المركز العربي للبحوث والدراسات : سياسة الدم: الصراع بين أردوغان والأكراد في تركيا (طباعة)
سياسة الدم: الصراع بين أردوغان والأكراد في تركيا
آخر تحديث: السبت 16/01/2016 10:59 ص د. أحمد موسى بدوي
سياسة الدم: الصراع
في السابع من يونيو2015، تمكن حزب الشعوب الديمقراطي بقيادة صلاح ديمرطاش من تحقيق المفاجأة وقلب موازين القوى داخل البرلمان التركي الجديد، وأصبح للأكراد قوة حزبية ممثلة بـــ (79 عضو)، على حساب حزب العدالة والتنمية، ما أجهض محاولة تغيير النظام السياسي في تركيا إلى نظام رئاسي.  لم يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على الصخرة الكردية، فقامر بتفجير الوضع شبه المستقر بين الأكراد والدولة، متورطا في ملاحقة القيادات الكردية في الداخل، وقصف مواقع حزب العمال الكردستاني في الخارج. وبتأثير من الأزمة الكردية، اندفع بإضافة أزمة جديدة لتركيا، عبر إسقاط الطائرة الروسية، ثم إرسال قوات تركية إلى  شمال الموصل.   وفي هذا المقال نحاول الإجابة عن أربعة تساؤلات: ما طبيعة العلاقة بين الدولة والأكراد؟ ولماذا تحول الأكراد إلى الاندماج في النظام السياسي التركي؟  لماذا يعتبر الأكراد ذخيرة الأحزاب الإسلامية في تركيا؟ ولماذا يحاول أردوغان التخلص من حزب الشعوب الديمقراطية ومن زعيمه صلاح ديمرطاش؟
انتهجت الدولة ضدهم صنوفًا من التمييز العنصري والقمع القومي المستمر، لدرجة حظر التحدث باللغة الكردية، وتغريم من يتحدث بها في الأماكن العامة
أولا: مرحلة المواجهة العسكرية بين الدولة والأكراد
يعيش في تركيا الآن أكثر من 20 مليون كردي، وكما يذهب الدكتور راينر هيرمان، الخبير في الشئون التركية، في كتابه (تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ترجمة علا عادل،2012). أن المسألة الكردية أصبحت مرادفا لكل الصراعات التي تحل بتركيا، حيث يعتبر الأكراد من أكثر الطوائف المعرضة للتمييز هناك. فقد انتهجت الدولة ضدهم صنوفًا من التمييز العنصري والقمع القومي المستمر، لدرجة حظر التحدث باللغة الكردية، وتغريم من يتحدث بها في الأماكن العامة. ويرجع الصراع من وجهة نظر هيرمان، إلى الأسس التي رسخها كمال أتاتورك في تركيا، التي تحظر على كافة الأقليات التمتع بحقوق ثقافية أو اجتماعية أو سياسية خاصة. هذا التناقض بين الدولة الكمالية العميقة، التي لا تزال تحكم تركيا حتى اللحظة الراهنة، وبين الحقوق المشروعة للأكراد، يدفع بالعلاقات بين الجانبين إلى التوتر الدائم، فلا الدولة تريد أن تقر بحقوق الأكراد، ولا الأكراد قادرين على الذوبان في الهوية التركية، أو التخلي عن أصولهم العرقية. وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية بين الدولة وفصائل مسلحة من الأكراد على رأسها، حزب العمال الكردستاني، استمرت من عام 1984 حتى عام 1999، اضطر خلالها أكثر من 3 ملايين نسمة من الهجرة القسرية، وخلفت الحرب أكثر من 40 ألف قتيل، ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد القبض على عبد اللـه أوجلان قائد حزب العمال، في فبراير 1999.
ثانيا: التحول السياسي للأكراد في تركيا
بعد انتهاء الحرب الأهلية، سعى كل طرف - من جانب واحد-  إلى حل الأزمة على طريقته، فقد أقر عدد كبير من قادة حزب العمال في 2002، مبدأ تحويل الحزب إلى حركة ديمقراطية، وتغيير اسمه إلى حزب كاديك. غير أن هذه المبادرة لم تلق ترحيبا داخل تركيا أو من الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة، وظل الحزب وقادته على رأس المنظمات الإرهابية من وجهة نظر الجميع. وفي المقابل تبنت الدولة التركية، مبادرات تسمح باستخدام اللغة الكردية في بعض المدارس، وفي وسائل الإعلام الكردية، فضلا عن إلغاء حالة الطوارئ في المحافظات الكردية، وإلغاء عقوبة الإعدام التي استفاد منها عبد اللـه أوجلان، فتحول الحكم بالإعدام إلى السجن مدى الحياة. غير أن المبادرات من الجانبين لم تنزع فتيل الصراع نهائيا، فكان يتجدد كلما شعرت الحكومة التركية بنمو القدرات العسكرية لحزب العمال الكردستاني، حدث ذلك في 2004، ثم 2006، وبلغت ذروة الصراع في 2008، باجتياح عشرة آلاف جندي تركي لشمال العراق، لتدمير القدرات العسكرية لحزب العمال، وبموافقة الولايات المتحدة، التي قدمت كافة البيانات والمعلومات الاستخباراتية التي  لديها عن مواقع حزب العمال في العراق. ونفس الأمر يتكرر في أعقاب الانتخابات البرلمانية الأولى في منتصف 2015.
ومع ذلك ورُغْمه، فإن المتابع للمسألة الكردية التركية، يشهد تطورًا في توجه غالبية الأكراد نحو الاندماج السياسي في تركيا، بسبب عدة عوامل:
(1) أن المناطق الكردية، شهدت طفرة اقتصادية كبيرة، مع تدهور الأوضاع في العراق عام 2003، وحتى اللحظة الراهنة، فالشاحنات التركية، وغالبيتها مملوكة للأكراد الأتراك، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تحمل في جوفها معظم الواردات إلى العراق، وهو ما حقق للأكراد أرباحًا طائلة، واستقرارًا لم يشهدوه من قبل. وتزامن ذلك مع النمو الاقتصادي لتركيا الدولة.  ما عزز الانتماء بين الطبقة الوسطى الكردية وطبقة رجال الأعمال بالدولة المركزية، وخفوت صوت المقاومة والمطالبات العرقية. ولم يبق إلا فصائل كردية محدودة، ترفض الاندماج في المجتمع التركي، وتعارض العمل السياسي، وتعمل على الانفصال.
 (2) نجاح حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه السلطة، في الاستثمار الأمثل للملف الكردي،  فكان حريصًا على السير للأمام، - ولكن ببطء - في حل المشكلات الكردية. ما يفسر نشاط الحزب قبل الاستحقاقات الكبرى في إبراز المسألة الكردية وتسليط الضوء عليها، وتقديم الوعود المستقبلية. نوع من الابتزاز السياسي، يضع الأكراد في موقف إما أن تقبل التصويت للعدالة والتنمية أو أنك سوف تخسر قضيتك. والواقع أن نظام البرلمان التركي، يسمح بهذا الابتزاز، فعتبة دخول البرلمان هي الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين، وهي نسبة عالية، تثبط وتضعف من طموحات الأكراد السياسية، وتجعلهم غير فاعلين على مستوى التشريع في نيل حقوقهم المشروعة.
 (3) غير أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة، شهدت تحولا ملفتا للغاية، بترشح صلاح دمرطاش، وهو  محامٍ ونائب برلماني كردي مستقل عن مدينة ديار بكر، يبلغ من العمر 42 عاما، وهو شاب طموح يمتلك أدوات السياسي، ومقومات القيادة، وقد تحصل على ما يقرب من 7% من جملة أصوات الأتراك، وهي نسبة معتبرة، منتزعة من منافسين أقوياء، رجب طيب أردوغان مرشح حزب العدالة والتنمية، وأكمل الدين إحسان أوغلو مرشح حزبي (الشعب الجمهوري، والحركة القومية). هذا التحول منح الأكراد أملًا جديدا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت بعد الرئاسية بعدة أشهر.
(4) وهو ما تحقق فعلا بإعلان صلاح دمرطاش، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي، خوض الانتخابات البرلمانية كحزب وليس كمرشحين مستقلين كما جرت العادة في السابق، مراهنًا على الزخم الذي صاحب ترشحه في الانتخابات الرئاسية، وعلى قدرته على جذب قطاعات من اليساريين والعلويين الأتراك. هذا الإعلان الجريء أصاب قيادات حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم أردوغان بالتوتر الكبير، لأنهم على يقين بأن الأكراد يمثلون رقما معتبرًا في الكتلة التصويتية ذات التوجه الإسلامي في تركيا، ما يعني أن النجاح الذي سيحققه الأكراد سيكون على حساب حزب العدالة والتنمية، وليس على حساب حزبي الحركة القومية أو الشعب الجمهوري. إذا لماذا يعتبر الأكراد ذخيرة الأحزاب الإسلامية في تركيا؟
إن المتابع للمسألة الكردية التركية، يشهد تطورًا في توجه غالبية الأكراد نحو الاندماج السياسي في تركيا
ثالثا: الأكراد وبعث الهوية الإسلامية في تركيا
إن تهيئة المجتمع التركي لتقبل الخيار الإسلامي الحداثي، جاء عبر عملية تاريخية، جنى حزب العدالة والتنمية ثمارها الناضجة. فقد نشأت الحركة الإسلامية التركية الحديثة على يد العالم الكردي بديع الزمان سعيد النورسي (1877-1960)، الذي قدم مشروعا ثقافيا واجتماعيا ممتد الأثر، يوائم بين الحضارة الغربية والإسلام، وانتشرت أفكاره بين بني جلدته من الأكراد ثم امتد تأثيره إلى كافة أنحاء تركيا، وأصبح  أتباع الحركة النورسية يعدون بالملايين الآن.
 لم يكن العالم الكردي سعيد النورسي، حالما باستعادة الخلافة الإسلامية، مقارنة بهدف حسن البنا عند تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وإنما كان حالما باستعادة الهوية الإسلامية لتركيا، وفي سبيل هذه المهمة الجليلة، قضى عمره بين السجن والنفي وتحديد الإقامة، حتى بعد وفاته لم يسلم جسده من المعاناة، فقد أصرت السلطات التركية على نقل جثمانه بعد الدفن بأيام إلى مكان غير معلوم.
 على أية حال، انشغل سعيد النورسي، بتأليف رسائل النور، مستغرقا في ذلك نصف قرن من عمره، وكان يكتبها طلابه، وينسخونها في سرية تامة، ثم يتم توزيعها في أرجاء تركية بعيدًا عن أعين الأمن، جددت هذه الرسائل الدين الإسلامي بوسطيته وإصلاحيته وعدم تناقضه مع الحضارة الحديثة. وصارت هذه الرسائل وحتى الآن المصدر الرئيسي للمعرفة الدينية في تركيا. وبعد وفاته، أسس طلابه، العديد من المؤسسات الخيرية لنشر تعاليم النورسي ورسائله، وجميع هذه المؤسسات تحافظ بصورة أو بأخرى على عدم الاشتغال بالسياسة، فلا يسمح لأعضائها، بالترشح في أي انتخابات، من أي نوع، كما أن هذه المؤسسات لا تدعم بصفتها الاعتبارية أي مرشحين من أي نوع. ولذلك فقد شكلت هذه المؤسسات، قوة ناعمة ذات تأثير عميق وممتد في المجتمع التركي، وليست جماعة الخدمة التي أسسها فتح اللـه جولن، سوى واحدة من هذه المؤسسات التي تهتم بنشر التعليم بين أوساط الطبقة العاملة والفلاحين وقطاع من الطبقة الوسطى التركية.   
ومن هنا يمكن القول أن الأكراد يمثلون قلب الحركة النورسية التي  تعد الذخيرة الأساسية لكل الأحزاب ذات التوجه الإسلامي في تركيا، التي ظهرت على الساحة السياسية في الماضي والحاضر. والمتأمل في تأسيس الأحزاب وحلها، يتبين أنه لا يهم اسم الحزب ولا من يرأسه، فكل حزب له توجه إسلامي في تركيا، سوف يلقى الدعم من أتباع الحركة بمجرد ظهوره، كما يتضح على النحو التالي:
•    حزب النظام الوطني (1970-1971): كان الحزب الإسلامي الأول في تركيا الجمهورية، الذي دعا إلى اعتماد الإسلام في سياساته، أسسه نجم الدين أربكان، وهو برلماني مستقل، وأستاذ في الهندسة الآلية بجامعة اسطنبول، وعقد الحزب مؤتمره الأول في فبراير 1970، ولكن لم يلبث أن أحيل مؤسسه لمكتب المدعي العام في عام 1971، لمحاكمته بتهمة استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، ومن أهم برامجه كان إعادة تأسيسي وتشجيع التعليم الديني في كل المدارس التركية.
•    حزب السلامة الوطني (1972-1980) أسس حزب السلامة في أكتوبر 1972، من قبل 19 شخصا، ارتبط أغلبهم بحزب النظام الوطني المنحل، وانتشر الحزب سريعا في 67 منطقة بتركيا، بفضل قدرات أربكان وسليمان عارف الأمين العام للحزب في جذب الأعضاء، وفي انتخابات 1973 حصل الحزب على 48 مقعدا من 450، ونجح في الحصول على 13% من أصوات مجلس الشيوخ ما مكنه من الحصول على 3 مقاعد من 52، وهكذا جاء الحزب في المرتبة الثالثة. وفي عام 1981 قامت السلطات العسكرية بحل الحزب.
•    حزب الرفاة (1983-1998): أسسه علي تركمان، بعد حظر نشاط نجم الدين أربكان وآخرين، ولكن بعد رفع الحظر في عام 1984 عاد أربكان رئيسا لحزب الرفاة، وهو الحزب الذي شهد مرحلة التغير الحقيقي في تركيا، حاول الحزب تلافي أخطاء التجارب السابقة، فكانت شعاراته أكثر حذرًا، ومغلفة بشعارات كمالية، وحاول الحزب أن يوفق بين الحركة الإسلامية والديمقراطية. ومع ذلك لم يستطع الحصول على مقاعد  خلال انتخابات 1984 ، 1987، وفي 1991 دخل الانتخابات في قائمة مشتركة مع حزب العمل القومي، فحصل على 43 مقعدا. وفي انتخابات 1996ـ حصل على 158 مقعدا من أصل 550، ما جعله أقوى الأحزاب وسمح لزعيمه، أن يصبح رئيسا للوزراء. وفي 1997 أخرج الجيش أربكان وحزبه خارج الحكومة، ثم في يناير 1998 قامت المحكمة الدستورية بحل الحزب.
•    حزب الفضيلة (1998-2001) قام أعضاء حزب الرفاة المنحل، بتأسيس حزب جديد باسم (حزب الفضيلة، وتم ترشيح بضعة أسماء لرئاسة الحزب الجديد، تتضمن الطيب رجب أردوغان، رئيس بلدية اسطنبول، ومليح كوتشك، رئيس بلدية أنقرة، وعبد اللـه غول مسئول العلاقات الخارجية لحزب الرفاة المنحل، وبولاند أجاويد، وزير الطاقة في حكومة أربكان، ورجائي قوطان، الرجل التوافقي وصانع الصفقات الانتخابية آنذاك. وتم تنصيب طوقان رئيسا للحزب في ديسمبر 1998. غير أن الجيل الجديد للإسلاميين بدأ في اكتساب النفوذ داخل بنية حزب الفضيلة، وتجلت هذه القوة في الانتخابات الداخلية للحزب عام 2000، فقد فاز رجائي طوقان برئاسة الحزب بعد منافسة شرسة مع الشاب عبد اللـه جول، (632 صوت لرجائي مقابل 521 لجول). وتم حل الحزب في يونيه 2001. بذات التهمة (تهديد النظام العلماني في تركيا).
•    حزب العدالة والتنمية: بعد حل حزب الفضيلة، انقسم الأعضاء إلى فريقين: الأول يسير على النهج الأربكاني، وبدأ إجراءات تأسيس حزب السعادة. أما التيار الثاني من حزب الفضيلة المنحل،  فيضم الجيل الجديد من السياسيين الإسلاميين، وعلى رأسهم عبد اللـه غول وطيب رجب أردوغان، وأسست هذه المجموعة حزب العدالة والتنمية، واعتلت سدة الحكم حتى اللحظة الراهنة.
 كل هذه المحاولات، ما كان لها أن تستمر، في ظل هذا المناخ السياسي العجيب، إلا إذا كانت هذه الأحزاب ضامنة في كل مرة ظهور وتأسيس، أن هناك قوة اجتماعية تؤازرها، وهي الحركة النورسية، وفي الغالب، حرص الإسلام السياسي التركي على إفراز حزبًا واحدًا في كل مرة، فإذا ما تم حله، يستمر نفس الدعم الجماهيري للحزب الجديد دون جهد، على معنى أن جميع الأحزاب كانت تجني ثمار الحركة الإسلامية التي كان الأكراد في القلب منها.
ونأتي إلى سؤالنا الأخير في هذا المقال: لماذا يحاول أردوغان التخلص من حزب الشعوب الديمقراطية ومن زعيمه صلاح دمرطاش؟
رابعا: سياسة الدم وإعادة بعث الصراع الكردي-التركي
في الوقت الذي كان أردوغان يسعى فيه للحصول على الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردًا، وتتيح له تحقيق حلمه بتغيير الدستور التركي وتحويله إلى نظام رئاسي. تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من تحقيق المفاجأة،  وقلب موازين القوى داخل البرلمان التركي الجديد، وأصبح للأكراد قوة حزبية ممثلة بـــ (79 عضوا)، ظهور الحزب الكردي،  أفسد كل الخطط، وهنا مربط الفرس.
يبلغ عدد أعضاء البرلمان التركي (550 عضوا)، والحزب الذي ينجح في حصد أكثر من 275 مقعدًا يستطيع أن يشكل الحكومة منفردًا، كما يحتاج أي حزب إلى 367 مقعدًا، من أجل تعديل الدستور دون الحاجة إلى اجراء استفتاء شعبي على هذه التعديلات. ويمكن لأي حزب لديه 330 معقدًا داخل البرلمان أن يطرح تعديلات دستورية للاستفتاء الشعبي. ولم يتمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق الحد الأدنى من طموحاته. ولم يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على عتبة البرلمان الجديد. فكانت الدعوة للانتخابات البرلمانية المبكرة. فعلى أي شيء راهن أردوغان وحزبه؟
من الناحية العملية، فإن حزب العدالة والتنمية، غير قادر على التأثير في الكتلة التصويتية لحزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية، وارتبطت انتصارات حزبه في الانتخابات البرلمانية والمحلية وحتى الرئاسية بأصوات الأكراد، التي استردها حزب الشعوب الديمقراطية ببراعة.  باختصار لا سبيل أمام أردوغان سوى التعايش مع معطيات الواقع، أو الاندفاع بتهور نحو صناعة متغيرات جديدة. وللأسف اختار أردوغان الخيار الأصعب، والأكثر تكلفة على حساب المواطن التركي، وسعى إلى شيطنة حزب الشعوب الديمقراطية، وجر الأكراد إلى ساحة الوغى مرة أخرى، على نحو ما شاهدناه خلال الشهور الماضية.
يسعى أردوغان إلى التخلص نهائيا من حزب الشعوب الديمقراطية، مستغلًا القوانين التركية، ومتبعًا نفس الطريقة التي كان النظام الحاكم يتبعها من قبل في حل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. ويبدو ذلك جليًا من الملاحقات الأمنية لعناصر حزب الشعوب، واتهام صلاح دمرطاش نفسه، بتهمة دعم منظمة إرهابية (حزب العمال الكردستاني) وهي التهمة الكفيلة بإيداعه السجن سنوات طويلة، ومنعه من ممارسة العمل السياسي مدى الحياة.
وعلى الجانب الآخر، توجد عناصر كردية انفصالية، ترفض العمل السياسي من الأساس، وهي عناصر جاهزة لتفجير الوضع، وإفساد النضال السياسي للحركة الكردية داخل تركيا. لذلك فإنه مع بداية العمل العسكري التركي ضد مواقع حزب العمل الكردستاني في العراق، بدأت تلك العناصر في تنفيذ عمليات ضد قوات الأمن التركية، والأوضاع تتدهور وتتعقد يوما بعد يوم.
خاتمة
إن اللحظة التاريخية التي تمكن فيها الأكراد من الاندماج الناجح في النظام السياسي التركي ككتلة حزبية كردية، ما يبشر بمزيد من الاستقرار السياسي، تتزامن مع لحظة تاريخية خاصة، يحلم فيها رئيس الدولة بالسلطنة العثمانية الجديدة. لقد اختار أردوغان تحقيق أحلامه على حساب الاستقرار السياسي، وقدم الصراع مع الأكراد وأخَّر الحوار والتوافق. كان بإمكان حزب العدالة والتنمية أن يسيطر على الأوضاع ويحول دون تفجر المواجهات في ربوع تركيا، ولكنه فضل سياسة الدم، من أجل فبركة متغيرات جديدة على المسرح السياسي، تسمح بإزاحة الوافد الكردي الجديد (حزب الشعوب الديمقراطية). لقد أشعل الحزب الحاكم فتيل الأزمة، وأشاع مناخ الخوف والترويع، لكي يضمن الأغلبية في الانتخابات البرلمانية المبكرة. لقد نجح أردوغان وحزبه في وضع الناخب التركي أمام خيارين كليهما مر: إما الفوضى أو العدالة والتنمية،  وربما ينجح في حظر نشاط الحزب الكردي، ولكنه لن يستطيع أن يخمد النيران التي أشعلها وقتما يشاء.