المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الإعلام الساخر(2): من يعقوب صنّوع إلى أحمد رجب وباسم يوسف

الأحد 04/مايو/2014 - 11:10 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان

        تهتم الكتابة الساخرة بالنقد الاجتماعي اللاذع القائم على السخرية من الأوضاع السلبية في المجتمع، وتهدف إلى الكشف عن العيوب والسلبيات وإبرازها وتضخيمها ونقدها بقسوة0 ويرى البعض أن الكتابة الساخرة أكثر دلالة علينا وعلى نفسيتنا من كثير من الأدب الفصيح، وأن مصر وشعبها ممثلان فى هذا الأدب الضاحك بأكثر وأقوى مما في الأدب الفصيح الخالي غالبًا من الضحك والهزل، لسبب بسيط، وهو أنه ينبع من صميم الشعب وينطق عن روْحه ومزاجه بدون أي تصنع أو تكلف0

  ويشير الناقد إبراهيم فتحي، إلى أنه لا يوجد تضاد بين السخرية والجدية، فالسخرية تواجه الجدية المتصلبة الجامدة وتقدم وجهة نظر عميقة وليست مجرد عبث طائش أو خِفة مرحة. ويرى د. ماهر شفيق فريد، أن السخرية تقع على نقطة ما بين مَلَكتيْن تقتربان منهما أحيانًا وتبتعدان أحيانًا أخرى: الفكاهة من ناحية والهجاء من ناحية أخرى. وتشغل ملكة السخرية موقعًا متوسطًا بين هذين الأمرين، مع زيادة هنا أو نقص هناك ، فهي أشد ضراوة من الفكاهة الأنيسة، وهى أقل مباشرة من الهجاء الصريح.

والسخرية نوع من التأليف الأدبي يقوم على أساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائص الإنسانية، أو التقليل من قدرها أو جعلها مثيرة للضحك بهدف التخلص من الخصال والخصائص السلبية. والسخرية قد توجه نحو الشخص وليس صفاته. والسخرية شكل من أكثر أشكال الفكاهة أهميتها وهدفها مهاجمة الوضع الراهن في الأخلاق والسياسة والسلوك والتفكير، الذي يكون عادة مُحَصّلة لممارسات عدة خاطئة سابقة، مما ينذر بأخطار ينبغي التحذير منها. ويكون الفن الساخر إحدى علامات هذا التحذير، كما قد يكون شكلاً من أشكال المقاومة. ومن الممكن النظر إلى السخرية على أنها أسلوب عام للتفكه يفيد من كثير من الأساليب الأخرى مثل المبالغة والإهانة والتهكم والاستهزاء وغيرها.

ويرى د. شاكر عبد الحميد، أن الفكاهة تشكل المفهوم العام أو الظاهرة العامة للسخرية، وتشتمل على الضحك والابتسام والتهكم والتورية والدعابة والنكتة والمفارقة والكاريكاتور والحماقة والكوميديا وغيرها من المظاهر الدالة على الفكاهة.

تنهل الكتابة الساخرة في مصر من موروث شعبي شديد الثراء والتنوع، وتوجه سهامها إلى السلبيات وتضع نفسها فوق موضوع السخرية وفي تضاد معه، وتستخدم تقنيات عديدة من أهمها ما يلي:

تنهل الكتابة الساخرة في مصر من موروث شعبي شديد الثراء والتنوع، وتوجه سهامها إلى السلبيات وتضع نفسها فوق موضوع السخرية وفي تضاد معه

-  الألقاب والكنايات الهازئة، وتلك التقنية تحرر من الخوف المتراكم ومن الرقيب الداخلي والخارجي، وتسقط الأغلال الثقيلة عن الذهن، وهي بمثابة تعليق مؤقت للنظام الرسمي بحواجزه لبرهة قصيرة.

-  التصوير الكاريكاتوري ويبرز بروزًا شديدًا في الكتابة الساخرة، حيث المبالغة في تضخيم بعض السمات السلبية الواضحة، وقد يقتصر الأمر على سمة واحدة، دون حرص على التوازن في التشابه بين الأصل والتشويه المتعمّد للسمة البارزة، وتتحول الشخصية بذلك إلى نمط نموذجي أو إلى قالب يشبه الدمية.

-  المحاكاة الساخرة بمعارضة قصائد رصينة وإنزالها من مرتبتها السامية إلى لغة الحياة العادية، أو محاكاة نماذج معينة من الكتابة والكلام عند بعض أدعياء السياسة والثقافة، أو المحاكاة الساخرة لأسلوب الحكاية الشعبية.

-  السخرية الدرامية بكل أشكالها التي تجسد المفارقات في مواقف حافلة بالتناقض، وتفاجئ الشخصيات التي تسخر منها في حالة تلبس، وتستدرج القارئ من مسلمات تبدو راسخة إلى اتجاه معاكس، وقد تنتهي بنظرة نقدية شاملة.

أولا- يعقوب صنّوع إمام الساخرين في مصر

   بدأت الصحافة الساخرة في مصر في الخامسِ والعشرين من مارس عام 1878، لتكون البداية لانطلاق لون خاص في الصحافة المصرية أطلق عليه "الصحافة الساخرة" وذلك على يدي يعقوب صنوع، وكانت هذه هي السطور الأولى التي خطت بصحيفته "أبي نظارة زرقاء" إلى هذا المجال الجديد:

 "إنه كما كان لكل مائدة فاكهة تخفف ثقل الأغذية، كذلك لابد لموائد العقول من فاكهة تخفف عن العقل أتعاب.. فأهل أوطاننا وإن كانوا نالوا من العلوم والمعارف ما قد نالوه، إلا أنهم فقدوا فاكهة تسليتهم عند كلال عقولهم وتعبها، فمن أجل هذا رأينا أن ننشر جرنالاً يشتمل على ذكر الوقائع بوجه يزيل عن النفوس بؤسها, ويريحها من أتعاب إحساساتها، على أنه ليس الغرض منه مجرد الضحك, بل الاشتمال على الحكم والمواعظ الحسنة".

وهذا اللون من الصحافة السخرة أجمع الباحثون والمختصون على أن له مكانته المتميزة و المؤثرة، لما يتركه من أثر فاعل على المتلقي، قارئًا مهتمًا، أو مختصًا أو متابعًا عابرًا. تكمن مفاتيحه من المصاهرة والملاقحة بين الواقع والحلم عبر تقديم أفكار فانتازية لا تخرج عن الواقع مرة والحلم أخرى، حيث اتسم هذا النوع من الصحافة بالنقد الساخر اللاذع، فكانت مقالاته ورسومه الكاريكاتورية، السلاح الذي رُفِع بوجه الظواهر السلبية، وساهمت في التصدي لكل ما هو فاسد بأسلوب ناقد ساخر جريء، على الرغم من الظروف التي أحاطت به والقيود التي فرضتها قوانين المطبوعات أو تعليمات السلطات، فلم تترك الصحافة الساخرة مجالاً دون أن تنفذ إليه وتمارس دورها كرقيب شعبي يرصد الأخطاء ويفضح المفاسد ويعرِّي المفسدين, كما كان لها دور في ترسيخ مبادئ صحفية أثمرت عن مكافحة الكثير من الأمراض السياسية والاجتماعية وغيرها التي نخرت في جسد البلاد وأحدثت خللاً في منظوماته القيمية والمعرفية.

      كان ظهور هذا اللون الساخر في بادئ الأمر في الصحافة الغربية انطلاقًا من رؤيتها لدور رسّامي الكاريكاتور في الصحافة، وبعد أن تبين الأثر البالغ الذي تتركه النكتة أو المفارقة في الرسالة الإعلامية من خلال تلك الرسوم، كان لذلك دور كبير في تحويل ذلك الرسم الساخر إلى كتابات ساخرة تمس مختلف السياسات في الدولة الواحدة، وتلامس تحركات السلطة في جميع الاتجاهات، ثم حاولت الصحافة العربية تقليدها والتأثر بها, فولدت الصحافة الساخرة في المنطقة العربية، بميلاد الصحافة الساخرة في مصر، والتي تميزت، بالنقد اللاذع البارع الذي أبدعه (يعقوب صنّوع) في جريدته (أبي نظارة زرقاء) كلامًا ورسمًا، والذي وصف بأنه "سيد الساخرين" في العصر الحديث.

     ظهرت إبداعات صنّوع الساخرة بدايةً في المسرح حيث أرخ معاصرو مسرحه أنه أول من أسس المسرح العربي وجعله منبرًا ليعبر به عما يختلج في أعماق نفسه من انفعالات، فأضحك الناس حين طرب قلبه, وأبكاهم حين سالت دموعه الصادقة على وجنتيه, وكانت ملاحظاته لاذعة وبعض مرحه ساخرًا, وكانت حين تنبض نفسه بالألم لما يراه مسرحه من حياة مواطنيه البائسين الشاكين, يتقمص في جسمه جنس مسرحه العربي, ليعلن عن مواطنيه ويمثلهم, ويحكي آمالهم وآلامهم, حتى رأت الحكومة أن ضحكاته مثيرة للخواطر، ودموعه مهيّجة للأفكار, خاصةً بعد أن قدم مسرحية (الوطن والحرية) التي أثارت غضب الخديو إسماعيل لأنه سخر فيها من فساد القصر, فأغلق مسرحه.

      ظنت الحكومة أنها بإغلاق مسرح صنوع حبست لسانه من أن ينطلق على خشبة المسرح، ولكنها أغفلت أن له قلمًا سوف يطلقه على مسرح الحياة بعد أن أسس جريدته (أبي نظارة زرقاء) التي استكمل فيها إبداعاته الساخرة، فكانت أول صحيفة في الوطن العربي تتسم بهذا الطابع، واتخذها منبرًا لمحاربة الفساد الذي تفشّى في عصر إسماعيل والتدخلات الأجنبية, مما خلق روحًا ثورية تسببت في إغلاق صحيفته ونفيه إلى فرنسا في 22 من يونيو1878، ولكنه عندما وصل إلى باريس مضى في طريق إصدار الصحيفة التي ساندت الحركة الوطنية، وحاربت الفساد والاحتلال البريطاني، واستطاع أن يوصلها إلى مصر ولكنها كثيرًا ما أُعدمت قبل دخولها فاضطر إلى تغيير اسمها عدة مرات ليضمن دخولها،  فأطلق عليها رحلة أبو نظارة في 7 من أغسطس 1878، ثم عادت إلى أبو نظارة زرقا في 21 من مارس 1879, فالنظارات المصرية 16 من سبتمبر1879, ثم أبو صفارة 4من يونيو1880, وأبو زمارة 17 من يوليو1880, فالحاوي 5 من فبراير1881, وأبو نظارة 3 من يناير1882, ثم أبو نظارة زرقا 19 من يناير1883, والوطني المصري29 من سبتمبر1883, وأخيرًا أبو نظارة 10 من يناير1885، واستمر هذا المسمّى حتى صدور آخر عدد منها في ديسمبر 1910. 

أن صحف يعقوب صنوع الساخرة كانت الحجر الأول الذي أسس اللون الساخر الناقد في الصحافة المصرية والعربية على حدٍّ سواء

     ورغم ما أجمع عليه الباحثون، وأكدته غالبية الدراسات بأنه رائد المسرح العربي، فإن دراسة سيد علي إسماعيل "محاكمة مسرح يعقوب صنوع" شككت في مسرحه، وأكدت أنه لم يكن مسرحًا وإنما كان عروض قراقوز تنتقد الأوضاع التي عايشها الجمهور وقتها من اضطهاد وفساد بأسلوب ساخر لاذع يمس الحكومة والقصر ليجذب الجماهير له، واستشهد في ذلك بمقالة (ستاردي ريفيو)  Saturday Review)) المنشورة في ٢٦من يوليو 1876, ولم يتوقف إسماعيل عند ذلك، بل شكك في نزاهة ما قدمته جريدته من انتقادات لفساد القصر والحكومة ومساندة لمعارضيها من رموز الحركة الوطنية، حيث رأى أن صنّوع توقف عن تقديم عروض القراقوز بعد أن عرض عليه الأمير محمد عبد الحليم أن يموّل جريدة يترأس صنّوع تحريرها تهاجم الخديو إسماعيل وتوفيق من بعده، وتروج لحق الأمير حليم في عرش مصر, و رأى إسماعيل أنه لم يَصدُر قرارٌ بوقف جريدة أبو نظارة زرقا عن الصدور في مصر ونفي صنوع إلى باريس، بل كان ذلك بالاتفاق مع الأمير حليم، فصنّوع سافر بمحض إرادته إلى فرنسا لتكون مقر جريدته المناهضة لإسماعيل وتوفيق، خوفًا من بطش الخديو إسماعيل الذي نفى الأمير حليم إلى إسطنبول بعد مطالبته بالعرش.

    وأيًا كان الأمر، فإن الصحافة الساخرة قدمت لجمهورها سلاحًا ورقيبًا شعبيًّا يرصد الأخطاء ويفضح المفاسد ويحارب المحتل منذ نشأتها وحتى اليوم، ولا شك أن صحف يعقوب صنوع الساخرة كانت الحجر الأول الذي أسس اللون الساخر الناقد في الصحافة المصرية والعربية على حدٍّ سواء، ومما يُحسب لصحف صنوع الساخرة الدور الذي قدمته للحركة الوطنية سواء كان ذلك بدافع وطني أم لأغراض شخصية.

 

ثانيا- أحمد رجب: السخرية في نصف كلمة

  كاتب ساخر من مواليد الإسكندرية عام 1928، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية عام 1951، عمل محررًا بمؤسسة أخبار اليوم اعتبارًا من عام 1952، تولى في شبابه منصب رئيس تحرير مجلة الجيل عام 1954، كما تولى نائب رئيس تحرير "المصور" مع مصطفى أمين وعلي أمين عام 1962، ثم مديرًا لتحرير مجلة "هي" عام 1964.

وهو كاتب عمود "نصف كلمة" بجريدة الأخبار اعتبارًا من 10 من يوليو 1968، وقد اختير عضوًا بمجلس الشورى في 29 من يونيو1981. حصل على جائزة نقابة الصحفيين التقديرية في 10 يونيو عام 2001، وهي أرفع جوائز نقابة الصحفيين، وجاء في حيثيات منحة الجائزة : تقديرًا لتاريخه الصحفى وإسهاماته الفكرية من خلال كتاباته النقدية التي تناولَ فيها قضايا الوطن بجرأة واقتدار وأسلوب متفرّد، ولإسهامه البارز في الدفاع عن حرية الصحافة، كما حصل على جائزة مبارك في الأدب هو ورفيق دربه رسام الكاريكاتور مصطفى حسين في عامين متتاليين.

يجيد أحمد رجب قراءة الواقع الاجتماعي ونقده والسخرية منه، وسخرية أحمد رجب فيها تأمل وحزن، وتستمد مقوماتها من روح ساخرة وموهبة نادرة وثقافة عريضة وإسناد إلى تراث طويل للشعب المصري، وهو جزء أصيل من الوعي المصري والعربي، وكتاباته الواخزة المحمّلة بالحكمة والرؤية تبدو وكأنها مواد دستور صاغها الضمير الجمعي لشعب عريق تجسّد في شخصية كتابته الذي يحمل سماته، وتكشف كتاباته عن الألم والقدرة على التأمل والنفاد إلى ما وراء الأشياء.

وأحمد رجب كاتب معتزل، لا يحرص على الظهور في وسائل الإعلام، وهو قارئ من الطراز الأول، متابع دقيق ومستوعب للاتجاهات الحديثة يوجه موهبته ضد الفساد وللدفاع عن حرية التعبير وأشواق الإنسان.

أصبح أحمد رجب بكتاباته المصري الفصيح الذي يعبر عن رجل الشارع والمحامي الذي يدافع عن البسطاء والفقراء، وكتاباته تنطلق كالرصاص لا تحيد عن هدفها، الحقيقة المجردة من المصلحة والغرض.

ويرى الكاتب الصحفي "أنيس منصور" أن أحمد رجب أكبر ساخر في الصحافة العربية، يستخرج النكتة من أنياب الأسد، وأنه جعل من رئيس الوزراء والوزراء أضحوكة يومية، والهدف عنده هو الإصلاح، ويرى الصحفي "وائل عبد الفتاح"  أن أحمد رجب ينتقم كل يوم من الحكومة، ويشهّر بها كما يحدث في القرى والحواري مع الخارجين على القانون.

وكان الكاتب "خيري شلبي" يرى أن أحمد رجب من نتاج الصحافة الفكاهية المصرية، التي تألقت في مصر في أوساط القرن الماضي، وأن في كتاباته تتذوق رحيق المزاج المصري بثقافته الرسمية والشعبية، الشارع والمدرسة والمقهى والكتّاب وعاطفة الدهاء وحكمة الفلاسفة والمفكرين.

تجتمع في أحمد رجب كل فئات المجتمع المصري ومهنه، كل هؤلاء في قلب أحمد رجب وعقله، يفكر مثلهم ويفكر بهم ولهم كأنهم هو وكأنه هم. لقد تجسّد الرواد الأوائل كلهم في أحمد رجب؛ في نظرات عينيه الضيقتين نرى بيرم التونسي وبديع خيري وعزت المفتي وأبو بثينة والحاج فكري وأبو فراج، في فكّيْه المسحوبتين وذقنه الشيْبة، نرى فيه عبد الحميد الديب، شاعر البؤس ضحية الزمن الوغد، وعبد اللـه النديم المنفيّ في عقر داره يناضل بالتنكيت والتبكيت، وفي خديه وأنفه وجبهته نرى الكثيرين من أبناء الحارة والزقاق والعطفة والدرب، ممن تألقت مواهبهم في الصحافة.

سخرية أحمد رجب فيها تأمل وحزن، وتستمد مقوماتها من روح ساخرة وموهبة نادرة وثقافة عريضة وإسناد إلى تراث طويل للشعب المصري، وهو جزء أصيل من الوعي المصري والعربي

أسهمت في تشكيل شخصية أحمد رجب وتكوينها الفني والثقافي والسياسي مواهب تستطيع أن تراها فيه رأي العين وتتعرف عليها بالاسم: مأمــون  الشناوي، فتحي قورة، أمين صدقي، أبو السعود الإبياري، عبد السلام شهاب، حسين شفيق المصري، سيد عقل، محمود الكمشوشي، حلمي الساعي، فكري أباظة، جليل البنداري، عبد اللـه أحمد عبد اللـه، حسين غباشي، أحمد الأطمس وغيرهم، ولا شك أنه قد تأثر كذلك بالذين لا يكبرونه في العمر كثيرًا أو قليلاً من أمثال؛ محمد عفيفي، محمود السعدني، صلاح جاهين، لكن التأثير الحقيقى الفاعل من الوجهة الفنية، في أحمد رجب، يرجع بالدرجة الأولى إلى أبيه الشرعى في الصحافة الفكاهية الشاعر مأمون الشناوي، الذي أصدر مجلته الشهيرة "كلمة ونص" في حجم كف اليد، واستخدمت فنون الصحافة بتكثيف وعمق، بصياغة فنية مستمدة من الموهبة والرؤية والنفاذ والبلاغة لتتواءم مع سرعة إيقاع العصر والقارئ المهموم، ليس بهدف الإضحاك أو التسلية، إنما الهدف الحقيقي أن يحقن القارئ بنكتة؛ بومضة مشرقة تضحكه ثم تنعش ذهنه ووطنيته0"أحمد رجب" هو أنجب أبناء مدرسة مأمون الشناوي الصحفية، إلا أنه تفوق على أستاذه وأصبح مدرسة قائمة بذاتها في الصحافة العربية المعاصرة.

يكتب أحمد رجب عموده اليومي القصير "نصف كلمة" في جريدة الأخبار، كما كان يكتب "الفهامة" أسبوعيًّا في جريدة "أخبار اليوم" والتي حوّلها أيضًا إلى "نصف كلمة" وكلماته القليلة لاذعة، حادة ثاقبة، كثيرون من القرّاء يقصدونها مباشرة قبل أن يطالعوا الصفحة الأولى، جرعة مركّزة من السخرية الحادة، من وضع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، محلي جدًّا أو عربي أو عالمي، من خلالها ابتكر قاموسه الخاص ومصطلحاته، بدءًا من دولة إسبرطة القديمة إلى وزير الدندرمة.

وتشكل كتاباته في مجموعها، إذا ما طالعناها عبر الأرشيف منذ أن بدأ كتابتها، تاريخًا فريدًا لمصر خلال العقود المنقضية، وتُشكل سجلاً خاصًّا جدًّا لم نعرف مثله من قبل في أدبنا القديم أو الحديث، إنه الأدب الذي يبدعه أحمد رجب، ورغم الظاهر الساخر الذي يجعلنا نبتسم، فإنها تفيض بالأسى المصري القديم، وأحيانًا الحزن؛ الحزن مما تصير إليه الأمور، هذا الحزن الخاص هو الوجه الآخر للسخرية.

يؤرق أحمد رجب ما يتجاوز حدوده الضئيلة إلى ما هو أشمل، ما يتخطى همومه الخاصة، إلى الهم الإنساني العام، حيث يحوّل أساه إلى سخرية حادة،
والسخرية هي الوجه الآخر من الحزن والوجد والاكتئاب، لهذا يبدو أحمد رجب صامتًا، موغلاً إلى داخله، أكثر مما يسعى إلى الخارج، لذلك تبدو سخرية أحمد رجب ثاقبة تثير فينا التأمل، تحرّضنا، لا تنتهي مع إطلاقها مثل القفشة، بل تظل ماثلة داخلنا، ويرجع ذلك إلى ثقافته ورؤيته الفريدتين اللتين يكتسبهما من القراءة النهمة في شتى فروع المعرفة، والإبداعات الأدبية والفنية والسياسية، لذلك تساند كتاباته رؤية عميقة بعيدة المدى، كما أنه دائم التأمل في الأحوال على مختلف مستوياتها، وكتاباته التي تبدو سهلة وراءها معاناة في الكتابة.

                                           

ثالثا- باسم يوسف: نظرية السخرية ..

يمثل باسم يوسف في حد ذاته ظاهرة تستحق الدراسة في السخرية من محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين, لدرجة أن الشعب المصري كان ينتظر برنامجه مساء كل جمعة ليضحك على هذه الجماعة التي تستحق الرثاء من أدائها البائس, وكان نشطاء شبكات التواصل الاجتماعي يقولون إن مرسي يؤخر خطاباته إلى نهاية الأسبوع لتفويت الفرصة على باسم يوسف من السخرية منه, إلا أن باسم كان أحيانًا ما يؤجل تسجيل حلقة برنامجه إلى مساء الخميس بدلا من مساء الأربعاء للتعليق الساخر على خطابات مرسي الهزلية. وفي أول ظهور له بعد التحقيق معه، واصل الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف سخريته من سياسات الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، وذلك بعد أقل من أسبوع من خضوعه للتحقيق أمام النيابة العامة بتهم تتعلق بإهانة الرئيس وازدراء الدين الإسلامي. وأخلت النيابة العامة في مصر سبيل باسم يوسف بكفالة مالية بعد ساعات من التحقيق معه بتهمتي إهانة الإسلام "لسخريته من شعائر الصلاة" في برنامجه وإهانة الرئيس مرسي "بالسخرية من صورته في الخارج".

تقوم نظرية السخرية على الاستهزاء برموز الدولة الوطنية والدينية والعسكرية والمدنية باستغلال ميل الشعب المصري بطبيعته إلى السخرية، مما وجد على جدران المعابد وما هو مرسوم على البرديات الفرعونية القديمة التي كان يسخر فيها المصريون القدامى من أعدائهم، فيظهرونهم غايةً في الضعف والهزال وذوي شعر طويل يجعلهم أقرب للنساء منهم إلى الرجال، ويظهر القادة العسكريون المصريون غايةً في القوة وهم يمسكونهم من شعرهم في مشهد يُعد استعراضًا للقوة بامتياز.

 قد يكون هذا مقبولاً كسلاح ساخر ضد أعداء الدولة المصرية أيًّا كانوا سواء كانوا من الهكسوس أم التتار أم المغول أو الصليبيين أو غيرهم على مر الزمان، وقد يكون هذا سلاحًا فاعلا ضد جماعة الإخوان المسلمين إبان حكم الرئيس المعزول مرسي ومكتب الإرشاد الذين أثبتوا أن ولاء الجماعة ليس لمصر بل لتنظيم دولي لا نعلم عنه شيئًا، والذين أثبتوا عداءهم الشديد لهذا الشعب الذي انتخبهم وأوصلهم بأكثرية إلى مجلس الشعب، وأوصل مرسيّهم إلى سُدة الحكم في مصر، والآن هم يذيقون هذا الشعب الويل والثبور عقابًا له على ثورته عليهم.

 ولكن من غير المقبول السخرية ممن ساندوا الثورة المصرية الثانية التي اندلعت في 30 يونيو الماضي، ويبدأ الأمر بالسخرية من رموز الدولة المصرية، ليستخف الناس بهم، ثم يستهزئون بأفعالهم، ثم تسقط هيبتهم، ثم يتم اغتيالهم معنويا، ولا سيما أن هذا لا يتم بمعزل عن ميليشيات إلكترونية إخوانية ممولة تعمد إلى بث سمومها على الإنترنت في المنتديات والمدونات وشبكات التواصل الاجتماعي. وتهدف هذه الجهود كافة إلى إسقاط الدولة المصرية وليس نظام الحكم في مصر، وهو تكرار ممسوخ من تجربة إسقاط نظام مرسي والإخوان.

يقول باسم أو صديقه الصدوق الأمريكي جون ستيوارت: إن النظام الذي لا يتحمل السخرية لا يستحق أن يستمر، وهى قولة حقُ يُراد به باطل

لقد كان المصريون يصفقون لباسم يوسف وبرنامجه الساخر عندما كان يسخر من مرسي وطغمة الإخوان الحاكمة التي ملأت الأرض ظلمًا وفسادًا وفشلاً وتفريطًا في تراب هذا الوطن، لأن سخرية صاحب "البرنامج" كانت توافق اتجاهات الرأي العام المصري الذي اتخذ من هذه السخرية وقودًا للثورة على النظام الإخواني الذي كان يحكم مصر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، ويجب أن يجيب عنه باسم يوسف: لماذا السخرية من النظام الحالي ؟ ولماذا الآن؟

 لقد انقطع باسم يوسف شهورًا عن تقديم برنامجه بعد ثورة 30 يونيو بحجة عدم مناسبة الظروف لتقديم البرنامج، والسؤال الذي ينبغي توجيهه له: وهل الظروف التي يمر بها الوطن وسط العواصف والأنواء والإرهاب والانفلات الأمني، ووسط المؤمرات الخارجية التي تُحاك لمصر، مناسبة لتقديم برنامج للسخرية من كل الرموز التي تحاول أن تقود سفينة الوطن وسط كل هذه الأمواج المتلاطمة؟

 وقد يقول باسم أو صديقه الصدوق الأمريكي جون ستيوارت: إن النظام الذي لا يتحمل السخرية لا يستحق أن يستمر، وهى قولة حقُ يُراد به باطل؛ لأن النظام المُشار له في هذه المقولة يجب أن يكون مستقرًا، تدعمه مؤسسات منتخبة ويتمتع بدستور منذ سنوات بعيدة ينظم العلاقة بين السلطات ويمنح الشعب حقوقًا مستقرة، وهو ما يمكن أن ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية، أما بالنسبة لمصر فالأوضاع مختلفة غاية الاختلاف؛ فنحن بالكاد كتبنا دستورًا، ولا نزال نتلمّس طريقنا نحو المستقبل، ونسعى لانتخاب رئيسِ للبلاد، ونطمح إلى انتخاب برلمان جديد، وبالتالي ليس هذا وقت السخرية، بل وقت البناء وتقديم يد المساعدة لمن نسخر منهم حتى نبني هذا الوطن بدلاً من محاولة تقويض أركانه.

إن "البرنامج" لم يعد يُضحِك المصريين, وإذا كان باسم يوسف يُفاخر بأن عدد المشتركين في صفحة "البرنامج" على اليوتيوب قد وصل إلى مليون، فيجب أن يكون على يقين أن ملايين المصريين لهم رأي آخر في "البرنامج"، وهو رأي قد لا يعجبه، ولكنه الرأي الصواب، لأن المصريين أصبحوا أكثر وعيًا وإدراكًا لما يدور حولهم.

 إن أكثر الناس سعادة بالبرنامج الآن هم الإخوان ومَن والاهم، وهم الوحيدون الذين يرددون مقولات باسم يوسف، اعتقادًا منهم أنه سيُحرك الشارع هو وصاحبته اللعوب التي أطلق عليها اسم "جماهير" لقلب نظام الحكم، مثلما فعل بهم وبمرسيّهم .. ولكن هيهات أن يحدث ذلك، فالجماهير المصرية لها صوت ومواقف ومبادئ لن تحيد عنها ولن تتراجع، جماهير حقيقية تساند من يريد أن يبني هذا الوطن، وليست "جماهير" التي تسكن مُخيلة كاتب برنامج ساخر كان جيدًا عندما كان يصب في مصلحة الوطن، وصار رديئًا عندما أصبح يصب في صالح أعداء الوطن.

عمومًا، فقد أصاب باسم يوسف باتخاذ قراره بوقف برنامجه بدايةً من الجمعة 25 من أبريل 2014، حتى تستقر البلاد ويصبح لها رئيسٌ وبرلمان.

 

المصادر والمراجع

-          ثروت فتحي كامل  (2012). الكتابة الصحفية الساخرة في جريدة أخبار اليوم :أحمد رجب نموذجًا، (جامعة المنيا: كلية الآداب، مجلة العلوم الإنسانية، يناير/ مارس).

-          ريهام عبده إبراهيم (2013). دور الصحافة الساخرة في الحركة الوطنية المصرية (1878-1910): دراسة تطبيقية على صحف يعقوب صنّوع)، خطة رسالة ماجستير، غير منشورة، (جامعة القاهرة: كلية الإعلام).

-          شريف درويش اللبان (2014). المهاجرون إلى الإنترنت والمحبوسون فيه: توظيف جماعة الإخوان المسلمين لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة، (القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات، مؤتمر مستقبل حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، 28-30 يناير).

-          شريف درويش اللبان (2014). نظرية السخرية وإسقاط الدولة المصرية، البوابة نيوز، 12 من مارس 2014، متاح على

http://www.albawabhnews.com/454581

لا يوجد تضاد بين السخرية والجدية، فالسخرية تواجه الجدية المتصلبة الجامدة وتقدم وجهة نظر عميقة وليست مجرد عبث طائش أو خِفة مرحة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟