المركز العربي للبحوث والدراسات : القوة الناعمة: رؤية النخبة المصرية (طباعة)
القوة الناعمة: رؤية النخبة المصرية
آخر تحديث: السبت 03/02/2018 02:28 م د. محمود عبد الله
القوة الناعمة: رؤية

ضمن سلسة الندوات التي يعقدها معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية، في قاعة الندوات الرئيسة بالمعرض، أقيمت الجمعة 2 فبراير ندوة عن " القوة الناعمة رؤية النخبة المصرية "، أدار الندوة د. نانيس فهمي الخبيرة بالعلوم السياسية، وتحدث فيها د. أيمن بكر استاذ النقد بجامعة الخليج، ودكتور محمود عبد الله، الخبير السابق بالمركز العربي للبحوث والدراسات، والذي ساهم بدراسة في ملف القوة الناعمة بالعدد 30 من مجلة "آفاق سياسية"  نوفمبر 2017، التي تصدر عن المركز، تحت عنوان "القوة الناعمة ورؤية النخبة المصرية".

وفي هذا الإطار نعرض لتلك الدراسة:

مقدمة

يعتبر مفهوم القوة واحداً من المفاهيم الكبرى والرئيسية في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية. وصيغت كثير من المفاهيم المتاخمة له، أو المشتقة منه، باعتباره "القدرة على التأثير على الآخرين"؛ لتحقيق الأهداف العامة المرجوة. فهناك من يقاربها مقاربة سوسيولوجية على غرار أعمال ماكس فيبر الكلاسيكية التي اهتمت بظاهرة القوة، وركزت بشكل خاص على قوة الكاريزما، حال قيامها بدراسة الجماعات الدينية. لقد كان لأعمال فيبر تأثيرها في سياق الاهتمام بالتأثير الرمزي غير المعتمد على استعمال القوة المباشرة.

        لقد كان الاهتمام بالقوة غير المباشرة، أو القدرة على التأثير دون تدخل عسكري، أو ما عرف بالقوة الناعمة، هو نتاج طبيعي لإدراك النخبة الأمريكية لحاجتها إلى كسب التأييد العالمي دون اللجوء للقوة العسكرية ذات التكلفة العالية، سواء أكانت تكلفة اقتصادية أو بشرية، أو تبعاتها الخطيرة المدمرة.

        ولقد استطاع جوزيف س ناي تطوير مفهوم "القوة الناعمة" في كتاب يحمل في عنوانه نفس المفهوم. ولقد شغل المؤلف منصب وكيل وزارة الدفاع في عهد بل كلينتون. ولقد طور الرجل مفهومه. حيث قام مركز الدراسات الإستراتيجية والسياسية في عام 2006 بتكليفه ومعه ريتشارد أرميتاج إلى جانب نخبة إستراتيجية لإعداد تقرير لمراجعة مفهوم القوة. ونتج عن ذلك تقرير عنوانه القوة الذكية، وذلك بعد عام كامل من التكليف المذكور. وقد طور جوزيف ناي المفهوم فيما بعد في كتابه "مستقبل القوة"، ليؤسس لمفهوم جديد هو "القوة الذكية". إذ يرى ناي صعوبة الرهان على القوة الصلبة بمفردها، أو القوة الناعمة فقط في الشأن الدولي، بل يجب الجمع بين القوتين معا فيما يعرف بالقوة الذكية.

        ولقد حاول المثقفون المصريون تماشيا مع المستجدات التي شهدها الواقع السياسي في المنطقة العربية، وتغير موقع مصر على خارطة القوة في المنطقة، أن يستلهموا مفهوم جوزيف ناي، استلهاما يرسم معالم المفهوم، وتحديد أبعاده ومكوناته، انطلاقا من الوعي بأهميته كبديل للقوة العسكرية والاقتصادية، وفي ضوء القدرات والإمكانيات المصرية، والخبرات التاريخية السابقة التي ساهمت في صياغة معالم المفهوم.

        وتحاول المقالة الحالية أن تلقي الضوء على استجابة عدد من المثقفين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية والسياسية، وذلك لتحديد دلالة المفهوم لديهم، وتصورهم للتطور التاريخي له، ورؤيتهم لعوامل القوة وإمكانيات الخروج والتهيئة التي تمكن الدولة المصرية من الريادة والتميز.

 

أولاً- في معنى القوة الناعمة

        مبدئيا يعرف جوزيف س ناي المفهوم في كتابه "القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، على أنها :"القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين"(1)، ويضيف بأنها أكبر من مجرد التأثير في الآخرين بإقناعهم بالحجج، بل هي أيضا "القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي إلى الإذعان".(2)ويرى جوزيف ناي أن ما ينتج الجاذبية هو ما يعتبر مكونا وأصلا من أصول القوة الناعمة، أو ما يسميه بالموجودات غير الملموسة، مثل جاذبية شخصية القيادة، والثقافة، والمؤسسات والقيم السياسية، والسياسات التي يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية. هذا في مقابل القوة الصلبة القائمة على قوة التهديدات والرشاوي واستعمال السلاح. ويضرب مثلا ببعض الدول التي لديها قوة ونفوذ أعظم مما يوحي وزنها العسكري والاقتصادي؛ منها النرويج التي شاركت في محادثات السلام في مناطق عديدة في العالم، متأثرين بتراثهم البروتستانتي التبشيري. فبرأيه "عندما تجعل البلدان القوة مشروعة في نظر الآخرين، فغنها تواجه مقاومة أقل لرغباتها. فإذا كانت ثقافة بلد ما وعقيدته الأيديولوجية جذابة، فإن الآخرين يتبعونه باستعداد أكبر. وإذا استطاع بلد ما أن يشكل قواعد دولية متمشية مع مصالحه وقيمه، فإن من المرجح أن تبدو أعماله مشروعًة في عيون الآخرين. وإذا استخدم مؤسسات أو اتبع قواعد من شأنها تشجيع بلدان أخرى على توجيه فعالياتها أو الحد منها بطريقة يفضلها، فإن ذلك البلد لن يحتاج إلى الكثير من الجزرات والعصي الباهظة التكاليف".(3) بهذا المعنى فإن مفهوم القوة الناعمة يبقى مفهوما واسعا يعني السلطة المعنوية كمقابل للسلطة المادية.  

وفيما يبدو أن التوصيف الذي يجري على الألسنة الذي يقول بأننا أمة بلاغية وصوتية قد ترك أثره فيما تتصوره النخبة المثقفة المصرية التي تعبر عن نفسها فيما ينشر من مقالات على ساحة الصحف. فالنظرة المتأنية لما يكتب حول الموضوع تبين حجم الاهتمام بالقوة الناعمة كقوة رمزية ثقافية، تجد تمثيلها في الثقافة بمختلف تجلياتها وأشكالها، وبالذات ما تنقله الوسائط العامة. فالسمة الأساسية التي يمكن ملاحظتها على مستعملي مفهوم القوة الناعمة من خارج المشتغلين بعلم السياسة هو خلطهم بين مفهوم القوة الناعمة ومفهوم الثقافة، بحيث تصبح روافد الثقافة هي ذاتها روافد القوة الناعمة، ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما ذهب إليه الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي من مضاهاة بين المفهومين على اختلافهما وتداخلهما، فيقول في مقال له :" نحن نتحدث كثيرا في هذه الأيام عن القوة الناعمة، أي عن الثقافة".(4)  وعلى الرغم من إدراك بعض أعضاء النخبة المصرية لدلالة المفهوم وفق أصوله ومعناه في الدراسات والأدبيات الغربية، إلا أن التطبيق العملي للمفهوم يقيده بحدود الثقافة ودلالاتها. وهو ما نجده في تعريف نبيل عبد الفتاح للمفهوم وهو تعريف دقيق للغاية في تفاصيله حيث يقول بأن المفهوم يعتمد على "قيام الدولة بمحاولة نشر نماذجها الثقافية والتعليمية والفنية والإبداعية، بل وقيمها السياسية والرمزية، وجعلها تمثل في وعي وإدراك الصفوات السياسية والمثقفة في العالم، أو في بعض المناطق الإقليمية النموذج الملهم الذي تتغيا استعارته أو العمل على هديه أو التأثر ببعض مكوناته أو علاماته على صعيد منظومات السياسة والهندسات القانونية والدستورية وفي أنساق القيم والثقافة على اختلافها" ثم يستطرد بأن إستراتيجية تحقيق التأثيرات الناجمة عن النموذج الملهم تتمثل في استعارة الهندسات السياسية والاجتماعية حول نمط الحياة الرمزية الذي يتخلق ويدور حول الثقافة وعديد مكوناتها وكذلك الحريات الفكرية والبحثية والمغامرة والتجارب الفنية الطليعية والتجريبية، والسرديات كالرواية والشعر، وفي التجارب الموسيقية والمسرحية، والأصوات وموسيقى الجاز والسينما الأمريكية والفنون ما بعد الحداثية، والمدارس والصروح المعمارية الضخمة وناطحات السحاب، والجامعات والمعاهد ومراكز البحث الأكثر تطورا وعراقة في العلوم الاجتماعية والطبيعية".(5) ليعني بالمفهوم إدارة المكونات الثقافية، بمختلف تجلياتها الفنية والبيداجوجية.

        ويشير محمد كمال إلى هذا الخلط أو هذا التضييق في فهم المفهوم وأبعاده، فعلى الرغم من أهمية ما يجري من حوارات بين المثقفين المصريين بشأن المفهوم إلا أنهم برأيه لا يزالون يقصرونه على الثقافة فقط، بينما لم يعد العالم يتحدث فقط عن الثقافة كعنصر وحيد في تعريف القوة الناعمة، ويضرب مثلا بواحد من التقارير الدولية، وهو تقرير "القوة الناعمة 30"، الذي تعده إحدى المؤسسات البريطانية بالتعاون مع "الفيس بوك". حيث يضع التقرير عددا من المؤشرات تصل لست مجموعات ، منها الثقافة (مثل مؤشرات حجم الصادرات الإبداعية، وعدد الأفلام المشاركة في مهرجانات دولية، وعدد المتاحف والزائرين لها ..إلخ)، والتعليم (مثل عدد الجامعات في التصنيف الدولي ، وعدد الطلاب الأجانب، والأبحاث المنشورة في دوريات علمية عالمية، وعدد مراكز التفكير، وحجم الإنفاق على التعليم، ونسبة الأمية)، ومؤشرات الحوكمة أو أسلوب الحكم من قبيل الحريات العامة ودرجة الشفافية والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية، ودرجة الثقة في الحكومة، وتقيس هذه المؤشرات مدى قدرة الدولة على أن تكون نموذجا يحتذى. علاوة على مؤشر المشاركة الدولية (عدد السفارات، والعضوية في المنظمات الدولية، وعدد المكاتب الثقافية، وعدد طالي اللجوء)، ومؤشر الثورة الرقمية (عدد مستخدمي الإنترنت، والخدمات الحكومية على الانترنت، وعدد المتابعين والمتواصلين من الخارج لحسابات القادة السياسيين للبلاد على السوشيال ميديا، وأخيرا المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالابتكار والريادية في قطاع الأعمال.(6)

وينهل ياسر عبد العزيز من أطروحة ناي حول المفهوم، ويرى أن المفهوم أوسع في معناه مما يتردد ويسود بين النخبة المصرية، حيث يقتصر المعنى على العناصر الفنية، بينما يتسع المفهوم ليشمل عناصر قد تصل إلى 75 عنصرا في بعض التقارير أو ستة. وتتضمن هذه العناصر على جودة المؤسسات السياسية ومدى توافقها مع معايير الحكم الرشيد، والقدرة على الانتشار بفضل جودة الانتاج الثقافي والمعرفي والفني، والمشاركة في القضايا العالمية وطبيعة السياسة الخارجية، والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي، وجاذبية الدولة على صعيد الاستثمار وآداء المؤسسات، وقدرة الدولة على التواصل الرقمي. ولذلك فإن نزاهة الانتخابات في بريطانيا، وكفاءة حكومتها، ونجاعة الإدارة العمومية للدولة، من أهم العوامل التي جعلتها تحتل المرتبة الأولى في ترتيب الدول على مؤشر القوة الناعمة في عام 2016. (7)

وهو ما يعيه أيضا حسنين توفيق الذي عرف القوة الناعمة على أنها العناصر التي تمتلكها الدولة وتمكنها من التأثير في الآخرين، وجذبهم إليها، بل واتخاذها كنموذج دون الحاجة إلى استخدام القوة، ومن أهم هذه العناصر: الرسالة الحضارية والثقافية التي تتبناها الدولة، التي تتمثل في منظومة القيم والمبادئ والأفكار الكبرى التي تؤمن بها، وطبيعة نظامها السياسي، وإلى أي مدى يجسد أسس الحكم الرشيد الذي يتسم بالفعالية والكفاءة، والنموذج التنموي الذي يعزز ويلبي الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق العدالة الاجتماعية، والنظام التعليمي، ووسائل الإعلام، والأعمال الفكرية والفنية، والمؤسسات الدينية. (8)

بيد أن هذا الفهم لمعنى المفهوم يحتاج لمزيد من المراجعة. فهو من ناحية يقصر معنى المفهوم على دور الدولة ممثلة في قطاعها الحكومي، وهو الواضح من الأمثلة التي يتم ضربها من واقع التجربة الوطنية أو الدولية، في إشارة إلى ضعف مساهمة الدولة في هذا الإطار، لكن هذا لا يعني أن السياسات العامة لا تسهم فيها بقية قطاعات الدولة، خاصة وأن بعض أبعاد القوة الناعمة قد أصبحت تحت سيطرة السوق والقطاع الخاص كما هو الحال في الإنتاج الدرامي السينمائي والمسرحي والتلفزيوني. ومن ناحية أخرى، يغفل دور الأفراد، أو الأعمال الفردية، ويركز بشكل خاص على المساهمات الجمعية . فلا شك أن المساهمات الفردية العظيمة، كما هو الحال في الحصول على الجوائز الدولية، أو تقديم أعمال فكرية مؤثرة، قد يضفي قدرا من الهالة الرمزية على الدولة. فحصول أحد أبنائها على جائزة نوبل يرفع من درجات الاهتمام والانجذاب إليها، خاصة إذا حصل عليها وهو لا يزال يعمل داخل أراضيها، وليس نتيجة عمله في بلد آخر، أو أن يكون لديها أفراد لديهم تأثير وجاذبية رمزية تتجاوز الحدود، على نحو ما نجد في العلماء والمفكرين والفنانين، وليس فقط المنتجات الفكرية والإبداعية والفنية.  

ثانياً- أبعاده ومكوناته الأساسية

يحدد جوزيف س. ناي أبعاد المفهوم ومكوناته في قوله "ترتكز القوة الناعمة لبلد ما على ثلاثة موارد، هي: ثقافته (في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين)، وقيمه السياسية (عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج)، وسياساته الخارجية (عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية).(9) ثم يعرف الثقافة على أنها "مجموعة القيم والممارسات التي تخلق معنى للمجتمع، ولها عدة مظاهر فمن المألوف عادة أن يميز المر بين الثقافة العليا، كالأدب، والفن، والتعليم، التي تعجب النخبة، والثقافة الشعبية التي تركز على إمتاع الجماهير بالجملة."(10)     

وكما تبين فإن التركيز على المكونات الثقافية للمفهوم قد جعلت البعض يهتم بالمفهوم في أبعاد الرأسمال الرمزي. فهناك من يركز على دور الفنون، وبخاصة فن السينما والمسرح، والدراما التلفزيونية، لدورها في نشر الثقافة واللغة المصرية بين الشعوب العربية. ومنهم من يهتم بدور الرياضة كعنصر في القوة الناعمة والتأثير والجاذبية غير المباشرة. فالرياضة وتحديدا لعبة كرة القدم أثرت في تشكيل الصورة الذهنية العربية عن مصر والمصريين. وعلى وجه الدقة كانا ناديا الأهلي والزمالك في حقبة الستينات قوة ناعمة مؤثرة في محيطها، خاصة أن مصر مارست اللعبة مبكرا، ودليل ذلك قول مؤسس نادي الوداد المغربي محمد بن جالون بأن لقاءات الأهلي والزمالك بالنسبة للمغاربة منشورا وطنيا يبث روح العروبة، فالفرجة على المباريات المصرية مصدر من مصادر القوة الناعمة والتأثير غير المباشر. وهذا ما عمل عليه الإنجليز فعدد مشاهدي الدوري الإنجليزي في العالم يصل إلى 4.7 مليار متفرج، وأن حقوق البث وصلت خلال الفترة من 2016 إلى 2019 إلى 3.2 مليار دولار، ما يساوي ثلاث أضعاف إيرادات الدوري الإسباني أو الألماني عن نفس الفترة. (11)

ثالثاً- التطور التاريخي

        ركزت غالب الكتابات التي تناولت المفهوم على الفترة الناصرية باعتبارها فترة ازدهار القوة الناعمة، أو بالنظر لها كفترة انهيار وتدهور لها وترجيح كفة الفترة شبه الليبرالية التي سبقتها، ولم يتم السعي للتعريف بالتطور الذي طرأ على القوة الناعمة خلال مراحل التحول التاريخية.

وبحسب نبيل عبد الفتاح، يمكن النظر في تاريخ تطور القوة الناعمة المصرية وفق مراحل أربعة أساسية: المرحلة شبه الليبرالية، المرحلة الناصرية القومية، ومرحلة مبارك والسادات، ثم أخيرا مرحلة ما بعد ثورة يناير.

        حيث شهدت المرحلة شبه الليبرالية مجموعة من المتغيرات الأساسية التي ساهمت في بزوغ الدور القوي للدولة المصرية في المنطقة. فقد شهدت هذه الفترة تبلور "القومية المصرية" بفضل الانفتاح على الوافدين من الدول العربية المجاورة وبالذات من سوريا ولبنان، حيث كان للمثقفين اللبنانيين خاصة دور مهم في نشر ثقافة التنوير. علاوة على بزوغ دور السينما المصرية والحركة الأدبية المتدفقة.

        أما الفترة الناصرية، فقد تبنت الدولة سياسة اجتماعية منحازة للفقراء، ترجمت نفسها في الانحياز للدول التي أخذت في طلب الاستقلال، فأصبح النظام الناصري أيقونة ومصدرا للجاذبية في المنطقة العربية ومصدر إلهام لحكامها ومحكوميها، ومرجع يستعان به في الشدائد. وتجلت الرسالة الفكرية للنظام في فتح المجال أمام المبدعين الشباب وقتها ما ساهم في بزوغ حركة فنية وأدبية تركت أثرها في الوعي والوجدان المصري والعربي حتى الآن.

        ومع تراجع الدولة عن تبني الثقافة كوسيلة للتعبير عن رسالتها الأيديولوجية للعالم، وترجيحها للسياسة والاقتصاد، والانفتاح السياسي الشكلي، تراجعت قوة مصر الناعمة تراجعا مشهودا.   

رابعاً- عوامل التداعي وإمكانات النهوض

لقد تراجعت الدولة المصرية عن القيام بدورها تجاه الدول العربية المحيطة بها. حيث يلاحظ أثر السياسة الجديدة التي انتهجتها السياسة التعليمية المصرية حيث شبت الأجيال العربية ولا تعرف شيئا عن مصر ولا ثقافتها أو فنها أو علمها. فقد تم رفع تكاليف الدراسة على الوافدين العرب، وفرض شروط إدارية صعبة، مما اضطر هؤلاء الوافدين إلى السفر إلى أوربا وأمريكا حيث الجامعات أقل تكلفة من نظيرتها المصرية.

        وفي الأخير، يجمل نبيل عبد الفتاح العوامل الأساسية في: تأثير ثقافة النفط على الثقافة المصرية؛ التنافس بين دول الإقليم العربي على وراثة الدور الثقافي المصري، بروز الدور الثقافي لبعض دول المنطقة المغاربية؛ وتراجع الحريات الفكرية، وهيمنة القوى الإسلامية المحافظة، وتعثر عملية التحول والانتقال الديمقراطي.(12)

        فلا شك أن ثقافة النفط كان لها تأثيرها السلبي على سيادة ثقافة محافظة حالت دون قيم مهمة من قبيل المغامرة والإبداع والنقد، وانعكس ذلك على طبيعة الخطاب السياسي للنخب الحاكمة، والممارسات العملية المباشرة وفي صياغة السياسات العامة. وهو ما طبع التوجه نحو الاستثمار الثقافي برأس مال نفطي، أدى إلى تراجع واضح في نمط الذوق العام، وتردي الخيارات السياسية.

        ومن جهة ثانية، برز إلى سطح تنافس واضح بين عدة أقطاب جديدة، عبرت عن نفسها عبر بعض القنوات الإعلامية ذات التأثير الواسع، ولجوء عناصر النخبة الأكاديمية والثقافية وهجرتها إلى منطقة الخليج، ما أثرى هذه الأقطاب، وجعلها مصدرا أساسيا لرسم سياسات المنطقة الخارجية، والتأثير في صناعة القرار السياسي.

        ومن جهة ثالثة بدا واضحا ظهور بعض دور النشر المغاربية، وسطوع دور حركة الترجمة وتسارعها، وتدفقها ودقة خياراتها، ما أثر في نوعية المنتجات العلمية في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، على الرغم مما يشوب هذه الترجمات من عدم دقة، ورعونة، وغموض.

        ومن جهة رابعة، تردى الأداء السياسي للحكومات المصرية المتعاقبة، سواء في علاقاتها الخارجية أو في تعاملها مع القضايا العالمية والإقليمية، فغاب الدور المصري في الساحتين العربية والإقليمية، كما كان هذا الأداء أوضح في السياسات المحلية التي أدت إلى مزيد من تردي الأوضاع الاجتماعية، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. رافق ذلك اتساع ملحوظ لما يسمى بالقطاع الموازي لقوى الإسلام السياسي، التي كان لها مدارسها ودور نشرها، وجمعياتها الأهلية، ومتاجرها وشركاتها، التي حلت بالتدريج محل الدولة، وأصبح لها تأثير على عقل المواطن العادي وخياراته السياسية والفكرية.

ويرى داوود الشريان أن واحدا من حلول استعادة القوة الناعمة المفقودة بشكل مؤقت يتمثل في تسهيل دخول المستثمرين، مثلما قامت مصر سالفا بفتح أبوابها لفنانين أصبحوا نجوما في دولهم، ولم يتأثر الفن في مصر بل زاد، فلابد إذن من تحرير قوة مصر الناعمة من قيود المرحلة الاشتراكية.(13) على النقيض من ذلك، يرجح جميل مطر الوجود الدولتي في ترسيخ قوة مصر الناعمة في الخارج، موحيا بذلك من خلال تركيزه على الدور السلبي لرأس المال الأجنبي الذي صار يتدخل ليفرض على مسلسلات وأفلام سينمائية لهجات بعينها لا تمت بصلة إلى اللهجة المصرية. (14)

فيما ينبه السيد أمين شلبي إلى دور كل من التعليم وتنمية الموارد البشرية والاهتمام بالثقافة التقليدية.(15) كذلك تنبه نيفين مسعد إلى واحدة من القضايا الهامة في هذا الصدد، وهي قضية التعامل مع التراث الفني واستثماره. حيث تقوم بعض القنوات التلفزيونية باقتطاع غير مبرر لأجزاء من الأعمال الفنية القديمة، وحذف مشاهد تحت دعاوى أخلاقية وسياسية، ولذات الأسباب يتم حرمان المشاهدين من رؤية أعمال أخرى متميزة، ومن ثم هناك حاجة لاستثمار رأسمالنا الرمزي وترويجه. (16)

فيما يطرح نبيل عبد الفتاح رؤية متكاملة وإن كانت تركز على الرأسمال الرمزي، فيحدد عددا من الحلول عبر ولادة وعي النخبة الحاكمة بأهمية دور الثقافة في الإصلاح أو التجديد السياسي والديني، وحماية حرية التعبير؛ وضرورة التعاون بين الأجهزة الرسمية والجمعيات الأهلية؛ وفتح أبواب النشر الإبداعي ودعم الدولة لها ورفع قيمة الجوائز مع إعادة النظر في الأنشطة القائمة. (17)

ملاحظات ختامية

لقد مثلت استجابات المثقفين المصريين تعبيرا عن رؤية الجماعة المصرية التي ترى في نفسها قوة رمزية وسلطة معنوية جاذبة للمحيط العربي. ولأنها كذلك فقد اتجه تعبيرها عن موقفها من القوة الناعمة وتعريفها لها في إطار الخبرات المصرية السابقة، التي تعبر عن الأوضاع التاريخية، والقدرات القائمة، مبتعدة عن أصل المفهوم وهو الاعتبار بالقدرة على الجذب دون الاستناد للقوة المادية، أي الاعتبار بالسلطة الكاريزمية للدولة وللأفراد، وجاذبية القيم التي تحملها.

        ومن ثم يمكن القول بأن تبني الدولة المصرية لرؤية تلخصها مجموعة من القيم التي تمثل المشترك الفكري للجماعة المصرية، هو السبيل الممكن للحديث عن قوة معنوية أخاذة قادرة على لفت الانتباه والتأثير في الأوضاع الخارجية. هذه القوة المعنوية ينبغي أن تساندها سياسة حكم رشيد، وعلاقات قوة عادلة، وآداب وفنون قادرة على المنافسة في سوق الإبداع العالمي، في ظل حركة ترجمة حقيقية، تنقل هذه الجهود والأعمال الفكرية والعلمية والإبداعية للعالم الخارجي.

        إن التعامل مع مفهوم القوة الناعمة على أساس كونه مفهوما يتصل بالقدرة السياسية الخارجية على التأثير في العالم الخارجي، هو تعامل يتجاهل تحولات مع بعد ثورة التقنية الرقمية التي فكت الحدود بين الخارج والداخل، ومن ثم فإن أي سياسة داخلية، إنما تعكس طبيعة التعامل الخارجي مع العالم، فلن يكون مقبولا إتباع سياسة خشنة في الوقت الذي يتم فيه التعامل مع العالم بوجه ناعم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن سياسة خارجية جذابة يتطلب أن تضع السياسة الخارجية على رأس أولوياتها القضايا الكونية التي تثير اهتمام العالم، دون التقيد بالقضايا الإقليمية. ومن ناحية ثالثة، ينبغي أن تتوافر الجهود لحركة ترجمة طموح للإبداعات الفنية والفكرية التي تحصل على أرفع الجوائز لدينا. فالحديث عن قوة ناعمة، دون حركة ترجمة تنقل للعالم ما نفكر فيه وما نؤمن به من قيم، يبدو عملا عبثيا لا معنى له.    

الهوامش

([1]) جوزيف س . ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي، السعودية، دار العبيكان للنشر، 2007، ص 25.

(2) المرجع السابق، ص 26.

(3) المرجع السابق، ص 32.

(4) أحمد عبد المعطي حجازي، القوة الناعمة .. والقوة الخشنة !، المصري اليوم، الخميس 16/1/2014.

(5) نبيل عبد الفتاح، النخبة والثورة: الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية، القاهرة، دار عين للنشر، 2013، ص 287

(6) محمد كمال، كيف نصبح قوة ناعمة؟، الأهرام، 30 مارس 2017.

(7) ياسر عبد العزيز، القوة الناعمة ليست الغناء والرقص، جريدة الوطن، الأحد، 17/9/2017.

(8) حسنين توفيق إبراهيم، القوة الناعمة ودور مصر العربي، الأهرام، 20 مايو 2014.

(9) جوزيف ناي، مرجع سابق، ص 32.

(10) المرجع السابق، ص 32.

(11) حسن مستكاوي، إدارة القوى الناعمة المصرية، الشروق، 16 مارس 2017.

(12) نبيل عبد الفتاح، النخبة والثورة، مرجع سابق، ص 284.

(13) داود الشريان، هل تدهورت قوة مصر الناعمة، جريدة الحياة اللندنية، الأحد 16 أغسطس 2015.

(14) جميل مطر، قوانا الناعمة، الشروق، الأربعاء 12 أغسطس 2015.

(15) السيد أمين شلبي، الصين من القوة الصلبة إلى القدرة الناعمة، الأهرام، 5 يناير 2014.

(16) نيفين مسعد، قوتنا الناعمة، الشروق، 13 يوليو 2017.

(17) نبيل عبد الفتاح، تجديد الفكر الديني(القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات، 2016)