ثالثاً- تحولات القوة الناعمة
(1) ثورات القوة الناعمة في الوطن العربي
وضع المفكر والباحث العربي اللبناني "علي حرب" بصمته الفكرية
الجريئة، وهو يصدر مؤلفه الفكري في طبعته الثانية لسنة 2012 ، وذلك بعد الطبعة
الأولى لسنة 2011، والمعنون بـ: "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي، من المنظومة إلى
الشبكة"، وقد قام
بهذا العمل التحليلي لظاهرة مركبة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا، وهي
"الثورة"، خصوصاً تلك التي عرفتها شعوب الدول العربية غربًا وشرقًا.
ويبرز عنوان هذا المؤلف، ليختزل موضوعه بشكل تركيبي؛ فالثورة الناعمة مصطلح
جديد ارتبط تشكله بظهور ثورات الشعوب السلمية، حيث سمة اللاعنف هي الميزة الأساسية
التي يختزلها المصطلح. والشق الثاني من العنوان "من المنظومة إلى
الشبكة"، يختزل كيفية تحول الأفكار والقيم الوطنية في ظل تحولات الوسائط
البشرية التواصلية الجديدة، فلقد تطرق الكاتب إلى طريقة التحول هذه في ظل ثورات
الربيع العربي التي استطاعت أن تستثمر وسائل التكنولوجيا والتواصل الحديثة لكي
تبني قيماً جديدة انفكَّت من المنظومات السلطوية التقليدية بما فيها أنظمة الحكم
السياسية والدينية والتاريخية، لكي تتحرر في إطار قيم كونية مترابطة فيما بينها.
ويُشكل موضوع الثورة جوهر هذه الدراسة وكُنهها في علاقتها بعملية التحديث
الفكري والاجتماعي والسياسي لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكي يتتبع
المؤلف مسار هذا التحديث، عَمد إلى تقسيم بحثه إلى قسميْن أساسييْن. يتناول القسم
الأول عملية تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات العربية التي عشَّشت في مؤسسات الدولة
والمجتمع المختلفة دون أن تستطيع الرقي بالفرد والمجتمع والدولة. لقد عرَّت ثورات
الربيع هشاشة هذه الأنظمة الهجينة عبر عملية السقوط السريعة التي تعرضت لها إبان
كسر حاجز الخوف الشعبي ثم استثمار الميادين الافتراضية و"الأتوسترادات" الإعلامية بتعبير الكاتب. والقسم الثاني يتطرق لمراحل الإرهاصات الأولى، لتشكل
الديمقراطية في المجتمعات العربية أو ما يسمى بالانتقال الديمقراطي. وهنا كانت
صدمة النخب السياسية والثقافية التقليدية غير القادرة على فهم وتتبع آليات عمل
التحولات المجتمعية الحديثة التي أفرزت حركة التحرر داخل شعوب الربيع العربي. لقد تم
تجاوز مفاهيم وميكانيزمات الثورات التقليدية من مفاهيم الجماهيرية إلى الشعبية ومن
مفهوم القائد البطل إلى الفاعل المدني، ومن مفهوم القوة المسلحة إلى القوة
السلمية، ومن مفهوم الطائفية إلى المواطنة التشاركية، إنها ثورات القوة الناعمة
بتعبير علي حرب (9).
لقد اعتبر الكاتب هذه الثورات امتداداً للثورة الفرنسية وعصر النهضة
والليبرالية في الوطن العربي، لأنها ليست ثورات أيديولوجية بل اجتماعية فكرية
عفوية، حيث السمة المميزة لها هي ظهور الفاعل الرقمي الذي بدأ يصنع التاريخ ويغير
الواقع فيما القوى التقليدية لم تستطع فهم تحول مجريات الأحداث، مما جعلها ترفض
العولمة والتواصل الرقمي الجديد. إنها ساهمت في سقوط أقنعة الأنظمة العربية
التقليدية والأيديولوجيات الآفلة والتيارات الأصولية وشعاراتها أمام ثورة العولمة
والمعلومة وتحرر الفكر العربي. لذلك، فإن هذه الانتفاضات تعطي مصداقية لفوكوياما
وليس لصمويل هنتينجتون، الأول نظر بعين الذاكرة الماضوية الموروثة لحركة الشعوب، في
حين تنبّأ الثاني بانتصار الديمقراطية في زمن العولمة الليبرالية (10).
إلا أن القوة الناعمة التي تحدث عنها "علي حرب" في كتابه المهم
لم تكن وليدة المنطقة العربية ولا هى مَن وجهتها هذه الوجهة، فقد كان هناك آخرون
هم مَن يوجهون هذه القوة الناعمة ويوظفون آلياتها وأدواتها ووسائلها من "إنترنت"
و"فيس بوك" و"تويتر"؛ فقد تسلل "جارد كوهينJared Cohen قبل اندلاع ثورات الربيع العربي إلى عالمنا العربي. و"جارد
كوهين" دبلوماسي أميركي من أصول يهودية، عُيّن في العام 2006
رئيساً لقسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، ومديرًا لتحالف
المنظمات الشبابية بتوجيه من كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية
الأميركية آنذاك.
وفي المجال العربي، يمكن تسليط الضوء على السيرة العملية لشخصية "كوهين"
المحورية، التي لعبت دورًا مهمًّا في مجال التغلغل الثقافي والسياسي الأميركي في
عقول الجيل العربي الشاب حيث تظهر تحركاتُه المنهجية الصلةَ الوثيقة، وعامل
الارتباط بين شبكات التواصل الاجتماعي والحرب الناعمة على العالَمَيْن العربي
والإسلامي، وخصوصًا على محور المقاومة. وقد ألقى "كوهين" في شهر أكتوبر من العام 2007 محاضرة
في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تحت عنـوان: "النساء والشباب والتغيير في الشرق الأوسط ومفهوم
الديموقراطية الرقمية"، حيث تحدّث فيها حرفيًا عن استراتيجية الدبلوماسية الرقمية قائلًا: "الشباب
والنساء في الشرق الأوسط أصبحوا ناضجين لاستقطاب التأثير الخارجي عبر بوابات
التكنولوجيا التي تشمل الفضائيات التلفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت
ومواقع التواصل الاجتماعي". كما كتب "كوهين" مع أستاذه الدكتور
إريك شميدت Eric Schmidt مدير شركة "جوجل" Google كتاب: "العصر الرقمي"، وكتب سابقاً "أطفال الجهاد Children of
Jihad" كاشفًا بعضًا من عقيدة
التكنولوجيا السياسية Political Technology التي سيطرت على عقول النخبة
الأميركية في الآونة الأخيرة (11).
واعتمد "كوهين" على بناء شبكة علاقات مع الناشطين الشباب، وقام
بأدوار ميدانية، حيث زار سبعين بلدًا، معظمها في العالَمَيْن العربي والإسلامي،
ووصل في بعضها إلى المخيمات الفلسطينية في عين الحلوة ومية ومية قرب مدينة صيدا
(جنوب لبنان). ويحفل موقع "اتّحاد المنظمات الشبابية" الذي يديره "كوهين"
بصُوَرٍ فوتوغرافية أُخذت له مع العشرات من الشباب والناشطين الفلسطينيّين والعرب،
وهي لا تزال منشورة على صفحات موقع وزارة الخارجية الأميركية.
وأشرف "كوهين" في العام 2008 على خطة وضعتها وزارة الخارجية
الأميركية تحت عنوان: "تحالف الحركات الشبابية"، حيث تركّز الخطة على كيفية استخدام المواقع الإلكترونية
الاجتماعية مثل "فيس بوك" كأداة لتعزيز
التنظيمات والنشاطات الشبابية ضد بعض الأنظمة، من أبرزها النظام الإسلامي في
إيران. كما شارك "كوهين" في "مجموعة العمليات الإيرانية - السورية"، التي سُمّيت "إيسوج" ISOG، وهي مجموعةُ
عملٍ مشتركةٍ بين هيئات مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ لأعمال سرّية ضد إيران بهدف
تغيير نظام الحكم فيها.
وفي العام 2011، عام الثورات العربية، برز دوره من خلال اتّصالاته
التنسيقية مع الناشط المصري "وائل غنيم" الذي كان يعمل مديرًا لفرع شركة
"جوجل" Google في مصر والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يُعدّ "وائل
غنيم" من الذين ألهبوا احتجاجات الثورة المصرية في 25 يناير من عام 2011 من
خلال نشاطه عبر صفحة "كلنا خالد سعيد"، ورسائله وخطاباته التلفزيونية، ومن أوائل الذين نزلوا إلى شوارع
القاهرة (12).
(2)
شبكات التواصل الاجتماعي: القوة الناعمة
للإرهابيين
توجد ثمة خمسة مغريات للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة لاستخدام شبكات
التواصل الاجتماعي: أولها البعد عن سيادة الدول، وثانيها إتاحتها للجميع وصعوبة
السيطرة عليها من قِبَل الأجهزة الأمنية، وثالثها تقديمها خدمة الاتصال والتواصل
السريع بين الأعضاء والمؤيدين بطرقٍ شتى، ورابعها توفير منصات إعلامية للدعاية
لأنشطتها وأفكارها، وخامسها إمكانية النشر المكثف للصور والأفلام والوثائق التي
تدعم الأفكار التي تروج لها (13).
وقد حرص تنظيم "داعش" على نشر كتيب إرشادي بين اتباعه لوضع قواعد
استخدام شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك" و"تويتر"،
مشدداً على أفراد الميليشيات عدم وضع معلومات وصفية عن أنفسهم في الحسابات المستخدمة.
وكان التنظيم حريصًا على إشعال "البروباجندا" على صفحات شبكات التواصل
الاجتماعي لتشجيع الآخرين على الانضمام إلى ميليشيات تنظيماته، وذلك بنشر صور تعرض
أسلوب حياة مقاتلي التنظيم، وصور رءوس أعداء التنظيم المفصولة عن أجسادها، لكنه
توصل إلى خطورة ذلك على المقاتلين، كما توصل التنظيم إلى أن استخدام حسابات على
شبكات التواصل الاجتماعي يمد أجهزة الاستخبارات الغربية بمعلومات قيمة عن مواقع
الميليشيات، ويكشف عن هويات المقاتلين مما يجعلهم هدفاً لطائرات الحلف الدولي
المناهض للتنظيم المتطرف.
وشدد الكُتيب الإرشادي على المقاتلين عدم استخدام التطبيقات التي تكشف عن
التوقيت وموقع إرسال الرسالة، واضعًا لمقاتلي التنظيم أساليب يتفادون بها تلك
البيانات والتطبيقات التي تسهل من مهام الأجهزة الاستخبارية في الغرب، في حين منعت
مجاهدين آخرين من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي بشكل تام.(14)
وفي إطار حروب "الهاشتاج، نشر تنظيم "داعش" مقطع فيديو عبر
موقع التواصل الإجتماعي "يوتيوب"، يدعو فيه المقاتلين إلى المشاركة في
"هاشتاج" على شبكات التواصل الاجتماعي،تحت عنوان "#
سيناء_عرين_الموحدين". ويهدف التنظيم من وراء ذلك جمع الجهاديين في المنطقة تحت
هذا الهاشتاج، بهدف غزو سيناء. ومن الواضح أن القوات المسلحة المصرية قامت بإنشاء
منطقة عازلة على الحدود بسيناء، بهدف تأمين سيناء من العمليات الإرهابية ومنع تسلل
التكفيريين، عقب الحادث المروع الذي وقع بكمين “كرم القواديس” بالشيخ زويد بالعريش.
وقد وجه ريتشارد هانيجان الرئيس الجديد للاستخبارات البريطانية اتهامًا
لعدد من شركات التقنية الأمريكية، العاملة في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا،
بأنها أصبحت شبكات القيادة والتحكم المفضلة للإرهابيين، مشيرًا إلي أن شركات
عملاقة، مثل موقعي التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر"،
أصبحت شبكات قيادة وتحكم للإرهابيين والمجرمين. وأوضح هانيجان، أن عناصر"داعش" في العراق وسوريا،
يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي لترهيب الناس، وإلهام الجهاديين المحتملين من كل
أنحاء العالم للانضمام إليهم (15).
وأضاف أن تنظيم القاعدة وأفراده والإرهابيين، استخدموا الإنترنت من قبل
كموقع لنشر المواد بصورة مجهولة، محذرًا من أن تنظيم الدولة والأفراد التابعين له،
باتوا يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي بصورة مباشرة، لإيصال رسالة بلغة يفهمها
أقرانهم من الإرهابيين. وناشد القطاع الخاص، بما في ذلك شركات التقنية الأمريكية العملاقة
التي تسيطر على الشبكة العالمية، بضرورة مساعدة جهاز الاستخبارات البريطاني،
للتغلب على هذا الأمر، بدعوى أن الأجهزة الاستخباراتية ليست قادرة على التغلب على
هذه التحديات من دون دعم هذه الشركات.
كما نشرت صحيفة "ديلي تلجراف" Daily Telegraph فى إحدى
افتتاحياتها مقالاً لـ "كون كوفلين" بعنوان "كيف ساهمت وسائل
التواصل الاجتماعي في نشر سموم تنظيم داعش؟". وقال كاتب المقال إن "إدوارد سنودن" المتعاقد
السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية مهد الطريق أمام ظهور نوع جديد من الدعاية
للمتطرفين، مضيفًا وبطريقة استهزائية بأن على "سنودن" الذي يتمتع بملجأ
آمن في روسيا وأن يكون فخورًا بنفسه، لأنه لم يكشف فقط عن كيفية تجسس الولايات
المتحدة وحلفائها على أعدائها، بل علّم جيلًا كاملًا من المتطرفين أفضل طرق استخدام
وتوظيف الإنترنت لنشر أفكاره.
الهوامش
(1) شريف درويش اللبان، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، (القاهرة:
دار العالم العربي، 2011)، ص27.
(2) Irving Fang, A History of Mass Communication, Six
Information Revolutions, (Boston: Focal Press, 1997),P.27.
(3) شريف درويش اللبان،
الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات، مرجع سابق، ص28.
(4) انظر:
-
شريف درويش اللبان، الصحافة الإلكترونية: دراسات في
التفاعلية وتصميم المواقع، ط3، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2005)، ص
ص67-80.
-
Ibid.,190.
(5) Human Rights Watch, Silencing the Net: The Threat
to Freedom of Expression On-Line, Vol.8,No.2,(G), Available at:
http://www.eipc.org/free-speech/intl/hrw-report-5-96.html
(6) شريف درويش اللبان، الإنترنت: التشريعات والأخلاقيات،
مرجع سابق، ص35.
(7) مروة
الأسدي، حوكمة الإنترنت والسيطرة على القوة الناعمة الصاعدة في العالم، شبكة النبأ
المعلوماتية، 30 من نوفمبر 2016، متاح على: http://annabaa.org/arabic/informatics/8855
(8) الإدارة
الأمريكية ووتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي، شبكة المعارف، متاح على:
https://www.almaaref.org/books/contentsimages/books/nadawat_fekriya/shabakat_altawasol_alegtemaii/page/lesson3.htm
(9) علي
حرب، ثورات القوى الناعمة في العالم العربي: من المنظومة إلى الشبكة، ط2، (بيروت:
الدار العربية للعلوم، 2012).
(10) المرجع
السابق نفسه.
(11) الإدارة الأمريكية وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي، شبكة
المعارف، مصدر سابق.
(12) المصدر
السابق نفسه.
(13) داود الكثيري وصلاح سالم،
التواصل الاجتماعي: القوة الناعمة للإرهابيين، صحيفة المدينة السعودية، 20 من
أغسطس 2016، متاح على: http://www.al-madina.com/article/464654/
(14) شريف درويش اللبان، الاستراتيجية
الإعلامية والثقافية لمواجهة تنظيم داعش، (القاهرة: الهيئة العراقية العامة لخدمات
البث والإرسال "شبكة الإعلام العراقي"، الملتقى الإعلامي العراقي
المصري، ورشة عمل بعنوان: داعش: العالم في مواجهة الإرهاب الدولي، الأحد 23 نوفمبر
2014)، ص ص 18-21.
(15) المرجع السابق نفسه.