المركز العربي للبحوث والدراسات : الخطاب حول المثقف وأدواره في سياقات متغيرة (طباعة)
الخطاب حول المثقف وأدواره في سياقات متغيرة
آخر تحديث: الأحد 08/01/2017 02:55 م نبيل عبد الفتاح
الخطاب حول المثقف

الخطاب والأحرى الخطابات حول المثقف، لا تزال تحفلُ بالغموض والسيولة وعدم الانضباط في تحديد المثقف ومن يدخل في إطار هذا المفهوم، وغالبُ هذه التحديدات تدور بين عديد من التعريفات والمعاني التي نشير إلى بعضها فيما يلي:

1- المعنى الواسع والمفرط للمثقف والذي يدخل في نطاقه أساتذة الجامعات والباحثين والإعلاميين، والمبدعين في مجالات السرد – الروائيين والشعراء والقصاصين، ونقاد الأدب .. إلخ – والفنانين في حقول الفن التشكيلي والسينمائي والموسيقى، وبعضُ من الناشطين في المجالات الحقوقية والسياسية.

2- المعنى الضيق الذي يركز على المثقف بوصفه منتجاً للرؤى والأفكار والنظريات والمعاني الكبرى ويقدم الأسئلة والإشكاليات حول قضايا المعرفة والوجود والشرط الإنساني، ورؤى الذات والعالم. وهو معنى يدور في نطاق الخطاب حول المثقف منتج الثقافة العالمة، وليس الثقافة بالمعنى الواسع والسائل للمصطلح.

3- المعاني والتقسيمات الجرامشية حول المثقف العضوي، والمثقف التاريخي، والمثقف الجماعي، وهي الأكثر تداولاً بين المثقفين الماركسيين واليساريين العرب وآخرين، وبعض استخدامات المصطلحات / التقسيمات الجرامشية تتسم بعدم الدقة، وتطلق على من لا ينطبق معه تعريف المصطلح.

نذهب إلى الأخذ بتعريف ضيق إلى حد ما لتعريف مفهوم ومعنى المثقف، وهو "منتج الثقافة العليا – من نظريات ومفاهيم وإشكاليات وأفكار ومعاني وتحليلات وتفسيرات للوجود والشرط الإنساني والمشكلات الكبرى وغيرها التي تواجه عالمه وإقليمه ومجتمعه-، ودوره لا يقتصر على البناء للأفكار والمعاني، وإنما دوره في الهدم، وإنتاج القطيعة المعرفية مع المنظورات ونقد السلطات والرؤى والقيم السائدة. هذا المعنى هو النواة الصلبة للمثقفين، وهم قلة قليلة، ويمكن إدخال بعض هوامش وظلال هؤلاء ممن يستهلكون ويتمثلون هذا الإنتاج، ويعيدون تفسيره وتأويله وتبسيطه. إذن هو مبدع الأفكار والمعاني واللغة الجديدة (انظر نبيل عبد الفتاح، عن أي مثقف نتحدث؟ وأي دور ومسئولية الآن؟، دراسة غير منشورة).

أياً كانت التعريفات السائدة إلا أن غالبها – باستثناء نسبي للتعريف الضيق- كلها مهمومة تاريخياً بمسألة دور المثقف، ولا تزال لكنها ذات تمثيلات لا تاريخية في اللحظة المتغيرة في عالمنا الآن، وذلك لأنها تستصحب معها الأدوار التاريخية التي لعبها بعض المثقفين المصريين والشوام منذ نهاية القرن التاسع عشر مع دولة محمد علي وإسماعيل باشا، وحركة البعثات ومشروع التحديث، وتَُشَّكل حقل المثقف مع مولده كنتاج لهذه العملية التاريخية، وانقلاب المكانات ما بين رجل الدين - الفقيه والداعية والمفتي-، وبين ميلاد المثقف الحديث.

دور أو أدوار المثقف في المثال التاريخي المصري ارتبط أولاً: بمساهمته في عملية بناء وتأسيس الدولة الحديثة كأحد الأطراف الأساسية، مع البيروقراطية، وجيش إبراهيم باشا. من ناحية ثانية: ارتبط دوره التحديثي، بدوره الحداثي. من ناحية ثالثة: دوره في إنتاج المعرفة المفتوحة على عالمها وعلى مجتمعها، سواء على مستوى بُنى الأفكار أو الرؤى حول مآلات تطور المجتمع، أو نقده لاختلالاته، لاسيما في ظل المرحلة شبه الليبرالية، ثم في ظل ثورة يوليو 1952. من ناحية رابعة: دور المثقف في بلورة الفكرة القومية ومفهوم الأمة المصرية في إطار تطور الحركة الوطنية المصرية المعادية للاستعمار البريطاني، حتى رحيل قوات الاحتلال.

من ناحية خامسة: دوره في إطار حركة التحرر الوطني والعربي، سواء على مستوى بلورة الأفكار حول نماذج الاستقلال الوطني، ومشروعات التنمية المأمولة ولعب في إطارها أدواراً فكرية وتعبوية وتحررية ونقدية.

من ناحية سادسة: أحاط دور المثقف تداخله في القضايا السياسية، والاجتماعية والاقتصادية والدينية، وانخراط غالبهم في النشاط السياسي المشروع أو المحجوب عن الشرعية من بعضهم لاسيما من كانوا أعضاء في الأحزاب الماركسية واليسارية السرية.

من ناحية سابعة: لعب بعض المثقفين وهم قلة دوراً نقدياً للأيديولوجيات المسيطرة، ودورها في تزييف الوعي الاجتماعي والسياسي، وأظهروا التناقضات بين الأيديولوجيا، وسياسات تطبيقها، ونقد الشمولية والتسلطية السياسية، والدينية وتحالفهما معاً، إزاء طلب المثقفين على الحريات العامة، وعلى رأسها الحرية الأم حرية الرأي والتعبير، ثم الحرية الدينية .... إلخ.

من ناحية ثامنة: دفع بعض المثقفين أثمان باهظة من حرياتهم من خلال منعهم من الكتابة ومصادرة أعمالهم الفكرية والإبداعية – للمثقف المبدع – وسجن بعضهم أو اعتقالهم.

من ناحية تاسعة: لعب بعض المثقفين المصريين دوراً مهماً في نقد الخطابات السلطوية السياسية والدينية – سواء من منظور السلطة الرسمية أو الجماعات الأصولية السياسية الإسلامية-، ودفع بعضهم حياته ثمناً لأفكاره، وبعضهم الآخر تعرض لمحاولات اغتيال فاشلة من قبل بعض هذه الجماعات الراديكالية، وبعضهم الآخر وشمت أفكارهم وشخوصهم بالتكفير والردة. في ظل هذا الإطار التسلطي الرسمي واللارسمي قام بعضهم بالتصدي لبني التسلطية وثقافاتها وسياساتها، من خلال تفكيكها وتحليلها وتفسيرها نقدياً، وساهم خطابهم النقدي في كسر نسبي للجمود السياسي الذي ران على الحالة المصرية السياسية والدينية، وفتحوا الطريق أمام حركات الاحتجاج التي شارك فيها بعضهم كحركة كفاية، وبعضُ الجماعات الأخرى التي مهدت للهبة الثورية في 25 يناير 2011، وفي نقد سلطة جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية. وبعضهم ساهم في دعم الأزهر في مواجهة محاولات الاستيلاء على قيادته وتغيير توجهاته.

من ناحية عاشرة: شارك بعض المثقفين في الهبة أو الانتفاضة الجماهيرية الواسعة في 25 يناير 2011، وفي السعي لتحقيق بعض أهدافها، إلا أن سيولة واضطراب هذه المراحل الانتقالية التالية، أدت إلى صعود سلطة النشاط السياسي، والناشط الحقوقي، والناشط الإعلامي على حساب سلطة المثقف الرمزية، وتراجعه لاعتبارات تتصل بقوة الأجهزة الإعلامية المرئية والتوجهات والمصالح السياسية والاقتصادية الكامنة وراءها، ومحاولة قوى عديدة مصرية وعربية توجيه الرأي العام، وهو ما كان يتطلب الاستبعاد النسبي للمثقف النقدي لصالح الدور الإثاري للناشط السياسي والحقوقي والداعية الديني – الإخواني والسلفي- لاعتبارات سياسية وإعلانية.

من ناحية حادية عشر: ثمة دور طليعي لبعض المثقفين – وهم قلة قليلة -، وهو قيامهم بتنبيه النخبة السياسية والمجتمع بالتحولات الكبرى في عالمنا منذ عقد الثمانينيات من القرن القادم وعلى رأسها الأزمات التكوينية والهيكلية للإمبراطورية الفلسفية الماركسية، وللاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية، ومن ثم ضرورة إجراء بعض المراجعات النقدية للنظرية وتطبيقاتها، من ناحية أخرى طبيعة التحول الذي سيتم في النظام العالمي وانعكاساته على الأقاليم الفرعية. ناهيك عن كتابات بعضهم عن تأثير الحاسوب والشبكة الافتراضية، والتطور التقني للثورة التكنولوجية الثالثة وما بعدها، والأهم الانتقال من الحداثة إلى ما بعدها، وعالم المابعديات بكل مكوناته، ما بعد الحداثة وما بعدها، وما بعد العولمة.

الأدوار السابقة للمثقف المصري والعربي – وفي المشرق العربي – لا يمكن نكرانها مهما حاولت النظم الشمولية والتسلطية والطائفية، أو بعض القوى الأصولية أن تفرض ستاراً من الصمت أو النكران أو الإهمال، لأنهم يخشون من المثقف النقدي ودوره، بحيث نستطع نسبياً أن نتحدث عن رهاَّب المثقف لديهم على الرغم من قوتهم القمعية المادية والرمزية، ورغماً عن التكفير الديني، والتكفير الوطني بغلظتهما، لأنه يمثل سلطة نقدية تمنحه من الأدوات المنهجية والنظرية ما تجعله قادراً على هتك الخطابات الشعارية والأيديولوجية الجوفاء واللغة الخشبية التي لا تبين، والسعي إلى كسر احتكار بعض رجال الدين الرسميين واللارسميين، والجماعات السياسية الدينية النطق باسم المقدس ومحاولتهم السيطرة على المجال الديني والسياسي، والأهم هو كشف وتعرية البنى التفسيرية والتأويلية الوضعية، وتحويل بعضهم لها وكأنها الدين من دون الدين والعياذ بالله.

من الشيق ملاحظة أن غالبُ هذه الأدوار التي لعبها قلة من المثقفين المصريين والعرب ودفع بعضهم من حريته الشخصية أثمان وكلف باهظة يتم الصمت أو السكوت حولها ويتم الحديث عن عزلة المثقف وكأن العزلة مذمة ناقص أو سلبية عجز في حين أنها جزء لا يتجزأ من بيئة عمل المثقف وتفكيره وإنتاجه على الرغم من تداخله مع بعض قضايا مجتمعة وإقليمة وعالمة، لكن في إطار الاستقلال والدور النقدي. أن الخطاب حول وظائف وأدوار المثقف، يدور بعضها حول نمط المثقف في ظل مراحل النهضة المصرية والعربية المتعاقبة وأدواره الإصلاحية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى المرحلة شبه الليبرالية، مروراً بمثقف حركة التحرر الوطني، أي من مطالع مشروع النهضة، غير المكتمل حتى دولة الاستقلال، ومثقف ما بعد الكولونيالية في أفضل الأحوال. من ثم نجد قدراً من النمطية النسبية حول النموذج الذي يخايل بعض من يقاربون أدوار المثقف وإشكالياته، وتركيز بعضهم حول دراما وتراجيديا المثقف في علاقته بالسلطة. غالبُ الخطابات تدور حول بعض الأمثلة للمثقف تستبطن فيها بعض شخصيات المثقف الليبرالي، والماركسي، والقومي في بعض مراحل التطور الاجتماعي والسياسي، والاقتصادي وبعضها يُعاد إنتاجه في الخطاب حول المثقف المصري والعربي الراهن، وهو ما أدى إلى التركيز على بعض كبار المثقفين، وإغفال التنظير لأدوار أخرى لنمط المثقف الهامشى، وبعض من هم خارج السلطة الثقافية الرسمية. ثمة نسيان أن الأدوار يعتريها بعض التغير في إطار السياقات المتغيرة والمتحولة، لاسيما المثقف في عصر الثورة الرقمية، وعوالم المابعديات، وأثر هذه التغيرات السريعة والمكثفة على تعريف المثقف وتكوينه ومكانته ودوره الذي يتراجع نسبياً، كونياً وأقاليمياً ووطنياً.

السؤال الذي نطرحه أين موقع ودور المثقف في أعقاب الهبات الجماهيرية ذات النفس الثوري؟ ومن هو المثقف الآن؟ وهل لا يزال يلعب ذات الأدوار منذ نشأة الحقل والوظيفة والدور بدءاً من قضية دايفوس الشهيرة إلى اللحظة التاريخية المتغيرة في عالمنا السائل الذي يعيد تشكيلات القوة والخرائط الجيو-سياسية، والجيو - دينية والمذهبية والجيو- ثقافية، حيث الدولة ترحل عنها بعض ملامحها وسماتها منذ عصر الدولة القومية بعد وستفالياً؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة على النحو التالي:

1-  دور المثقف في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية الثورية المجهضة

نركز في هذا الصدد على المثال المصري، وذلك فيما يلي:

يمكن إيجاز وضعيه المثقف المصري- والأحرى بعضهم – وتتمثل في العزلة النسبية، والتشوش وإعادة إنتاج مقولات ونماذج ومفاهيم، وأفكار من مرجعيات تم تجاوزها، وأصبح بعضها خارج سياقات اللحظة التاريخية السائلة والمتغيرة والمضطربة، عالم آُفلَ ومعه منظومات المقاربة والتفكيك والتحليل والتفسير، وذهبت معه لغة ومصطلحات كانت تعبر عن منظورات ورؤى ونماذج وظواهر تغيرت، وأصبحت وضعية المثقف – غالبُ المثقفين – غائمة ومرتبكة ومتوترة ونكوصية نحو الذات وفي فضاء من الشعارات لمواقع وأدوار غادرته، وحالة نوستالجية وخوف من مستقبل محمول على المفاجأت والتراكيب والظواهر غير المألوفة، والقضايا والإشكاليات الوجودية المغايرة. واقع موضوعي كوني واستثنائي منذ نهاية الحرب الباردة، وحتى سقوط حائط برلين، عالم يجتاحه ثورة رقمية غير مألوفة، وأن بشر بعضهم بها، أو يشارك فيها لكنها تنتج نمط جديد يغاير المثقف الحداثي والمثقف ما بعد الحداثي، أنه المثقف المابعدي والرقمي، في حين أن دوره النقدي والحداثوي لا يزال غير مكتمل وجنيني ومبتسر في المقاربة والأدوات والتحليلات، والقدرة على تغيير واقع موضوعي مركب ومعقد يبدو أنه يتباعد عنه، ويكشف عن عجزه تجاهه.

2- تواجه المثقف المصري عموماً – والاستثناءات محدودة- عديد العوائق الهيكلية والذاتية إزاء دوره في أحداث التغيير والتحولات الفكرية والقيمية والثقافية، والرمزية والاجتماعية، يمكن لنا إيجاز بعضها على النحو التالي:

أ- ضعف وتراجع الطلب السياسي والاجتماعي على الإنتاج الثقافي والإبداعي، وهامشية دور الثقافة في عقل غالبُ النخبة السياسية الحاكمة، ومعها القوى السياسية المعارضة الهشة والضعيفة، ومعهم المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية معاً، والجماعات السلفية والإسلامية السياسية التي تعاني معهم من رهاب المثقف النقدي، والإبداع غير المألوف، ومن ثم يهمشون الثقافة والمثقف في إدراكاتهم وأفكارهم، ويهاجمونه بقسوة تصل إلى حد التكفير الديني والوطني.

ب- استمرارية النظام الاقتصادي الرأسمالي المشوه الذي تسوده رأسمالية المحاسيب والزبائن، وصعود فئات اجتماعية إلى الشرائح الوسطى العليا ليس لديها اهتمام بالثقافة، وقلة قليلة داخلها تتعامل معها كجزء من الماكياج الاجتماعي أو الصورة التجميلية لأوضاعهم الاجتماعية الجديدة، وبعضهم يتأثر في موقفه من المثقف والثقافة ببعض من الموروث الديني، والرؤى السلفية والإخوانية التي تمدهم بقدر من التوازن الاجتماعي والنفسي المطلوب لمواكبة تغير أوضاعهم الاجتماعية، وتغطي على بعض آليات صعودهم الاجتماعي الموشومة.

من ناحية أولى: تبدو الفئات الاجتماعية الوسطى – الوسطى، والوسطى – الصغيرة مكلومة بضغوط الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية، وتعاني من اضطراب أوضاعها والخوف من سقوطها من شريحة لأخرى، كنتاج للتضخم والبطالة والركود، والأخطر حالة سوسيو – نفسية من فقدان الأمل أو غيابه، أو تشوش بعض من ملامحه في إدراكهم شبه الجمعي. قلة قليلة من هذه الشرائح تقاوم ببعض من استهلاك السلع الثقافية، المتاحة، أو الهروب إلى الفضاءات الرقمية.

من ناحية ثانية: الفئات الشعبية العريضة تعاني من عسر الحياة وصعوبة مواجهة تيارات متلاطمة من المشكلات اليومية، والبطالة، والتضخم الركودي، والأمراض، والسكن غير الملائم ... إلخ، على نحو يجعلها بعيدة عن الاهتمام بالسلع الثقافية والمثقف، وإن كان بعضها يستهلك نمط من الموسيقى والغناء الذي يجسد آلامهم، ومعاناتهم في المشاعر والحب والخيانة والصداقة الفاشلة والنذالة، وتغير وجوه الحياة وفق الحظوظ والأقدار، أو استهلاك السلع الدينية الوعظية، وبعضهم يتداخل مع طقوس المتصوفة، أو الأماني السلفية حول صور الآخرة الموعودة لمن يتماهى مع خطابهم التأويلي الوضعي وسلوكهم وطقوسهم ... إلخ.

اضطراب اجتماعي، يسوده ثقافة القبح والتعصب والقسوة والحقد والكراهية واللاتسامح، وجلد الذات والآخرين والعنف المادي والرمزي والديني والاقتصادي والقلق، وضعف الآمال في الحراك الاجتماعي لأعلى، والجريمة، والتهتكات القيمية، والسلوكية، الساعية إلى تكيف صعب.

ج- ضيق وحصار المجال العام الواقعي من خلال منظومة من القيود والإجراءات القانونية والإدارية والأمنية، في ظل عودة التسلطية السياسية، وسياسة اللاسياسة وبالأحرى موت السياسة وفق الاصطلاح الفرنسي الذي بات شائعاً، مع استمرارية نسق من القوانين المقيدة للحريات العامة، لاسيما حرية الفكر والتعبير، والتدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهي قيود قانونية تساندها السلطة السياسية، والسلطة الدينية، وتساندهما نمط من الثقافة التسلطية الدينية والسياسية.

د- رهاب سلطوي – يجد سند ثقافي ديني وشعبي- من العقل والفكر النقدي لاسيما بعض الخطابات التي تعيد النظر راديكالياً في الموروث الديني الوضعي، من بُنى تفسيريه وتأويلية، ولمدونات السنة النبوية المشرفة وعلى رأسها مدونة صحيح البخاري، أو في محاولة المقاربة التاريخية لتطور الإسلام كثافة في السياسة والتاريخ، وهو ما أدى إلى رفع دعاوى الحسبة الدينية ثم الشكاوى – بعد تعديل القانون- التي تقدم إلى النيابة العامة تحت دعاوى المساس بالثوابت الدينية، وذلك دونما مقاربة نقدية مضادة لمحاولة إعادة النظر التاريخية، أو داخل المدونات السَّنوية على نحو ما كان تم في المرحلة شبه الليبرالية حول الإيمان والإلحاد وغيرها من القضايا التي كان يدور الحوار والجدل والسجال حولها بين المدارس الفكرية المختلفة، وكان رائدها الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي والمقال بالمقال والكتاب بالكتاب والبحث بالبحث المغاير، حيث تعددت المقاربات والرؤى على الاختلاف فيما بينها في إطار من الجدل الحر وقدر من التسامح الفكري.

ه- أدت الحركة الجماهيرية بسيولتها واضطرابها، وغياب التنظيم والرأي القيادي المحرك والمنظم لها إلى حالة من السيولة والاضطراب، والحركة الآنية والعفوية، لأن طلائع الانتفاضة/ الهبة الثورية جاءت من قلب حركة الأجيال الشابة الجديدة وثقافتها الرقمية، وفي ظل تحركات الجموع، وأنية توجهاتها، إلى هيمنة صخب وهدير حركتها العفوية – رغم بعض التنظيم المحدود لبعض الجماعات الراديكالية اليسارية من مثيل 6 أبريل، والاشتراكيين الثوريين، والأناركيين، ناهيك عن تنظيم جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية والسلفيين-، بعض هذه القوى كان لديه القدرة على المناورة، وإضفاء المزيد من الاضطراب والتشوش السياسي على حركة الجموع الغفيرة، ومحاولة تغيير مسار العملية الثورية نحو الاتفاق مع السلطة الفعلية في البلاد.

وسط هذا الزخم وحراك الجموع الغفيرة، تراجع نسبياً دور بعض المثقفين تحت وقع وصعود سلطة الناشط السياسي، والداعية الأيديولوجي الديني، السلفي والإخواني واليساري، وصخب حركة الألتراس وضغوطها وعنفها أياً كانت أسبابه ودوافعه.

و- أدى الاضطراب الأمني والسياسي وتشوش الأفكار، والمألات القائمة لتطور العملية الثورية في مراحل الاضطراب، إلى ارتفاع معدلات الخوف من الفوضى الشاملة، في ظل ضعف ثقافة سياسية منفتحة على عالمها وتجاربه بما فيها نظم التحول نحو الديمقراطية – في أوروبا الشرقية بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية السابقة، وبعض تجارب أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء- إلى بروز الحاجة إلى الخبير السياسي والخبير الاقتصادي، لمحاولة فك غموض الفوضى النسبية ومآلاتها الغامضة، وذلك بحثاً عن ضوء من الأمل في نهاية الطرق المسدودة. من هنا انبثق طلب على الخبير في مواجهة تراجع المثقف ودعم ذلك خيارات الأجهزة الإعلامية المرئية، والقنوات الفضائية المصرية الخاصة، والعربية والأجنبية، والصحافة الخاصة، بحثاً عن إجابات عن أسئلة تطرحها الجموع الغفيرة وتخايلها، أو بصيص من الأمل. وكشف حضور الخبير عن هشاشة الخبرة وضعف التكوين والمتابعة والاستثناءات قليلة، على نحو أشاع المزيد من الصخب والسطحية.

ل- هيمنة فقه الثوابت والمحظورات الوضعي التأويلي والإفتائي وتحوله إلى جزء من السلطات الرمزية للسلطتين الدينية والسياسية، وهو ما أدى إلى تمدد وتضخم المحرمات الدينية الوضعية، وتحولها إلى وحش رمزي كاسر يتعقب بعض المبدعين، وإبداعهم التخييلي الذي أصبح مستباحاً للتأويل الديني الوضعي وشروحه، ولم يعد الأمر قصراً على بعض رجال الدين وأسيراً للداعية الديني الرسمي أو دعاة الطرق – بتعبير الأستاذ العميد طه حسين- وإنما بات رهينة لدى تفسيرات محتسبي الحياة العامة من غير المثقفين أو المتخصصين في العلوم الدينية الإسلامية أو اللاهوت المسيحي – وفق مذاهبه الثلاث الكبرى ... إلخ-، وإنما لبعض العوام أو راغبي الشهرة الإعلامية. هذا التمدد للنزعة الاحتسابية، ومطاردة الروايات والقصائد والقصص واللوحات والمسرحيات والقصائد والكتب والتفتيش في نوايا وضمائر المثقفين والمبدعين منهم شكلت قيداً وإعاقة على حرية الفكر والتمثلات والإنتاج الإبداعي للمثقف الخلاق.

من هنا برز ملاك الحقائق المطلقة – بتعبير مراد وهبة- في مواجهة المثقف النقدي المستقل، ذو الرؤى والمقاربات النسبية، والشكلية الهادم للرؤى الوضعية المطلقة، والقيم الحاملة لها سواء أكانت جزءاً من الأيديولوجيا السياسية، أو المرويات والأمثولات والسرديات الشعبية، أو الأيديولوجيا الدينية الوضعية حول الدين، وأصوله، ويراد لها أن تكون حارسة على المقدس، وحاملة لمفاتيحه وأبوابه وظلاله وفضاءاته.. تشكل التغيرات السابقة السرد على إيجازها، إعاقات أمام المثقف النقدي المستقل، لاسيما إزاء السلطات السياسية والدينية والعرفية، ودفع بعضهم – وهم قلة مع آخرين-، ثمن بعض رؤاهم أو كتاباتهم النقدية والإبداعية المغايرة لسلطة السائد وتقاليده وأعرافه.

يبدو لي أيضاً أن ما سبق من ملاحظات وجيزة تدور حول غالبُ حقل ومشاهد وصور المثقف المصري والعربي- إلى حد ما-، في حدود تشكله وأدواره وإعاقاته إلا أن ثمة إعاقات أخرى تكوينية، تحول بين غالب المثقفين، وبين استيعاب غالبهم للعالم الهادر بالسيولة وموجاتها، والمابعديات وصخبها وتشوشها واضطرابها، وسقوط مقولات وصعود أخرى، تتمثل في أنه لا يزالون – إلا قلة قليلة منهم- عند حدود الصور التاريخية المتمثلة والمستصحبة لمثقف النهضة، والمرحلة شبه الليبرالية، ودوره المعتقل في المراحل الشمولية والتسلطية في أعقاب نظم ما بعد الاستقلال، ومن ثم لم يتجاوز سوى قلة قليلة هذه التمثلات التاريخية للمثقف في تاريخنا، ويعود ذلك إلى ما يلي:

·   الفجوة المعرفية بين تكوين بعض المثقفين المبتسر، وبين التطورات في النظم الفكرية، والعلوم الاجتماعية ومناهجها، وبين ما يجري في الفضاءات الكونية من تغيرات فكرية ومعرفية وثقافية. بعض ذلك يعود إلى عدم المتابعة والتجدد الفكري والنظري – بتعبير السيد يسين-، أو إلى عدم إجادة اللغة الأجنبية الكبرى، أو إلى عدم مواكبة حركة الترجمة للجديد في ثقافات العالم.

·   صعود سلطة الثورة الرقمية، وبدايات تشكل جنيني لما يمكن تسميته المثقف الرقمي من الأجيال الشابة الجديدة التي تختلف في تكوينها ورؤاها ومقارباتها عن أشكال وصور المثقف السائدة في عالمنا ومجتمعاتنا العربية، وبدء تشكل بعض ملامح الصورة الرقمية الجديدة لدى قلة محدودة جداً من الشباب.

·   تراجع وأفول السرديات الكبرى- وفق تعبيرا جان فرنسوا ليوتار في الشرط ما بعد الحداثي – وتمدد عمليات التشظي، وبروز أشكال المحاكاة الساخرة وبدايات التحول إلى ما بعد بُعد الحداثة بعد استنفاد قدراتها على الوصف والتشخيص والتحليل لأوضاع المجتمعات السائلة والمتغيرة وأنساقها على تعددها، وتناقضاتها.

·   سلطة الإعلام الرقمي والمرئي، والحضور الضعيف والهش للمثقف في إطار برامجه، وسعيها للتركيز على الإثاري والموجز المختصر، ومن ثم على العناوين الصاخبة والمثيرة – الكلاشيهات – دون التعمق في جذور موضوعاتها، وجوانبها المختلفة، وميلها إلى التبسيطات التي تناسب المتلقي العادي، على نحو أدى إلى بروز ما يمكن تسميته بسلطة العادي واهتماماته وأمزجته وسطحيته، وسعيه وراء المثير من الوقائع والأخبار والشروح السريعة المبتسرة وبروز سلطة الشعبويات الجديدة كما تظهرها الانتخابات الأمريكية والأوروبية إزاء الآخر، والمهاجرين.

·   اضطراب المعاني في العالم المابعدياتي وتناقضاتها وطابعها النسبي والغائم والمستعصي نسبياً على التنظيرات الكبرى، والمعاني الشمولية كنتاج لحالة السيولة والاضطراب الكوني في ظل تغيرات في مفاهيم القوة والمكانة مع بدء ملامح أولية أو جنينية – على الأرجح- تراجع نسبي للإمبراطورية الأمريكية، والنفط ومصادر الثروات الأولية وصناعاتها واقتصادياتها.

·   من هنا يبدو أن المثقف الورقي في حالة تراجع نسبي لصالح المثقف الرقمي، وخطاب التغريدات، ولغته الموجزة والمختصرة والتي يتداخل فيها الأرقام والحروف والأفكار المبسطة وبعضها مستهلكه وفي ذات الوقت ثمة مواقع ثقافية مهمة لكنها لا تزال في طور نقل ثقافة الورقي إلى الفضاءات الرقمية كساحة عرض وبث أكثر منها تفاعلاً واستيعاباً للغة الرقمية.