والغارات والتفجيرات والقتل الجماعي لأهداف مدنية في جميع أنحاء البلاد،  كما ساعد في تدريب ميليشيات شيعية أجنبية نظمتها إيران، ولعبت دوراً حاسماً في استعادة الأراضي من المتمردين في غياب الجيش العربي السوري المفكك إلى حد كبير.

لكن الحزب دفع ثمناً باهظاً لهذا التدخل، حيث فقد أكثر من 1300 جندي بالموت أو الإصابة الخطيرة، والأمر الأكثر أهمية على المدى الطويل هو فقدانه لهيبته في العالم العربي، التي حازها مع العام 2006 كأول قوة هزمت إسرائيل منذ عقود، وكان نصرالله الزعيم العربي الأكثر شعبية في المنطقة أنذاك، بين كل من السنة والشيعة.[9] وحصل مقاتلوه ومؤيدوه على مأوى من جميع الطوائف اللبنانية خلال الحرب، واعتبروا على الخط الأمامي للمقاومة العربية الشاملة لإسرائيل، هذه السمعة في حالة يرثى لها الآن نتيجة للتدخل الطائفي المضاد للثورة في سوريا، ومن الصعب التكهن بكيفية إعادة بنائها. 

من الواضح إذا أن حزب الله يعارض الآن أي حديث عن تغيير النظام في العالم العربي، باستثناء البحرين حيث تتكون الحركة (غير الطائفية بوعي) إلى حد كبير من الشيعة بسبب التركيبة السكانية للبلاد، وكانت موجهة ضد مؤيدي السعودية، من الطبقة السنية الحاكمة.

خاتمة

تأسيسًا على ما سبق، فإن الحجة التي قدمها ضاهر تشير بوضوح إلى أن حزب الله هو حزب برجوازي يقف مع الجناح المناهض للثورات في السياسة العربية، مثله في ذلك مثل العديد من المنظمات الإسلامية الأخرى التي وجدت موطأ قدم لها في عالم الرأسمالية العربية الفاسد. والقوة الدافعة لهذا التطور ليست الدين في حد ذاته على الحقيقة، ولكنه المشروع المهيمن العام لقطاع من رأس المال الشيعي، حيث يعمل الدين هنا كإطار اجتماعي وسياسي موحد ومنضبط. لذا فإن كونك جزءًا من كتلة جيوسياسية معادية لأميركا لا يعني أن فريقك تقدمي، كما ينعكس ذلك في السياسات الاقتصادية والاجتماعية الرجعية للحزب. ومع أن هذا التحليل لحزب الله لا يستبعد التعاون والقيام بأنشطة مشتركة في مجالات معينة - على سبيل المثال في معارضة غزو إسرائيلي آخر - فإنه يصل بنا إلى توجه مختلف نوعيًا لتوجه الحزب الشيوعي اللبناني ورفاقه. وهذا يعني أيضًا أننا بحاجة إلى نهج مختلف جذريًا عن نهج النائب اليساري السابق جورج غالاوي وغيره من اليساريين الغربيين المتأثرين بالستالينية والذين يرون حزب الله كداعم رئيسي لمحور المقاومة في الشرق الأوسط. إذ يظهر فشل هذا الاعتقاد في تنصل حزب الله المتزايد من الخطاب "المعارض" ، وميله المتكرر للصراع - بما في ذلك مع منافسيه المفترضين في تحالف 14 آذار -.

الكتاب إذا لا غنى عن قراءته لأولئك الذين يسعون إلى فهم سياسات الشرق الأوسط. فهو يوفر تفاصيل وسياق تاريخي مطلوبين بشدة لفهم صعود أحد أهم الأحزاب السياسية في المنطقة، ويبدأ عملية تعميق وتحديث عمل كريس هارمان السابق لتوفير إطار ماركسي لفهم الإسلاموية بشكل عام. لأنه كما يقول ضاهر في استنتاجه، سيكون من الخطأ أن ينظر إلى إسلامية حزب الله وغيرها من الأحزاب على أنها مجرد أداة بلاغية. بل هي جانب أساسي من البرنامج السياسي والهياكل المؤسسية للحزب، والتي يتم تشكيلها من خلال هياكل الرأسمالية في الشرق الأوسط وبالتالي تشكيلها. وسوف يتطلب الأمر زيادة في الصراع الطبقي وتطوير المنظمات السياسية للطبقة العاملة غير الطائفية بوعي لتحطيم الواقع الاجتماعي والسياسي للطائفية في المنطقة. أثناء ذلك، يجب بذل جهد حقيقي لتحليل انتشار المنظمات الإسلامية الجماهيرية والعمل على كيفية بناء قطب يساري مستقل تنظيميًا، لمحاولة فهم وتقويض الاستقطاب الكارثي لسياسات الشرق الأوسط إلى "علمانيات" و "إسلاميات سلطوية نيوليبرالية". لذا فكتاب ضاهر يعد مساهمة فكرية في هذا التحدي السياسي الأوسع.

قائمة المراجع

Omar Hassan، Review – 'Hezbollah: The political economy of Lebanon’s party of god', by Joseph Daher, Marxist Left Review, Available at: https://cutt.us/ROAhv

Alabbasi, Mamoon 2015, “Fall from grace: Hezbollah in the eyes of Sunni Syrians”, Middle East Eye, 24 February, www.middleeasteye.net/news/fall-grace-hezbollah-eyes-sunni-syrians-2034442637.

Bouharoun, Jad 2017, “Understanding the counter-revolution”, International Socialism, 153, Winter, http://isj.org.uk/understanding-the-counter-revolution/.

Daher, Joseph 2016, Hezbollah: The political economy of Lebanon’s party of god, Pluto Press.

Harman, Chris 1994, “The prophet and the proletariat”, International Socialism, 64, Autumn, http://www.marxists.de/religion/harman/.

Naguib, Sameh 2007, “Egypt’s strike wave”, International Socialism, 116, Autumnhttp://isj.org.uk/interview-egypts-strike-wave/.

1-           Islamic warriors defending their country from the Soviet Union, which invaded in 1979.

2-           Harman 1994.

3-     انظر Bouharoun 2017 ونجيب 2007 للحصول على أمثلة للإشارة إلى الإخوان المسلمين "الإصلاحيين". ويمكن إرجاع ذلك جزئياً إلى إشارة كريس هارمان إلى الإخوان على أنهم "تبنوا توجه" إسلامي إصلاحي " في مقالته "النبي والبروليتاريا". في حين أن الصياغة الأخيرة مفيدة في تمييز الإخوان والمنظمات المماثلة عن الجماعات الإرهابية الأكثر تطرفاً، لأن الانزلاق إلى وصفهم بأنهم "إصلاحيون" يخطئ بعمق ويضعف الفهم الماركسي التقليدي للوعي الإصلاحي والمنظمات.

4-           Daher 2016, p88

5-           ibid., p89.

6-           ibid., p170.

7-           ibid., p191.

8-           ibid., p171.

9-           Alabbasi 2015.