المركز العربي للبحوث والدراسات : "العدالة والتنمية" المغربي .. ما الذي بَقِيَ من الإسلام السياسي؟ (طباعة)
"العدالة والتنمية" المغربي .. ما الذي بَقِيَ من الإسلام السياسي؟
آخر تحديث: الخميس 06/02/2020 01:45 م
أحمد نبوي أحمد نبوي
العدالة والتنمية

جاء وصول العدالة والتنمية، على رأس الحكومة المغربية في يناير/كانون الثاني "2012" عبر ائتلاف حكومي مكن عبد الإله بنكيران من رئاسة هذه الحكومة التي أعيد تشكيلها مرة أخرى بقيادة نفس الحزب ورئاسة بنكيران أيضًا في أكتوبر/تشرين الأول "2013" بعد انسحاب حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي. فمع انطلاق ثورات الربيع العربي، بدأ ما عُرف بالمد الإسلاموي، الذي أتخذ مسارًا واحدًا تقريبًا وهو صعود الإسلاميين إلى السلطة، ثم انزوائهم شيئًا فشيئا، بل وانحسارهم بالكامل في نماذج أخرى، إلا أن العدالة والتنمية في المغرب ظل استثناءً في ذلك، فالحزب الذي وصل للسلطة في العام "2012" ما زال يتربع على عرش السلطة في المغرب، بحكومة يقودها سعد الدين العثماني، تلك السلطة التي يشاركه فيها الملك المغربي.

                طرح استمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة أسئلة كثيرة، وفيما عَد البعض هذا الاستمرار نجاحًا من الحزب، يعبر عن ديناميكية عالية، في التعامل مع المعطيات على أرض الواقع، خاصة فيما يخص التحالف مع القصر، لكن في المقابل عَد البعض الأخر هذا النجاح كناتج للبرجماتية التي لا يحدها حد، وليس لها سقف، ولا يبررها غير الرغبة في المحافظة على الوجود، أي كانت التنازلات!

                لكن يبَقِيَ السؤال الأهم الذي تثيره هذه التجربة في رأينا، هو حول ماهية التجربة الإسلامية بشكل عام، وما الذي يعنيه أن يكون الحزب إسلاميًا؟ فالملاحظ في مسار العدالة والتنمية في سنواته الأخيرة، اتجاهًا للتخلي عن كل ما هو ديني، فلم يعد الدين كما يرى متابعون يُستدعى عادة إلا أمام الصناديق وفي المؤتمرات الانتخابية للتجييش والحشد الجماهيري، إما في الفضاء العام حيث سن القوانين والنقاش العام حولها فقد انزوى الدين بشكل كبير من خطاب الحزب وقادته، وحل محله ما كان كثيرون يراهنون عليه وهو خطاب يتناص مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية والحياتية اليومية لعموم الجماهير، انزوت إذا المطالب الهوياتية، لتحل محلها اهتمامات حيوية تتعلق بهموم البسطاء ومطالبهم اليومية.

                لكن حتى مع الانتقال للتركيز على مشاكل المجتمع المباشرة، في الاقتصاد والاجتماع، يصعد إلى السطح سؤال مشروع، هل لدى الإسلاميين في المغرب ما يقدمونه في ملف التحديث؟ وهم الذين تشبثوا لسنوات بخطابات شعاراتية تبتعد عن الواقع ومشاكله الفعلية.

من الشريعة إلى لقمة العيش: ما الذي تغير؟

                يتابع دارسي الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة تحولات جِذرية تشهدها ظاهرة الإسلاموية، وهي الحالة التي يُعرفها بعض الباحثين بـ "ما بعد الإسلاموية"، وعلى رأسهم الباحث آصف بيات [1] وأوليڤييه روا [2] وغيرهم، ولما بعد الإسلاموية تجليات عدة، لكن أهمها وهو ما نعبأ به هنا، هو الانتقال من الخطاب الهوياتي التقليدي للإسلام السياسي، المرتكِز على سرديات كبرى من شبيه تطبيق الشريعة ومناهضة العلمنة وغيرها، إلى خطاب يطمح أن يكون أكثر تماشيًا مع المنجز الحداثي، وأكثر تعبيرًا عن المطلب الحيوي للشارع.

                ويعتقد البعض أن هذا التحول الذي تشهده عديد الحركات الإسلامية طبيعيًا ومتوقعًا، لأن الجميع محكوم في النهاية بأفق علماني عالمي، ينحى يومًا بعد الأخر نحو نزع القداسة عن الدين ورجاله، ليلصقها بالدولة، لتصبح هي عن قريب المقدس الوحيد، لذا يجادل البعض هنا أن تحول الحركات الإسلامية نحو فصل السياسي عن الدعوي الهوياتي، جاء ضمن إطار هذا الأفق العام العلماني، الذي يشجع على هذا الفصل بما يشبه الحتمية التاريخية.

                كان العدالة والتنمية المغربي سباقًا في هذا الفصل على الحقيقة، حيث فصل بداية بين الذراع السياسي ممثلًا في "العدالة والتنمية"، والذراع الدعوي والذي تمثله "حركة التوحيد والإصلاح"، تطور الفصل بعد ذلك لخطاب العدالة والتنمية نفسه الذي لا يتبنى الشريعة اليوم كأفق واضح، ولا يوجد بين قادته من يتحدث عن تطبيق الشريعة أو غيره. لكن مع ذلك ظل السجال قائمًا حول تحقق هذا الفصل عمليًا.

                الدعاوى ضد الإسلاميين لم تتوقف في الحقيقة عند هذا الحد، بل رأى البعض في التحالف القائم بين القصر الملكي وبين العدالة والتنمية، والذي قام بعد تظاهرات "2011" ، خيانة لمطالب الحراك التغييري، وأن العدالة والتنمية اختار مصالحه الحزبية الضيقة على مصلحة المغرب الكبرى، والتي يراها البعض في الفرصة التي أهدتها الثورة للمغاربة لإحداث تغيير حقيقي بتقليل صلاحيات الملك، فمن المعلوم أن دستور "2011" الذي اختار العدالة والتنمية دعمه، وإن ألزم الملك بتعيين رئيس حكومة من الأغلبية البرلمانية، فإن سلطان التاج الملكي على السلطة التنفيذية ظلّ طاغيًا، وذلك على حساب رئيس الحكومة، الذي يظهر "أكثر بقليل" من رتبة سكرتير للملك ولكنّه أقل من الصلاحيات المفترضة لرئيس حكومة في كل الحالات.[3] وهو ما عده البعض ارتدادًا لا يليق بالحراك المغربي المطالب بإصلاحات حقيقة.

                المتفحص في الحالة المغربية سيجد في الحقيقة، درجة عالية من البرجماتية تغلف مسارات واختيارات الحركة الإسلامية وبالتحديد العدالة والتنمية، فالحزب تحالف مع جميع الأطياف السياسية في تشكيل الحكومة، تلك الحكومة التي ضمت بين أعضاءها الاشتراكيين والليبراليين وغيرهم. وبينما عَد الحزب هذا التحالف مرونة وتقبلًا لجميع الأطياف المغربية بغية الحصول على حكومة فعالة لحل مشاكل المغاربة. لكن مرة أخرى أثيرت الشكوك حول نية الحزب في البقاء في السلطة حتى إذا كان ضريبة ذلك التحالف مع ألد أعدائه.

                ليبَقِيَ السؤال مطروحًا، ما الذي بَقِيَ من الحركة الإسلامية في المغرب؟ فالعدالة والتنمية رغم أنه يحمل واجهة إسلامية ويعرف نفسه بأنه: "حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقًا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي "، إلا أن البعض يسأل ما الذي يعنيه هذا؟ متى استحضر العدالة والتنمية الدين في سنواته الأخيرة؟ اللهم إلا للتجييش الانتخابي وتعبئة منتسبيه، إما ما هناك فلا يعدو أن يكون ممارسات علمانوية صرفه. وهذا الاتهام لا يعني ملاحقة العدالة والتنمية ليعيد الدين إلى خطابه من جديد، بل هو إيضاح لزيف ما ادعته الحركة لعقود من حمل راية الدين والشريعة الإسلامية والزود عنها كما يرى البعض، فلسنوات رفعت الإسلاموية شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، ليكون واجهتها الأساسية للعمل السياسي والتفاعل مع الشأن العام، لكن تغير الأمر الآن ولم يعد لهذه الشعارات وجود عند عديد من الحركات الإسلامية، ومنها حزب العدالة والتنمية، ويرى قيادات الحزب دفاعًا عن هذه التوجهات الجديدة أنها توجهات طبيعية لأنها تبحث عن الصالح العام، فبعد الوصول للسطلة أدرك الإسلاميون أن ما يهم الشارع المغربي في حقيقة الأمر ليس المعارك الأيديولوجية ولا النزاع على هوية الأمة، بل ما يهم المواطن على عموم القطر المغربي هو لقمة العيش، بمعناها الأوسع من رحابة الدخل والتطور الاقتصادي والإصلاح الإداري، وهذه مطالب لن تحققها الشعارات الرنانة والخطب العصماء التي اعتاد أن يلقيها بن كيران وقيادات حزبه هنا وهناك.

مرة أخرى .. العدالة والتنمية والانعتاق من إرث الإخوان المسلمين

                كما نكرر في هذه السلسلة المعنية بتقديم قراءة لتجارب الإسلام السياسي في الحكم ما بعد الربيع العربي، فإن واحدة من الإشكالات التي تواجه معظم الحركات الإسلامية اليوم هي الانعتاق من إرث الإخوان المسلمين في مصر، لذا فإننا نرى أيضًا نفس السجال يخوضه العدالة والتنمية المغربي، فيصرح سليمان العمراني نائب الأمين العام للحزب قائلًا: "لن نهدر الجهد والوقت، ولن ندخل في المعركة الخطأ بنفي علاقة حزب العدالة والتنمية بتيار الإخوان، زاعمًا أن انسلاخ الحزب عن الجماعة أمر معلوم بالضرورة". [3] وهو التصريح الذي رأه البعض بمثابة تفريط في ثوابت الحزب، المعروف عنه أنه فرع للإخوان المسلمين.

                لكن ثمة أصوات أخرى تؤكد هذه العلاقة التي تجمع الحزب بالجماعة ومنها ما ورد على لسان محمد الشيخ بيد الله، عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، المعارض للعدالة والتنمية الذي تحدث عن أن العدالة والتنمية منتمي وبقوة للإخوان المسلمين، وأن حزب الأصالة والمعاصرة إنما يحاول ومنذ التأسيس معارضة الإسلاميين للانعتاق مما يصفه بالتبعية للإخوان المسلمين[4].

هذه الحالة كما نرى تتكرر في نماذج عديدة، خاصة تونس وتركيا والمغرب، وحالة الانسلاخ من الاخوان المسلمين، يفسرها البعض بما يشبه القفز من المركب قبل غرقه، وخوف هذه الحركات أن يطالها ما طال الإخوان المسلمين في مصر، في حين يرى البعض أن تحول هذه الحركات هو ضرورة يمليها الوعي القومي المتصاعد لدى شعوبها والذي يرفض تبعية هذه الحركات لتنظيمات متجاوزة للقوميات.

الحزب والملف الاقتصادي: هل ثمة مشروع اقتصادي أصيل؟

                جاءت التجربة المغربية على مستوى الاقتصاد مخيبة للآمال عند البعض، لأنها ركزت على رفع الدعم وخاصة دعم المحروقات، لذا يراها البعض توجهات رأسمالية وسير على خطوات وهدي المنظمات الاقتصادية الدولية بشكل كبير، ولا تراعي الطبقة المتوسطة والأقل دخلًا تلك التي أتت بالحزب للسلطة وتنكر لها الحزب كما يرى البعض، في المقابل يرى بعض المحللين أن الحزب ولحداثة التجربة قدم مردودًا طيبًا في إدارة الملف الاقتصادي وهو المتأزم داخليًا منذ سنوات، فرفع الدعم عن المحروقات، ساهم في توفير مليارات الدراهم التي أسهمت في تقليل ما يتم اقتراضه من الخارج، وخفض الدين العام، والتمهيد للخروج من اقتصاد الريع كما يقول بذلك عبد الإله بانكيران [5].

                لكن من يروون في تجربة العدالة والتنمية فشلًا ذريعًا في الشق الاقتصادي يدافعون عن هذه الفكرة بما وصلت إليه البلاد من مستويات للغلاء في الأسعار، وهو ما أوجد اعتراضات كبيرة في الشارع المغربي أخرها حملة المقاطعة لمجموعة من الشركات الكبرى في الداخل المغربي، وهي المقاطعة التي هاجمها أعضاء من العدالة والتنمية والبرلمان ووزراء من الحكومة، وأدت هذه الاعتراضات لتزايد الغضب الشعبي والمقاطعة وهو ما الجأ رئيس الوزراء العثماني للاعتذار عن هذه التصريحات. [6]

                ويرى البعض في هذه الأزمات فشلًا لمشروع العدالة والتنمية، في حين يرى البعض الأخر أن هذه السجالات يمكن تفهمها في إطار ديمقراطي، فنحن أمام تداولية حزبية محكومة بأطر ديمقراطية تسمح للجماهير بنقد ما تراه سلبيًا في مجتمعاتها، لذا فالأمر ليس متعلق بالعدالة والتنمية أو غيره، بل هي حالات احتجاجية كانت ستحدث سواء كان العدالة والتنمية في السلطة أو غيره من الأحزاب.

                تجربة الحكم التي خاضها الحزب وإدارته للملف الاقتصادي، أعادت إلى الأذهان السؤال مرة أخرى، هل ملك الحزب في أي لحظة مشروعًا اقتصاديًا؟ وهنا ثمة سجال محتدم، فمعارضي العدالة والتنمية يرون في فشل الحزب الاقتصادي دليلًا على افتقار الحزب للمشروع الاقتصادي الواضح وأن كل ما يملكه الحزب هو مجموعة من التوليفات بين رؤى اشتراكية ورأسمالية، مع مسحة إسلامية تضاف هنا وهناك، لا لشيء سوى ذر الرماد في العيون. بينما يرى الحزب وداعميه أن مشروع الحزب يرتكز على إنقاذ البلاد من الديون التي تمتص موازنتها والخروج بها من الريع.

خلاصة

                في الختام نعود لسؤالنا الذي عُنون به المقال، ما الذي بَقِيَ من الإسلام السياسي؟ فإذا كنا أمام حزب نفض عن كاهله خطاب الهوية وتطبيق الشريعة، وتبرأ من مرجعيته الفكرية الإسلامية في خطابه، ومن تبعيته الحركية ممثلة في الإخوان المسلمين، وفي الملف الاقتصادي لم يبدي أي تغيير في المسار الاقتصادي وفي برامجه المتبعة التي جاءت مطابقة للرأسمالية دون مشروع مستقل وأصيل. بعد كل هذا ألا يكون مشروعًا أن نسأل ما الذي بَقِيَ من الإسلام السياسي؟

                يفسر البعض هذا التحول الجديد بأنه نشوء لجيل جديد من الإسلاموية، بما يطلق عليه “ما بعد الإسلاموية"، كما أسلفنا، لكن في حقيقة الأمر نرى هنا أننا لسنا أمام حالة ما بعدية للإسلام السياسي، بقدر ما نحن أمام حالة تحلل للفكرة الإسلاموية نفسها، وقد يكون الحكم هنا سابقًا لأوانه لأننا أمام تحول سيأخذ لا محالة مسارًا طويلًا لأن ظاهرة الإسلام السياسي ومنذ بدأت تمتاز بالسيولة، والتحول المستمر، لكننا نجادل هنا بأن التحول الأخير هو الأعمق، لأنه مس وبشكل عميق الأساطير المؤسسة للإسلاموية، وهو ما سيكون له بالغ الأثر على المنتمين للحركة، وإن كنا لا نجزم بطبيعة النتائج التي قد يُوصل إليها هذا التحول، لكننا ندافع عن أهميته وأهمية دراسته.

قائمة المراجع

1-     آصف بيات، ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي، ترجمة: محمد العربي، جداول للطباعة والنشر، بيروت،2016 

2-           Olivier Roy، The failure of Political Islam (Cambridge: Harvard University Press)، 1998

3-     كريم المرزوقي، هل سلطان ملك المغرب فوق كل السلطات، الترا صوت، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/3Ca4J

4-     دعاء إمام: تحالفات مُهددة. المنشقون يُعطلون صفقات «الإخوان» والمعارضة بالمغرب، المرجع، الجمعة 17/يناير/2020، يمكن قراءة المقال كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/hMrKI

5-     المرجع السابق

6-     من لقاء رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بن كيران في برنامج بلا حدود، قناة الجزيرة، الدوحة، 14 مايو 2015، يمكن مشاهدة اللقاء كاملًا على الرابط التالي: https://2u.pw/ZnoUL

7-    لمعلومات أكثر عن حملات المقاطعة يرجى زيارة الرابط التالي: https://2u.pw/odId0