المركز العربي للبحوث والدراسات : حلقة نقاشية: جماعة الإخوان .. قراءة أولية (طباعة)
حلقة نقاشية: جماعة الإخوان .. قراءة أولية
آخر تحديث: الأربعاء 11/02/2015 01:21 م د. محمود عبد الله
حلقة نقاشية: جماعة

لقد حاولت الأحزاب السياسية المصرية المختلفة أن تفرض وجودها على السياق المصري في الراهن. ولكن كل جماعة منها استخدمت آليات ساعدتها على البروز والتغلغل في النسيج الاجتماعي، بعضها حاول بالفعل، وفشلت محاولاته، أو نجحت نجاحا باهرا، أو لم يحاول وفضل البقاء في ظل قناعته أن العمل السياسي هو عمل نخبوي، لا شأن للجماهير به، وينبغي أن تظل هذه الجماهير بعيدة عن صناعة القرار السياسي.

وفي هذا الإطار، مثلت جماعة الإخوان المسلمين واحدة من الجماعات السياسية التي استطاعت أن تشكل لذاتها حضورا كبيرا في النسيج الاجتماعي المصري. فالجماعة استطاعت مع تطورها التاريخي أن تحقق تغلغلها في كافة طبقات المجتمع المصري، وفي الريف والحضر، وهو ما يطرح أسئلة محورية، كيف استطاعت الجماعة ذلك، ما السبل التي انتهجتها، وما التطورات التي مرت بها، وكيف يمكن الاستفادة من تجربة الجماعة على المدى البعيد، بالنسبة للجماعات السياسية الأخرى التي فشلت في التواصل مع المجتمع، فانقطع اتصالها بها، وبات ذلك أمرا مستحيلا؟.

هذه الأسئلة الملحة حاول الخبراء أن يطرحوا إجابات أولية حولها، بما جعل النقاش يمضي نحو دربين: الأول التطور التاريخي للجماعة في علاقتها بالنسيج الاجتماعي المصري، والثاني الأسباب ونقاط القوة التي امتلكتها الجماعة وافتقدتها القوى والجماعات السياسية الأخرى.

 موجات تطور الجماعة: نظرة أولية

لم تصل الجماعة لما وصلت إليه اعتباطا. بل صارت إليه في ضوء انتقالها من مرحلة تاريخية إلى أخرى، فرض عليها ذلك أن تغير طريقتها، وتسعى جاهدة لدمج فئات اجتماعية جديدة مع الوقت والظروف. بدأت الجماعة في موجتها الأولى في مرحلة الإنشاء بضم أبناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، الشريحة التي تضم صغار التجار والموظفين بالدولة، وغيرهم من أبناء بالطبقة البرجوازية الصغيرة. وكان هذا طبيعيا، ويتصل بانتماءات المؤسسين الاجتماعية، وطبيعة علاقتهم الاجتماعية. ثم كانت الموجة الثانية، وتشكلت من أبناء الطبقة الوسطى المدينية من المستشارين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعة، فتوسع نطاق مجال عمل الجماعة، مما يسر لها فيما بعد السيطرة على النقابات المهنية لهذه الفئة الاجتماعية الهامة. ثم جاءت الموجة الثالثة، وهي أهم الموجات على الإطلاق، بالتمدد في جميع الفئات الاجتماعية الفلاحية وأبناء الطبقة الوسطى في المدينة. ولعل حسام تمام يشير إلى هذا التحول ووصفه بأنه "تسلف الإخوان"، عانيا بذلك أن الجماعة بدأت في تصعيد عناصر جديدة داخل مكتب الإرشاد، عناصر قادمة من الريف المصري، حاملة توجها سلفيا وقطبيا، وهو ما قاد إلى سيطرة التيار القطبي على الجماعة، وترييفها على حد تعبير حسام تمام. وكان لجيل عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان الفضل سلفا في هذا التمدد الجديد، وإحياء الجماعة مرة أخرى بعد موات. ثم جاءت الموجة الرابعة بالصعود إلى الطبقة الوسطى العليا. ولعل لذلك جذوره في الحقيقة بصعود ما يسمى بالوعاظ الجدد، الذين ظهروا في الفضائيات، من أمثال عمرو خالد. هذه العناصر الجديدة على الخطاب الديني، كانت في الأصل أعضاء داخل الجماعة، لكنها خرجت منها واتجهت للعمل الدعوي داخل الصالونات. هذا الخطاب الجديد ساهم بقوة في دخول أعضاء جدد للجماعة من أبناء الطبقة الوسطى العليا. ولعل هذا قد عبر عن نفسه بوضوح في ظهور شريحة جديدة من الإنتلجنسيا المنتمية فكريا للجماعة والقادمة من الشرائح العليا للطبقة الوسطى. وربما ساعد على هذا أيضا انتقال الجماعة من التعويل على إنجاز رأسمال فكري إلى مراكمة رأس مال اقتصادي. فلقد اتسعت شبكة المال الإخوانية، واندمجت الجماعة في الصناعات الجديدة، وبالتحديد في صناعة الحاسب الآلي، التي استطاعت أن تجذب قطاعا عريضا من أبناء الطبقة الوسطى العليا، علاوة على دخول الجماعة في القطاع الخاص، وهو ما جعل السوق مستقطبا. ولعل المقام هنا يتيح الحديث عن استقطاب القطاع الطبي، أو السوق الطبي، بين مستشفيات خاصة مسيحية وأخرى إخوانية الهوى، لا تزال تعمل للآن، بل ووصل الحال إلى إنشاء معامل تحاليل وشركات أدوية إخوانية، في مقابل معامل التحاليل والشركات التي ينتمي أصحابها إلى الأقباط. هذا الإستقطاب لا يزال قائما، واستطاعت الجماعة أن تفيد منه في ضم أبناء الجماعة من أبناء الطبقة الوسطى العليا، للعمل داخل هذا القطاع الخاص، وأن تخلق تعاطفا لها لدى أبناء الطبقات الدنيا في الريف المصري بوجه خاصة.

والواقع أن تعريف حسن البنا نفسه للجماعة ينطوي هو الآخر على صياغة لتصور الجماعة عن نفسها، جماعة فوق طبقية. بمعنى أنها الجماعة الجامعة، كمقابل أيديولوجي لمفهوم الوفد للأمة، أي أن الجماعة قامت بتديين الخطاب الوفدي، وتحويل مساره، من خطاب وطني جامع إلى خطاب إسلامي جامع لجماعة المسلمين. فالجماعة بحسب مؤسسها "دعوة سلفية، وطريقة سُنية، وحقيقة صوفية"، أي جماعة تجمع السلفية والصوفية، أي جماعة جامعة للتناقضات التي يصعب تلاقيها، ما يعني اجتماعيا أنها ترغب في ألا تنحاز لطبقة بعينها، بل أن تكون هيئة سياسية عامة لكل المسلمين السنة.

حلقة نقاشية: جماعة

  آليات الانتقال والتغلغل: رؤية أشمل

تعددت الطرق التي مهدت للجماعة عملية التغلغل في النسيج الاجتماعي المصري. أولها أن الجماعة لم تستخدم في خطابها لغة طبقية، فلم يصدر عن مؤسسها في لغته أي انحياز لأي طبقة من الطبقات الاجتماعية، بما يعني أن الجماعة لم تكن يوما منحازة لفئة أو طبقة على أخرى، مما جعلها أبعد عن عداء مكونات المجتمع لها. فيما كان المنافسون لها يتوجهون نحو تحديد فئات اجتماعية ينحازون لها. ولعل أبلغ الأمثلة على ذلك هي حالة اليسار المصري الذي ظل منحازا للطبقات الاجتماعية الشعبية، مما أكسبه ذلك عداء الطبقات العليا.

الأمر الثاني هو الطابع والتكوين التنظيمي لها. فالجماعة على مستوى التكوين هي جماعة مؤسسة تأسيسا حديديا، مثلها في ذلك مثل بعض التنظيمات اليسارية القديمة، بينما كانت الأحزاب، وربما لا تزال، لا تمتلك القدرة على التنظيم المؤسسي الذي يستطيع مناقشة القرارات وتمريرها على نطاق واسع. علاوة على أن الجماعة في تشكيلها حاكت التصور الفرعوني المتأصل في الثقافة المصرية. فالتصور المصري للمجتمع هو تصور عائلي، العائلة هي صلب العالم وأصل وجوده. ولذلك يلجأ المصريون في الريف والمدينة إلى القرابة المتخيلة من أجل مواجهة الظروف. فالأبناء في القرية وضواحي المدينة يسمون أهل الجيرة بالأعمام والأخوال، وليس الأستاذ فلان أو كذا، حتى ولو كانوا من غير الأقارب. هذه القرابة الحقيقية والمتخيلة استفادت منها الجماعة وشيدت بنيتها على هيئة أسرة متضامة معا في نسيج واحد. فكان نتاج ذلك أن كانت الجماعة جماعة وراثية، لا تورث لأبنائها المال والأملاك فقط، بل والفكر السياسي للجماعة.

كذلك فإن الجماعة تلجأ في عملها إلى تطبيق مبدأ الأعضاء والتنظيم. أي أنه بمجرد بناء أسرة داخل قرية، يتم بناء نادي يجمع أبناء الجماعة المتشكلين، أي أن البناء المؤسسي مساير للعضوية، بما يخلق بنية مؤسسية محكمة.

الأمر الثالث، أن الجماعة قادرة على استعارة الأفكار من أغيارها السياسيين وتنقيتها وتغيير مسارها. فهي جماعة بلا رأس. أي جماعة غير قادرة على انتاج خطاب سياسي بديل، أو مكمل لخطاب مجاور لها في صراعها السياسي، بل هي جماعة تعيش على أفكار الآخرين، وتعيد انتاجا بصياغة دينية صرف. وقد استطاعت في الآونة الأخيرة أن تعيد استخدام مفاهيم علم السياسة الحديث مثل الديموقراطية والمواطنة والحداثة وغيرها من المفاهيم السياسية الحديثة، بملئها بمحتوي ديني، على حساب أصلها المعرفي. وهو ما ضمن لها انضمام قطاع واسع من الطبقات الاجتماعية الجديدة التي تشكلت بفعل العولمة وتغير السياق العالمي.

أما الأمر الرابع فهو أن الجماعة تستغل الدين نفسه للترويج لذاتها، سواء باستعماله بالحديث عن تطبيق الشريعة، أو التشهير بخصومها السياسيين بالقدح في ذمتهم المالية أو أخلاقيتهم. وفي مجتمع متدين بطبعه، تصبح مهمة تغلغل الجماعة ميسرة وميسورة، خاصة إذا اتهم الخصوم بالخروج على الدين، أو ان أفكارهم معادية للتدين والأخلاق، وهو ما جعل الجماعة في ممارساتها الثقافية تركز على كتابات الخصوم، وتنادي بمحاكمتها، بل ولم تتخلص من هذا الإرث حتى أثناء صدامها مع الأعضاء الذين خرجوا عن طوعها كما نجد ذلك بارزا في الذم في الشيخ أحمد السكري كمثال بارز، حين قامت الجماعة بالتشكيك فيه بالحديث عن علاقته بالإنجليز، هذا بعد أن خرج الرجل من الجماعة ونشر مقالا في جريدة الوفد، يشرح فيها ملابسات خلافه مع حسن البنا، وهو خلافه الشهير الذي نشب إثر واقعة التحقيق مع زوج أخت البنا.

والأمر الخامس والأهم هو امتلاك الجماعة للقدرة على التواصل مع الجماهير باللغة التي تحلو لهم. فعلى غير النخب السياسية المصرية، سواء كانت ليبرالية أو يسارية، لم تستخدم الجماعة اللغة العلمية، باصطلاحتها النخبوية التي يعرفها المتعلمون، بل استخدمت لغة يومية خالية من التحيزات، وقادرة على اجتذاب قطاع عريض من المتلقين لها، ما جعلها تبدو في عيون أنصارها لغة غير متعالمة أو نخبوية، او متعالية. بينما كان اليسار بمختلف أطيافه غير قادر على التغلغل بين الجماهير بسبب من ضعف قدرته على ترجمة أفكاره بلغة شعبية ملائمة للجمهور المستهدف، علاوة على أنه لم يستطع التخلي عن الصدام مع التراث الديني المستقر في وجدان متلقيه. أي أن عدم الصدام مع ما استقر في وجدان الجماهير، واحترام لغتهم، والرغبة في التواصل الحقيقي معها، هو ما تسبب بالفعل في مساعدة الجماعة على اكتساب جماهيرية واسعة.

ولعل هذا السبب الأخير هو ما جعل عددا من مفكري التيار الليبرالي المصري يتجهون في فترة من فترات التاريخ المصري نحو الكتابة في التراث الإسلامي، أو ما اصطلح عليه بالكتابة الإسلامية. ورغم ما قدمه المؤلفون أنفسهم من تبريرات، تعول على التأثر ببعض الكتاب الغربيين، إلا أن الواضح أن البساط قد انسحب من تحت أقدام حزب الأحرار الدستوريين، مما حدا بمفكريه نحو التراث الإسلامي، فأنتج محمد هيكل "في منزل الوحي"، و" الفاروق عمر"، كما أنتج طه حسين "على هامش السيرة"، و"الفتنة الكبرى"، و"الوعد الحق"، كما ألف العقاد مؤلفاته الإسلامية العديدة، وكان أشهرها العبقريات. ما يعني أن هؤلاء المفكرين تحولوا للكتابة في الإسلاميات، ليس فقط تأثرا ببعض الكتاب العالميين، كما حاول أن يصور طه حسين، بل هو نتاج طبيعي للرغبة في جذب قطاع عريض من الجماهير. ناهيك عن أن الجماعة تمتلك ما لا تمتلكه غيرها من الجماعات السياسية، وهو رأس المال الكبير، والمسجد، وكلاهما قوتان كبيرتان. فالمسجد على سبيل المثال، مكان التقاء واسع الانتشار، موجود بكل بقعة في البلاد، ويمكن التلاقي فيه والتدارس وتبادل الأفكار بين أفراده، بينما لا تستطيع القوى السياسية أن تمتلك أمكنة بديلة لها قوة المسجد في التأثير، عبر الامتداد عبر المكان، أو في الأثر الروحي في المترددين عليه.