المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
أ.د/ شذى زكي حسن
أ.د/ شذى زكي حسن

دوافع وأهداف الحرب الروسية على أوكرانيا

الإثنين 08/مايو/2023 - 08:04 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

مقدمة

منذ تسعينيات القرن الماضي شهدت العلاقات بين روسيا وأوكرانيا أزمات متتالية حول عدة ملفات، بعضها كان نتاجاً طبيعياً لتفكك الاتحاد السوفياتي السابق وكانت تتم معالجته بين الدولتين. لكن الأهم والأخطر كان للمتغير الخارجي دورا مؤثر  بالتصعيد ممثلا بالسعي الغربي وتحديداً الأميركي لضم من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومنها أوكرانيا وجورجيا في توسيع حلف شمال الاطلسي شرقاً  لتطويق روسيا الاتحادية ورغبتها في العودة للريادة العالمية .

فالملفات الخلافية الثلاثة الأساسية  بين روسيا وأوكرانيا وهي الانضمام إلى حلف شمال الاطلسي والشراكة مع الأوروبي وامتلاك  السلاح النووي، كانت الأخطر والتي تم التمهيد لها منذ عام 2014 بازمات  إقليم الدونباس وإعلان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك استقلالهما، واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم. فكانت هذه الازمات سببا لاندلاع الحرب في شباط 2022.

الأهمية:- تبرز اهمية البحث في توضيح خطوط المواجهة المفتوحة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة على مستويات اقليمية وعالمية ومنها الحرب الاخيرة على أوكرانيا التي تمثل الحديقة الخلفية لروسيا الاتحادية وبؤرة تطورها الجيوسياسية  والتي تعد قلب الارض بالنسبة للولايات المتحدة، وذلك في إطار توزيع النفوذ العالمي والرغبة في تغيير هيكلية النظام الدولي.

الفرضية:- تمثل أوكرانيا مجالا حيويا لروسيا الاتحادية ولامبراطوريتها الاوراسية، فبدون أوكرانيا لايمكن لروسيا التوسع غربا نحوأوروبا حيث كانت أوكرانيا ومازالت محور ارتكاز جيوبولتيكي للمصالح القومية الروسية، وتعد روسيا إن انضمام أوكرانيا المحتمل إلى حلف شمال الاطلسي  يهدد أمنها القومي هومادفع الرئيس بوتين الى اتباع سياسة المواجهة والتي انتهت بالحرب .

الاشكالية:-  تنامي دور روسيا العالمي في مواجهة الدور والمكانة للولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وذلك بالتعاون مع الشركاء مثل الصين وايران تجعل العالم يقف امام مرحلة انتقالية يتحول  فيها النظام العالمي الى التعددية القطبية من خلال تنافس مشروعان، الاول يتمثل بمشروع القوى الساعية لإقامة التعددية القطبية والمتمثلة بمحور موسكو- بكين من جهة اما القطب الثاني فيتمثل بقوى الوضع الراهن التي تسعى الى الحفاظ على النظام العالمي الاحادي القطبية  وهذا القطب بقيادة الولايات المتحدة وعدد من شركائها الاوروبيين فضلا عن اليابان، حيث يحتدم التنافس بين هذين القطبين على امل تحقيق السيادة العالمية. فهل سيكون هذا المشروع مرتبط بمآلات الحرب الروسية على أوكرانيا؟ وماهومستقبل هذه الحرب، فهل ستشهد "صراعا طويل الأمد" أم تسوية قسرية أم "انهيارا روسيا يؤدي إلى هزيمة شاملة"؟ وهل يفضي الصراع إلى توسيع نطاق المواجهة، سواء في مسرحها الأوروبي أوخارج أوروبا؟

وفي ضوء ما تقدم سيتم تقسيم البحث وفق الهيكلية الاتية :-

أولاً- دوافع الحرب الروسية – الأوكرانية

 لفهم الدوافع الروسية في الحرب على أوكرانيا لابد من معرفة المكانة التي تحظى بها أوكرانيا لدى صانع القرار الروسي فهي تتمتع بأهمية ذات ابعاد استراتيجية واقتصادية وحتى ثقافية بالنسبة لروسيا، ومن هنا كان للحرب الاخيرة دوافع وجذور تمثلت بـ(1):

 الدافع السياسي :- في كانون الأول عام 1991، كانت أوكرانيا بالإضافة إلى روسيا وبيلاروسيا، من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفييتي، وواصلت الدولتان المنفصلتان الاحتفاظ بعلاقات وثيقة.  واتفقتا على سير علاقات ودية  مع موافقة  أوكرانيا عام 1994 التخلي عن ترسانتها النووية والتوقيع على مذكرة بودابست بشأن الضمانات الأمنية بشرط أن تصدر روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ضمانا ضد استخدام القوة الذي يهدد السلامة الإقليمية أوالاستقلال السياسي لأوكرانيا غير أن موسكوأرادت الاحتفاظ بنفوذها عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة . فبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا ولم تتمكن من ضم أوكرانيا للرابطة اذ كانت الرغبة الأوكرانية متطلعة باتجاه الغرب.  وهوماأزعج موسكو، ولكنه لم يصل إلى مرحلة الصراع طوال فترة التسعينيات لأن الغرب لم يكن يسعى لضم أوكرانيا الى حلف شمال الاطلسي. كما أن الاقتصاد الروسي كان يعاني الضعف، والبلاد كانت مشغولة بالحرب في الشيشان. في عام 1997 اعترفت موسكورسمياً من خلال ما يسمى بـ"العقد الكبير" بحدود أوكرانيا، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية.

  وكانت روسيا واحدة من الموقعين على ميثاق الأمن الأوروبي في قمة إسطنبول (1999) حيث «أعادت التأكيد على الحق الطبيعي لكل دولة في أن تكون حرة في اختيار أوتغيير ترتيباتها الأمنية.» فقد نظرت القيادة الروسية إلى أوكرانيا على أنها جزء من مجال نفوذها، بل تعاملت  روسيا مع أوكرانيا بنسخة محدثة من «عقيدة بريجنيف»- بحسب المحلل الروماني يوليان تشيفو- وهي العقيدة التي تنص على أن سيادة أوكرانيا لا يمكن أن تكون أكبر من سيادة الدول الأعضاء في حلف وارسو.(2) ووجهة النظر هذه مبنية على فرضية أن تصرفات روسيا لاسترضاء الغرب في أوائل التسعينيات كان يجب أن تقابل بالمثل من الغرب لكن دون توسع حلف الاطلسي على طول الحدود الروسية.

شهدت الدولتان أول أزمة دبلوماسية كبيرة بينهما في خريف عام 2003 عندما بدأت روسيا بشكل مفاجئ في بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة "كوسا توسلا" الأوكرانية.  واعتبرت كييف ذلك محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين. ولم يتم وضع حد لهذا التوتر إلا بعد اللقاء الثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني نتج عنه ايقاف بناء السد، وبقيت الصداقة المعلنة بين البلدين تحمل بوادر الشقاق. أثناء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا عام 2004، دعمت روسيا بشكل كبير المرشح المقرب منها فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن "الثورة البرتقالية" حالت دون فوزه وفاز بدلاً منه السياسي القريب من الغرب، فيكتور يوشتشينكو. خلال فترته الرئاسية قطعت روسيا إمدادات الغاز عن البلاد مرتين، في عامي 2006 و2009. كما قطعت أيضاً إمدادات الغاز إلى أوروبا المارة عبر أوكرانيا.(3)

وفي عام 2008، حاول الرئيس الاسبق جورج دبليوبوش، إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي، وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري قوبل باحتجاج موسكوواعلانها  صراحة أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا. وأثناء قمة حلف شمال الاطلسي في بوخارست تم طرح مسألة عضوية أوكرانيا وجورجيا وأوكرانيا إلى حلف الاطلسي، ولكن ألمانيا وفرنسا منعت تنفيذ ذلك. كما اعلن  الرئيس فلاديمير بوتين صراحة رفض انضمام أوكرانيا للحلف وعدها تهديدا لأمن روسيا القومي .

بعد أسابيع من الاحتجاجات كجزء من حركة الميدان الأوروبي (2013-2014)، وقع الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش وزعماء المعارضة البرلمانية الأوكرانية في 21 شباط2014 اتفاقية تسوية دعت إلى إجراء انتخابات مبكرة.  وفي اليوم التالي فر يانوكوفيتش من كييف وذلك قبيل التصويت على عزله من الرئاسة. مع ذلك فقد أعلن قادة المناطق الشرقية الناطقة بالروسية في أوكرانيا استمرار ولائهم ليانوكوفيتش، وهوما تسبب فيما عرف باسم الاضطرابات الموالية لروسيا عام 2014 في أوكرانيا. أعقب تلك الاضطرابات ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في آذار 2014، ثم اندلعت الحرب في دونباس وذلك في نيسان 2014 في الوقت الذي كانت تعمل فيه روسيا على دعم أوحتى إنشاء «شبه دول» داخل الأراضي الأوكرانية ويتعلق الأمر «بجمهوريتي» دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين.

 تدرك روسيا  ان موقع أوكرانيا  يشكل البوابة الغربية  والحاجز الجغرافي الاخير في وجه التوسع الاطلسي، كما ان موقع شبه جزيرة القرم كقاعدة بحرية متقدمة لروسيا تمنح الاخيرة سيطرة على البحر الاسود لكونها تتوسط البحر الاسود . وتدرك روسيا ان فقدانها للقرم بشكل خاص وأوكرانيا بشكل عام سوف يخدم استراتيجية القوى الاطلسية  في احتواء روسيا من خلال الوصول الى حدودها البرية والبحرية بحكم في حالة وجود قاعدة للناتوفيها  وهوما سيمنع روسيا من الملاحة في البحر الاسود وبالتالي يمنعها من الوصول الى البحر الابيض المتوسط، لذلك فقد كانت الاجراءات الروسية سريعة وخاطفة في ضم القرم.(4)

الدافع الاقتصادي :- تعد روسيا مصدر الغاز الاكبر في العالم فهي تصدر نحو16 مليار قدم مكعب في اليوم معظمها الى اوربا،  ومن خلالها يمر 80% الغاز الروسي باتجاه أوروبا لذلك فإن تغيير أوكرانيا لتوجهاتها نحوالاطلسية سوف يعرقل تصدير روسيا لغازها الى أوروبا مما يشكل ضغطاً على الاقتصاد الروسي المعتمد في معظمه على الطاقة والتي تعد أوروبا احد اهم اسواقها.(5)

الدافع الامني:- ادركت روسيا ان لديها مفتوحة ازاء الدفاع عن مصالحا في المناطق التي تعتمد ان تمثل امتدادا طبيعيا لها وادركت روسيا ان نفوذها في مجالها الحيوي من خلال السيطرة على أوكرانيا وعدم السماح لها بالانضمام لحلف شمال الاطلسي. فضلا عن الاهمية الاستراتيجية لميناء سيفاستبول الذي تتواجد فيه القاعدة العسكرية الروسية التي تضم اكبر اسطول بحري روسي وضرورة حمايتها، خاصة وان النظام السياسي الحاكم في أوكرانيا يوالي الغربويسعى الى الغاء الاتفاقية الموقعة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الاوكراني السابق ياناكوفيتش والتي تضمنت تمديد وجود القاعدة البحرية في هذا الميناء في شبه جزيرة القرم والتي كان من المقرر انتهاء وجودها عام 2017 وتمديدها الى عام 2042 وبموجب الاتفاق مقابل 7 مليار دولار سنويا وتخفيض بنسبة 30% من سعر الغاز الروسي المصدر الى أوكرانيا.(6)

الدافع الاجتماعي:-  عندما اندلعت الازمة الأوكرانية عام 2013 كان لها جذور تعود لانفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي السابق حيث سيطر عليها نوعين من الاتجاهات السياسية ،اتجاه القوميين الاوكرانيين في غرب أوكرانيا الذين يسعون لتوثيق علاقات أوكرانيا مع أوروبا والولايات المتحدة والاتجاه الثاني الاوكرانيين من اصول روسية سلافية في شرق أوكرانيا والذين يسعون الى ان تبقى بلادهم ذات علاقات متينة مع روسيا الاتحادية اي انها تعاني من ذات الاشكالية الهوياتية التي تمر بها روسيا، لذلك فقد شهدت الساحة السياسية الأوكرانية صراعا وتجاذبات بين هذين الاتجاهين المتعارضين، وصل هذا الصراع عند قيام الثورة البرتقالية  بين عامي 2004 و2005، بعد شبهة حصول تزوير في الانتخابات ادت الى فوز المرشح الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش  بمنصب الرئاسة بفوزه على مرشح المعارضة المدعوم من الغرب فيكتور يوشينكو، الا ان الصراعات السياسية لم تتوقف وهذه المرة كانت داخل الجبهة الموالية للغرب بين الرئيس فيكتور يوشينكووحليفته زعيمة الاقلية النيابية يوليا تيموشينكوبعدما تمكنت النخبة السياسية القديمة الموالية لروسيا من التحالف مع يوشينكومستغلة نفوذها السياسي وامكاناتها الاقتصادية لاستعادة مواقعها داخل النظام مما ادى الى تمكن النخبة القديمة من الوصول الى السلطة حيث تمكن فيكتور يانكوفيتش من أن يتبوأ منصب رئيس الوزراء وهويحظى بدعم سياسي واقتصادي واسع من روسيا وذلك في اطار الصراع بين روسيا والغرب لكسب النفوذ في أوكرانيا.(7)

ثانياً- الازمات السياسية  السابقة بين الدولتين

شهدت العلاقات بين البلدين اخطر ازمتين ظلت تداعياتها مستمرة وبسببها اندلعت الحرب وهما:

1- ضم شبه جزيرة القرم 2014

               اندلعت  الازمة في تشرين الثاني 2013 بعد  إعلان الرئيس الاوكراني فيكتور يانكوفيتش انسحابه من مفاوضات اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي واعلانه رغبته الدخول ضمن اطار الاتحاد الجمركي الاوراسي الذي كانت روسيا تسعى الى اقامته كنظير للاتحاد الاوروبي مما اثار غضب الشارع الاوكراني بالتحديد في كييف وغرب أوكرانيا الذي كان راغبا بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي، مما ادى الى موجة احتجاجات عارمة في العاصمة . وبالرغم من توقيع اتفاق الشراكة في 21/شباط/ 2014 بين الحكومة والمعارضة الا ان الاوضاع بدأت بالتدهور اكثر في اليوم التالي مع انقلاب المعارضة على الرئيس يانكوفيتش وفراره الى خارج البلاد.(8)

هذا الوضع لاقى معارضة من سكان شرق أوكرانيا من ذوي الاصول الروسية مما دفعهم للخروج بمظاهرات مضادة كما اندفعت روسيا بارسال قوات خاصة الى شبه جزيرة القرم ذات الاهمية الاستراتيجية حيث سيطرت على المقار الحكومية والاماكن الاستراتيجية مثل ميناء سيفاستوبول الذي يعد قاعدة للبحرية الروسية، وفي 16 آذار/2014 تم اجراء استفتاء في شبه جزيرة القرم حيث اختار 95% من السكان الانضمام الى روسيا، وهكذا تمكنت روسيا وبخطوة سريعة وخاطفة  من الدفاع عن مصالحها الحيوية في أوكرانيا ومنعت الغرب من محاولة خنقها بحريا عبر الاستيلاء على اخر منفذ بحري يصل روسيا بالبحر المتوسط وذلك بفرض واقع جيوسياسي جديد في شبه جزيرة القرم قبل ان تتمكن السلطات الأوكرانية الجديدة من البدأ بمواجهة الفوضى في انحاء البلاد.(9)

2- الحرب في الدونباس وتقسيم أوكرانيا

تعد المعارضة التي برزت ضد النظام الجديد شرق أوكرانيا ذات قيمة استراتيجية كأداة فاعلة بالنسبة لروسيا في الضغط على أوكرانيا اوعلى الاقل الحفاظ على حدودها بعيدة قدر المستطاع عن نفوذ حلف شمال الاطلسي، لذلك فقد سارعت روسيا الى دعم المعارضة والتمرد الذي بدأ يبرز على الساحة الأوكرانية ،حيث احتل المحتجون الموالين لروسيا مقار الحكومة في منطقة دونباس، اذ اعلنت مقاطعتين ضمن المنطقة استقلالهما عن أوكرانيا وهما (دونيتسك) و(لوغانسك) في 12/آيار/2014، وقد دعمت روسيا انشاء قوات الدفاع الذاتي في الدونباس، حيث شنت القوات الأوكرانية هجوما واسع النطاق على مناطق الدونباس، ولم يقتصر الدعم الروسي على تجهيز السلاح والتدريب بل اردف ذلك بحملة اعلامية واسعة ضد العملية العسكرية الأوكرانية وقد كانت روسيا تعمل استخباريا في أوكرانيا على تهيئة الظروف المناسبة لإيجاد تمرد كجزء من اسلوب الحرب الهجينة التي شنتها روسيا في أوكرانيا.(10)

ومن الجدير بالذكر ان هذا الدور الاستخباري الروسي في أوكرانيا لم يحدث فجأة بل منذ تفكك الاتحاد السوفيتي والتيارات القومية الروسية تحاول الولوج للساحة الأوكرانية لذلك نجد ان بعض الاوكرانيين الناطقين بالروسية كانوا ينتمون الى الحركة الاوراسية العالمية، كما ان الناشطين في اقامة جمهورية دونيتسك  تم ادخالهم مسبقا بين عامي 2006 و2009 الى معسكرات تدريبية تشرف عليها حركة اتحاد شباب اوراسيا ،مما ادى الى ان تنتشر المشاعر الموالية لروسيا في منطقة الدونباس بوقت مبكر من عام 2005 مع توسع نشاط التيارات القومية الروسية فيها، وهواسلوب من اساليب الحرب الهجينة التي مارستها روسيا داخل أوكرانيا، مما ادى الى ان تلعب تلك المشاعر القومية التي تم تنميتها في منطقة الدونباس دورا كبيرا في تشجيع انفصال هذه المنطقة عن سلطة كييف.(11)

واجمالا فقد لخص الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف في رسالة له الى الرئيس الاوكراني  11/آب/2009 فيكتور يوشينكوسبقت الازمة المشاكل بين روسيا وأوكرانيا بالآتي: 

1-قيام أوكرانيا بتزويد جورجيا بالسلاح عبر صفقات سرية قبل الحرب الروسية الجورجية عام 2008.

2-مساعي أوكرانيا للانضمام الى حلف الناتو

3-عرقلة أوكرانيا لعمل الاسطول الروسي في البحر الاسود وقاعدته في ميناء سيفاستوبول

4-الخلاف بشأن امدادات الطاقة وتسعيرها وبالتحديد الغاز الذي تحصل عليه كييف من موسكو.

 برز في هذه الحرب الدورين الفرنسي والالماني كوسطاء لحل الازمة خلال قمة النورماندي  6/حزيران/2014 -التي عقدت عشية الاحتفال بالذكرى ال70 لانزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية -حيث بدأ حينها التحضير لمفاوضات بين المتمردين والحكومة الأوكرانية وبمشاركة روسيا والمانيا وفرنسا لوقف الازمة حتى عرفت هذه  المجموعة ب(رباعية النورماندي)، وقد توصلت كل من روسيا الاتحادية وجمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك من جهة وأوكرانيا من جهة اخرى الى اتفاق عرف ب(اتفاق مينسك) في 5/ايلول/2014، الا ان هذا الاتفاق لم ينهِ الاعمال القتالية حتى اجتمعت الاطراف مجددا لتوقع اتفاق جديد عرف ب(اتفاق مينسك2) في 11/شباط/2015  اتخذت فيه الاطراف المتحاربة سلسلة من الاجراءات لوقف العمليات القتالية في منطقة الدونباس، ادت الى حالة من الهدوء النسبي نتيجة وقف اطلاق النار وايجاد امر واقع جديد يتمثل بانضمام شبه جزيرة القرم الى أوكرانيا واستقلال مقاطعتين من شرق أوكرانيا عن كييف بالقوة العسكرية ليشكلان مناطق عازلة جديدة تفصل الحدود الروسية عن حلف شمال الاطلسي.(12)

الأسباب الكامنة وراء الأزمتين  

 تباين مصالح  ومواقف الاطراف الفاعلة في الازمة الأوكرانية، فالانقسام داخل المعسكر الغربي بين موقف امريكي متشدد حيال روسيا وداعم بشكل كامل لأوكرانيا وحكومتها الجديدة الموالية للغرب وبين موقف لقوى الاتحاد الاوروبي وبالتحديد فرنسا والمانيا المتماشي مع الموقف الامريكي في دعم التغيير في أوكرانيا الا انه يسعى لايقاف الحرب في الدونباس خشية ان يكون للامر تبعات سلبية على امن القارة الاوروبية، في حين ان موقف روسيا هورافض وبشكل قطعي للتغيير السياسي في أوكرانيا اذ تعد موسكوان العملية هي مجرد انقلاب على السلطة الشرعية للرئيس يانكوفيتش، الا ان الاسباب غير المعلنة للازمتين هوان التغيير في أوكرانيا جاء متمما لاستراتيجية توسع حلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي، اذ يدرك الاطلسيين اهمية أوكرانيا بالنسبة الى روسيا فهي تمثل عمقا استراتيجيا بالغ الاهمية لروسيا لذلك فقد عبر عن هذا الموقف زبيغينوبريجينسكي في كتابه( رقعة الشطرنج الكبرى) بدعوته الادارة الامريكية  للاهتمام بأوكرانيا لكون قوة روسيا تستند وبشكل كبير على أوكرانيا "وبوجود أوكرانيا  مستقلة وذات سيادة لا تستطيع روسيا تحقيق احلامها الامبراطورية بالتوسع الى أوروبا كما انها لاتستطيع الوصول الى المياه الدافئة من دون أوكرانيا، بالتالي فإن استعادة روسيا السيطرة على أوكرانيا تعني استعادة روسيا تلقائيا لدورها الامبراطوري مما يمكنها من التوسع مجددا الى أوروبا الوسطى ويجعل من بولندا دولة محورية جيواستراتيجيا على الحدود الشرقية لأوروبا الموحدة"(13).

أما أوروبياً، فإن فرنسا وألمانيا يسعيان إلى التوفيق بين محاولاتهما تحقيق حلم أوروبا الموحدة بضم أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي حيث ساعد الاخير أوكرانيا بتقديم حزمة مالية بقيمة 11 مليار يوروللفترة من 2014-2020 مقابل فرض قيود على الافراد والجهات المسؤولة عن الازمة والتي ارتكبت اختلاسات مالية كبيرة  كما دعم الاتحاد الاروربي الانتخابات الأوكرانية في تشرين الاول/2014 وبين الحفاظ على الشراكة مع روسيا خصوصا في مجالات الحفاظ على امن القارة الاوروبية وامن الطاقة لدول الاتحاد الاوروبي، لكون أوكرانيا المعبر الرئيسي لانابيب  نقل الطاقة الروسية الى أوروبا  لذلك فقد شهد النزاع الاوكراني وساطة فرنسية المانية مشتركة لوقف العمليات العسكرية، بالرغم من رفضهم لضم روسيا لشبه جزيرة القرم ودعمها للحركات الانفصالية في الدونباس، وتأييدهم العقوبات على موسكو.(14)

أما روسيا، فإن أوكرانيا تمثل لها مجالا حيويا لها ولامبراطوريتها الاوراسية، فإنه بدون أوكرانيا لايمكن لروسيا التوسع غربا نحوأوروبا حيث كانت أوكرانيا ومازالت محور ارتكاز جيوبولتيكي للمصالح القومية الروسية، وفي هذا الصدد يرى الكسندر دوغين "ان تدخل روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم ودعمها لانفصال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك كان ضرورة جيوسياسية حيث ان فقدان شبه جزيرة القرم وكذلك منطقة الدونباس يعني فقدان كل روسيا، بالتالي فإن ضم أوكرانيا ليس هدفا لروسيا بل بقاء أوكرانيا مستقلة وذات سيادة لايضر بالمصالح الروسية الا عندما تكون أوكرانيا عضوا في حلف الاطلسي، اذ ان أوكرانيا مستقلة ترتبط بشراكة مع روسيا اوتبقى محايدة هي افضل بالنسبة لروسيا من أوكرانيا اطلسية، وذلك على اعتبار ان التوجهات الاطلسية الموجودة في روسيا سوف تجد التحفيز الكافي للقيام بثورة في روسيا تطيح بالنظام الحاكم كما حصل في أوكرانيا(15)، لذلك كان التدخل الروسي ضروريا في أوكرانيا بخلق مناطق ذات توجهات مؤيدة لموسكولمنع هيمنة الاطلسيين عليها ولحماية روسيا من النوع الاخير من التوجهات الاطلسية.

 ويمكن القول ان روسيا في مواجهتها مع القوى الاطلسية في أوروبا واسيا الوسطى تسعى للدفاع عن اخر ما تبقى لها من مجال حيوي وقد نجحت نسبيا في ردع محاولات الاطلسيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة من السيطرة على كامل اسيا الوسطى من خلال استغلال الروابط الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي تجمعها مع تلك الدول في خلق فضاءات تكاملية جديدة وتعزيز الروابط الاقتصادية بينها وبين دول اسيا الوسطى فيما بقيت روسيا تدافع عن البوابة الغربية لقلب الارض الاوراسي في أوروبا الشرقية حيث الخط الممتد من بحر البلطيق شمالا الى البحر الاسود جنوبا اصبح يحتوي على دول اطلسية مناوئة لروسيا مثل دول البلطيق وأوكرانيا  ودول  حليفة مثل بيلاروسيا، فيما عملت روسيا طوال سنوات على تحقيق اختراق في قلب القارة الاوروبية عبر تعزيز علاقاتها مع دول أوروبا الغربية وبالتحديد المانيا وفرنسا كاهم قطبين اوروبيين لهما سياسات غالبا ما تحاول ان تكون بعيدة عن السياسات الامريكية،  ومن جانبهم فقد عمل الاوراسيين على التغلغل الى الداخل الاوروبي والتأثير في السياسات الداخلية الاوروبية عبر التحالف مع الحركات السياسية الاوروبية المعارضة للاتحاد الاوروبي وسياسات حلف شمال الاطلسي وذلك لدعم المساعي الروسية في احداث تصدع داخل حلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي مما يؤدي لاحقا الى تفكك الحلف والاتحاد الاوروبي ويضعف الهيمنة الامريكية داخل أوروبا، وقد سعت روسيا  لسنوات عبر سياستها الخارجية الى احداث انشقاق في المعسكر الاطلسي من خلال تشجيع استقلالية الاتحاد الاوروبي عن الولايات المتحدة في قراراته وخياراته السياسية والاقتصادية عبر ربط مصالحها الاقتصادية بمصالح دول الاتحاد الاوروبي وتعزيز هيمنة صادرات الطاقة الروسية الى أوروبا مما يزيد من حاجة الاوروبيين الى روسيا ويخفف من سلوكهم المعادي لمصالح روسيا القومية، وقد اثر ذلك في سلوك تلك الدول عبر تشكيلها لمحاور مع موسكومناهضة للسياسات الامريكية وكذلك ايجاد حالة من التعاطف غير الرسمي داخل تلك الدول مع السياسات الروسية، ومع ذلك يمكن القول ان روسيا لم تنجح حتى الان في احداث انشقاق كبير في صفوف المعسكر الاطلسي، إلا أنها نجحت في ايجاد شركاء اوروبيين اكثر ليونة في تعاملهم معها.(16)

استغل الكرملين فراغ السلطة في كييف من أجل ضم القرم في آذار عام 2014. كانت هذه علامة فارقة وبداية لحرب غير معلنة. وفي نفس الوقت، بدأت قوات روسية شبه عسكرية في حشد منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا من أجل انتفاضة. كما أعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك، يترأسهما روس. أما الحكومة في كييف، فقد انتظرت حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية في أيار 2014، لتطلق عملية عسكرية كبرى أسمتها "حرباً على الإرهاب".(17) انتهت بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك. وتحول الصراع بين أوكرانيا وروسيا إلى حرب بالوكالة في الدونباس

في مطلع عام 2015، شن الانفصاليون هجوماً، زعمت كييف أنه كان مدعوماً بقوات روسية  ومنيت القوات الأوكرانية بهزيمة ثانية في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجية، والتي اضطر الجيش الأوكراني للتخلي عنها . آنذاك – وبرعاية غربية – تم الاتفاق على "مينسك 2"، وهي اتفاقية تشكل إلى اليوم أساس محاولات إحلال السلام، وما تزال بنودها لم تنفذ بالكامل بعد.

ومنذ كانون الأول عام 2021، طلب الرئيس الروسي بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتوأوتتلقى مساعدات عسكرية. لكن الحلف لم يرضخ لهذه المطالب. وتبادلت روسيا وأوكرانيا الاتهامات بشكل مستمر حول عدم الالتزام باتفاقية "مينسك".

مع زيادة التخوف الأوكراني  من أن اتفاقية مينسك ستمكن موسكومن إعادة تأكيد هيمنتها على أوكرانيا، بإجبار كييف على منح المنطقتين الانفصاليتين وضعا خاصا، بما في ذلك الميليشيات الانفصالية الخاصة بهما، وفي المقابل تصر روسيا على منح المناطق الانفصالية الحكم الذاتي، ومن ثم يمكن إجراء الانتخابات، وعندها فقط ستستعيد أوكرانيا سيطرتها على حدودها مع روسيا.

ويتهم المسؤولون الروس أوكرانيا برفض الوفاء بالتزاماتها، ويطالبون كييف بالتفاوض مباشرة مع الانفصاليين، وفي غضون ذلك، أصدرت موسكوأكثر من 600 ألف جواز سفر روسي في المنطقتين الانفصاليتين، وحولت الأوكرانيين إلى مواطنين روس.(18) حذر رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا أليكسي دانيلوف من أن اتفاقية مينسك قد تؤدي إلى انهيار البلاد إذا تم تنفيذها، لافتا إلى أن التوقيع على الاتفاقية تم "تحت فوهة البندقية الروسية"، تحت أنظار الألمان والفرنسيين، مناشدا الدول الغربية "ألا تدفع أوكرانيا إلى تنفيذ الشروط الحالية المنصوص عليها في الاتفاقات".(19)

موافقة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 14 أيلول2020 على استراتيجية الأمن القومي الجديدة لأوكرانيا والتي تنص على تطوير شراكة مميزة مع حلف شمال الاطلسي بهدف الحصول على عضوية داخل الحلف . وقع الرئيس زيلينسكي في 24 آذار2021 المرسوم رقم 117/2021 بالموافقة على استراتيجية إنهاء الاحتلال وإعادة دمج [استرجاع] الأراضي المحتلة لجمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي ومدينة سيفاستوبول.(20)

نشر الرئيس بوتين بعدها وتحديدًا في تموز 2021 مقالًا بعنوان «الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»، أعاد فيه تأكيد وجهة نظره القائلة بأن الروس والأوكرانيين هم «شعب واحد». وصف حينها المؤرخ الأمريكي المعروف تيموثي سنايدر أفكار بوتين بأنها إمبريالية، فيما وصفها الصحفي البريطاني إدوارد لوكاس بأنها تعديل تاريخي. لاحظ مراقبون آخرون أن لقيادة الروسية لديها ما يشبه «الرؤية المشوهة» لأوكرانيا الحديثة وتاريخها.

ثالثاً- الحرب الروسية – الأوكرانية

تحولت الأزمة الأوكرانية الروسية 2021–2022 الى مواجهة عسكرية وأزمة دولية مستمرة   شملت أيضًا الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ورابطة الدول المستقلة.  حينما حشدت روسيا في شهري آذار ونيسان من العام 2021 حوالي 100.000 جندي ومعدات عسكرية بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، وهوما مثل أعلى تعبئة للقوة منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014.

قدمت روسيا في كانون الأول2021 مشروعي معاهدتين تحتويان على طلبات أشارت إليها باسم «الضمانات الأمنية» بما في ذلك  تقديم تعهد ملزم قانونا بأن لاتنضم أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي وكذلك خفض عدد قواته والمعدات العسكرية المتمركزة في أوروبا الشرقية، وهددت برد عسكري غير محدد إذا لم يتم تلبية مطالبها كاملا. هذه الطلبات واجهت الرفض من قبل الولايات المتحدة وأعضاء آخرون في حلف شمال الاطلسي، وحذروا روسيا من زيادة العقوبات الاقتصادية عليها في حال اقدامها  على غزوأوكرانيا. وعقدت محادثات دبلوماسية ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا في كانون الثاني 2022، لكن تلك المحادثات فشلت في نزع فتيل الأزمة.

بدأت دول حلف شمال الأطلسي، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، الاستعداد لمواجهة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فقامت حسب التقارير الاستخباراتية التي ظهرت لاحقاً بعمليات تدريب واسعة لمجموعات عسكرية أوكرانية على أسلحة مضادة للدبابات والطائرات، وتم نقل معدات عسكرية من حلف الأطلسي عبر بولندا وسلوفاكيا بالتحديد إلى داخل أوكرانيا استعداداً لهذه العملية.(21)

               ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية كان هناك انتشاراً واسعاً وتقدما واضحا للقوات من ناحية الشرق والجنوب وكذلك الشمال باتجاه العاصمة كييف. وبعد الأسبوع الثالث من الحرب أدركت روسيا أنها لا تحارب أوكرانيا وحدها، وإنما تحارب حلف شمال الأطلسي بأكمله والذي تتوقف قواته عند الحدود الأوكرانية  حتى يتجنب المواجهة المباشرة بين الطرفين ولايعطي مبرراً لروسيا لاستخدام ما لوحت به من أسلحة دمار شامل، ورفع درجة التوتر العالمي بصورة كبيرة. وفي هذه الفترة استمر نقل الأسلحة الأكثر تطوراً في العالم من دول حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى داخل أوكرانيا.(22) وتمثلت هذه الأسلحة في قاذفات الصواريخ المضادة للدبابات والدروع من طراز جافلين (النسخة الأمريكية الأحدث)، وكذلك القاذفات المضادة للدبابات التي أنتجتها بريطانيا بالتعاون مع السويد، وهوالصاروخ الأكثر تطوراً في العالم، إذ أنه قادر على تدمير الدبابات الأكثر تدريعاً وقوة. وقدرت مصادر أخرى أن عدد الصواريخ المضادة للدبابات والدروع التي قدمت الى أوكرانيا قد تجاوز ثلاثون ألف صاروخ، إلى جانب صواريخ ستينجر المضادة للطائرات، ولم تكتف دول حلف الأطلسي بذلك ولكنها قدمت الطائرات المسيرة الأمريكية من طراز سويتش بليد 30 وسويتش بليد 60، والتي تسمى بالطائرات المسيرة الانتحارية.(23)

وبالإضافة إلى التعاون الاستخباراتي  فقد قامت أجهزة الاستخبارات العسكرية في حلف شمال الأطلسي وبريطانيا والولايات المتحدة برصد كل التحركات الروسية والقيام بعمليات اختراق لشبكات التواصل العسكري بين الوحدات العسكرية الروسية، وهوما مكن القوات الأوكرانية من توجيه بعض الضربات المؤثرة منها ضرب الطراد موسكوفا أهم قطعة بحرية روسية في البحر الأسود. واستمر تدفق الأسلحة من حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا عبر السكك الحديدية بين أوكرانيا ودول الجوار، وهوما تحاشت روسيا توجيه ضربات إليه، خاصة أنه يمكن أن ترتب خسائر مدنية كبيرة للأوكرانيين الذين يتجهون للجوء إلى دول الجوار.

وهدفت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول حلف شمال الأطلسي بتحويل أوكرانيا لنموذج أشبه بأفغانستان لاستنزاف القدرات العسكرية المتطورة مثل الصواريخ الفرط صوتية التي اضطرت روسيا لاستخدامها،  وتقليص قدرة روسيا على بيع الأسلحة والتي تعد أحد مصادر ايراداتها الخارجية، بالإضافة لإضعاف روسيا كحليف للصين القوة الصاعدة في مواجهة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الدفع في اتجاه روسيا للتخلي عن حلم تحولها لدولة كبرى والارتضاء بكونها قوة متوسطة.

ركزت الاستراتيجية العسكرية الروسية على مبدأ التصعيد في منطقة الشرق، بنقل قواتها وتجميعها في منطقة الشرق والجنوب وإعادة نقل الذخيرة والعتاد وتحسين أوضاعها التكتيكية للتركيز على المنطقة الجنوبية والشرقية التي تتضمن طبقاً للهدف الاستراتيجي السيطرة على الجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، وهكذا تم طرد القوات الأوكرانية التي كانت تتركز في بعض المناطق التابعة للإقليم، ثم محاصرة منطقة ماريوبول أهم ميناء عسكري على البحر الأسود في منطقة بحر آزوف، وهوالميناء الأساسي لتصدير الحبوب الأوكرانية لمنطقة آسيا والشرق الأوسط.   نظراً لأنها خطوط الإمداد قريبة من الأراضي الروسية وغير معرضة لضربات أوكرانية، ونجحت هذه الخطة في الاستيلاء على ماريوبول لتصبح هي أول مدينة استراتيجية تم الاستيلاء عليها منذ بداية الحملة العسكرية، وهوما اعطى لروسيا نوعاً من الانتصار، خاصة أن المقاتلين في ماريوبول كانوا فوج الحرس الوطني الذي تتهمه روسيا بأنه القوات النازية، وبالتالي القضاء على هذا الفوج . وهدفت روسيا من ذلك التمدد إلى أوديسا هوتجزئة أوكرانيا وحرمانها من أي إطلالة على البحر الأسود وإفقادها أي موانئ بحرية، وبإحكام السيطرة على ماريوبول تقريباً، تنتقل العمليات العسكرية الروسية إلى المنطقة التي تليها في ميكولايف وصولاً إلى أوديسا، أما الضربات التي توجه إلى مدينة لفيف كانت تستهدف إعطاء إشارة لمسار القوات والأسلحة التي تدخل عبر بولندا بأن روسيا يمكن أن تضرب هذه الحملات التي تنقل الأسلحة، وهوما أعلنته صراحة.(24)

إن السيطرة على بحر آزوف يعني انتهاء الاحتكاك الذي كان قائماً بين روسيا وأوكرانيا في هذا البحر، وتأمين منطقة القرم، وتوفير الامتداد الارضي لجزيرة القرم إلى روسيا، وهي كلها مكاسب يمكن أن تزايد القيادة السياسية الروسية بعد الفشل في تحقيق الأهداف الرئيسية التي كانت تستهدفها من تغيير النظام في أوكرانيا والوصول إلى العاصمة، حيث إنها لم تجد تأييداً شعبياً لذلك.

وقد أدت العملية في مجملها في النهاية إلى إذكاء الروح الوطنية الأوكرانية عكس ما كان تتصور روسيا، ولكن سيبقى النجاح الأبرز لروسيا في الدونباس، إذ سيكون من الصعب على الجيش الأوكراني نقل إمدادات كافية لمواجهة العملية العسكرية في الشرق والجنوب وبالتالي ستكون هناك فرص لتحقيق القوات الروسية نوعاً من الإنجاز في هذا الميدان العسكري، وربما الى استمرار المعارك .

رابعاً-  أهداف الحرب الروسية على أوكرانيا واحتمالية تغيير النظام الدولي الراهن

               بعد مرور عام على بدء "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في أوكرانيا، تعددت الرؤى حول احتمالات مستقبل هذه الحرب، فهل ستشهد صراعا طويل الأمد يستنزف مقدرات روسيا والتصعيد الى حد المواجهة النووية، وهل ستكون المساعدات الغربية الموعودة لأوكرانيا قادرة على نصر أوكرانيا؟  واجراء تسوية قسرية تجبر روسيا على الاعتراف بحدود حلف شمال الاطلسي القريبة من مجالها الحيوي والموافقة على انضمام أوكرانيا للحلف بعد دخول فنلندا له أم انهيارا روسيا يؤدي إلى هزيمة شاملة وربما حربا اهلية في روسيا والاتحاد اوراسي؟ ام سيقود طول مدة الحرب الى تقوية الجبهة الروسية خاصة وان هذه  الحرب كشفت عن اختلافات حادة في المواقف تجاه الحرب والديمقراطية وتوازن القوى العالمي، توحي بأن الهجوم الروسي على أوكرانيا قد يكون نقطة تحول تاريخية تنبئ بظهور نظام عالمي "ما بعد غربي" خاصة  وان الفكر الاستراتيجي الروسي ومع تبنيه لصيغة الاوراسية الجديدة  كإطار للعمل الخارجي والداخلي بات يضطلع بمهمة جيوستراتيجية عالمية لتغيير النظام العالمي الراهن، وإلغاء النظام العالمي احادي القطبية(ذوالصفة الدولية) كما تسعى لذلك الولايات المتحدة من خلال العولمة، وبالتالي اجتراح نظام عالمي جديد يقوم على التعددية القطبية الحضارية (غير الدولية) التي تستند الى الطبيعة الحقيقية للعالم القائم على التعدد والتنوع الثقافي والحضاري للشعوب . باعتبار ان التغيير هوسمة كل نظام فإن النظام العالمي الراهن لا يمكن ان يبقى على حالة الاضطراب  والفوضى هذه مما يعني ان التغير سوف يتحقق نحوشكل جديد من اشكال النظام العالمي وتوزيع جديد لمقدرات القوة بين القوى الرئيسية داخل النظام.

وبالتالي، فإن اعلان روسيا رغبتها الى تغيير النظام العالمي من الاحادية القطبية الى التعددية القطبية ربما بدء مع اولى المواجهات الصريحة مع الغرب في هذه الحرب.

               إن تنامي دور روسيا العالمي في مواجهة الدور والمكانة السياسية للولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي  وذلك بالتعاون مع الشركاء مثل الصين وايران، فإن العالم اليوم يكون بالفعل امام  مرحلة انتقالية من دون سقف زمني محدد يتنافس فيه مشروعان، الاول يتمثل بمشروع القوى الساعية لإقامة التعددية القطبية والمتمثلة بمحور موسكو- بكين  من جهة .اما القطب الثاني فيتمثل بقوى الوضع الراهن التي تسعى الى الحفاظ على النظام العالمي الاحادي القطبية وهذا القطب بقيادة الولايات المتحدة وعدد من شركائها الاوروبيين فضلا عن اليابان، حيث يحتدم التنافس بين هذين القطبين على امل تحقيق السيادة العالمية.(25)

وبمحاولة للتنبؤ بمستقبل النظام العالمي في ظل هذه الحرب باعتبارها احدى الادوات التي تستخدمها روسيا في سعيها لإقامة التعددية، يمكن القول ان نجاح السياسة الروسية في اقامة التعددية القطبية يقوم على جملة من العوامل الداخلية والخارجية الداعمة لهذه الاحتمالية وهي كالآتي:

1. العوامل الداخلية: ان من اهم العوامل الداخلية التي تدعم نجاح روسيا تتمثل بما تملكه روسيا من مقومات قوة مادية وبشرية، فهي من اكبر دول العالم مساحة اذ تبلغ حوالي 17.1 مليون كم2 مما اهلها لان تملك عمقاً استراتيجياً، فضلاً عن تنوع كبير في التضاريس الجغرافية مما ادى الى تنوع في الثروات الطبيعية واهمها النفط والغاز، وامتلاكها من القدرات العسكرية ما يجعلها ثاني اقوى جيش في العالم وذلك نتيجة لما ورثته من قدرات عسكرية وترسانة نووية وصاروخية من الاتحاد السوفيتي السابق وما تعمل على تطويره من قدرات عسكرية في الوقت الحاضر.(26)

 كما ساهمت ادارة  الرشيدة للرئيس فلاديمير بوتين بانهاء الحرب الشيشانية وانعاش الاقتصاد والتخلص من الطبقة الاوليجاركية الفاسدة التي سيطرت على البلاد اقتصاديا وسياسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي  وهوما ساعد على تقوية البناء الداخلي السياسي والاقتصادي .(27)

أما على مستوى بناء الهوية، قد تمكن حزب روسيا الموحدة الحاكم (حزب فلاديمير بوتين) من معالجة هذه اشكالية ازمة الهوية التي تعاني منها روسيا حول كون روسيا دولة امة ام امبراطورية  من خلال طرحه لرؤية تفيد بأن روسيا هي دولة اتحادية متعددة القوميات وريثة الاتحاد السوفيتي والامبراطورية الروسية اراضيها تعتبر مقدسة ولا يمكن فصلها وتعترف بالتعددية والتنوع الكبير في المجتمع الروسي الذي يتكون من 130 جماعة اثنية يشكل السلاف الشرقيين من بينهم حوالي اربعة اخماس الشعب الروسي، اما الخمس الباقي فيتكون من 129 اثنية اخرى من بينهم التتر والاوكرانيين والبشكيريين وغيرهم، وقد دعم دستور روسيا الاتحادية هذا التنوع بقوله "شعب الاتحاد الروسي متعدد القوميات هوصاحب السيادة ومصدر السلطة الوحيد في البلاد"، اما على مستوى الديانات فإن روسيا متعددة الاديان بوجود تسعة الاف طائفة اومجموعة دينية مسجلة رسمياً في روسيا تنتمي الى اكثر من 40 عقيدة وديانة الا ان الاغلبية هم من معتنقي الديانة المسيحية الارثوذكسية فضلا عن اتباع الكنائس الاخرى، كما ان الاسلام يعد ثاني اكبر ديانة في روسيا بعد المسيحية اذ تبلغ نسبة المسلمين حوالي 20% من الشعب الروسي، فضلا عن ديانات اخرى مثل اليهودية والبوذية وغيرها.(28)

هذه المعالجة المتوازنة لهذه التعددية الدينية والاثنية  ادت الى حالة الاستقرار الاجتماعي  حفظ  وحدة البلاد بعد موجة الانفصال التي طالت الجغرافية الروسية اثر انهيار الاتحاد السوفيتي . واعادت الرغبة في اعادة الاندماج مع عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وبطرق مختلفة من ناحية وتحمي حقوق مواطنيها فيه من ناحية أخرى.

2. العوامل الخارجية: إن العوامل الخارجية الداعمة لاقامة نظام عالمي جديد على اساس التعددية القطبية هي عبارة عن نوعين من العوامل، النوع الاول يتمثل بتلك العوامل الكامنة  في هيكلية النظام الدولي الحالي وكذلك التحديات التي يواجهها، اما الثاني فهي تلك المتعلقة بالفعل الجيوسياسي الروسي على مستوى العالم.(29)

العوامل الكامنة في النظام الدولي تتمثل بتقادم هذا النظام وتبدل طبيعة توزيع القوة فيه حيث كان قائما عند تأسيسه على التعددية الدولية الاوروبية، الا انه  وبفعل العولمة بات احادي القطبية الدولية مما ادى الى اضعاف هذا النظام بشكل غير مباشر بفعل ارتباط معظم عناصر القوة والمؤسسات في هذا النظام بدولة واحدة مما يجعل النظام بأكمله في خطر عند تعرض هذه الدولة لأي انتكاسات على صعيد داخلي اوخارجي، فضلا عن ذلك فإن النظام الدولي يواجه تحديات ابرزها هي ان الدول  لم تعد  الوحدات الاساسية فيه مع تنامي دور الفاعلين من غير الدول مثل الشركات المتعددة الجنسية والافراد والجماعات الارهابية والمنظمات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية، كما ان التطور التكنلوجي  ولاسيما الانترنيت ادى الى انشاء فضاء تواصل عالمي اضعف من قدرة الدولة على التحكم بسيل المعلومات الصادرة منها اوالواردة اليها، والاخطر من ذلك هوبروز ما يعرف ب(العملات الافتراضية) التي يتم سكها وتداولها بعيداً عن سيطرة البنوك المركزية بالتالي تكون بعيدة عن سلطة الدولة مما اضعف قدرات الدول على ملاحقة عمليات غسيل الاموال والتدفقات المالية للتجارة غير المشروعة مثل تجارة المخدرات والسلاح التي باتت تسويتاها المالية تتم عبر العملات الرقمية من خلال شبكة الانترنيت، مما  يهدد الامن القومي للدولة ويجعل سيادة الدولة كسلطة اكراه اضعف من اي وقت مضى على مستويات ثقافية وامنية وسياسية واقتصادية، الامر الذي  يدفعنا الى الاستنتاج ان التحديات الماثلة امام النظام الدولي فضلا عن الخلل في توزيع القوة داخله يضاعف من احتمالات انهياره.(30)

أما بالنسبة  للعوامل الناتجة عن تنامي دور القوى الرافضة للوضع الراهن وفي مقدمتها روسيا التي تسعى لعالم متعدد القطبية يمثل الرؤية العالمية الروسية  لمواجهة العولمة الامريكية الاحادية المستندة الى ايديولوجية الليبرالية الجديدة، اذ تدير روسيا هذه المواجهة العالمية على مستويات عدة سياسية/جيوسياسية واقتصادية/مالية وثقافية/اجتماعية، مستغلة في ذلك عاملين اساسيين : الاول ضعف العولمة الامريكية في الداخل الامريكي والبريطاني بروز النزعة الشعبوية  المناهضة للعولمة على قمة هرم نظام العولمة، فضلا عن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي الذي يمثل اطارا نموذجياً لليبرالية الجديدة مما يعني فشل هذه الاخيرة في تلبية طموحات الشعب البريطاني، اما العامل الثاني وهومرتبط بالأول فيتعلق بالأزمة الفلسفية التي اصابت الليبرالية وفشلها في تحقيق نظام عالمي موحد وضعفها في المجال الروحي.(31)

على المستوى الجيوسياسي، عملت روسيا على اقامة شراكات استراتيجية ولاسيما مع القوى المركزية  (الصين،ايران ،الهند) وكذلك اقامة تنظيمات اقليمية سياسية واقتصادية وامنية مما يعد اهم محفزات نجاحها في اقامة نظام عالمي متعدد القطبية وتحدي الاحادية القطبية الامريكية، فعلى مستوى ما يعرف ب(الخارج القريب) اوالدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي فإن روسيا عملت على اعادة الاندماج مع هذه الدول بواسطة اقامة الاتحاد الاوراسي كإطار تكاملي جديد، على مستوى اقتصادي من خلال ارتباط عملاتها الوطنية بالروبل الروسي اومن خلال الروابط الثقافية والتاريخية والاجتماعية والتي تقوم على وجود نسبة من المواطنين الروس يعيشون في تلك البلدان واستخدامهم كوسائل ضغط بيد روسيا على تلك البلدان، فضلا عن قدرة روسيا بين الحين والاخر على التدخل عسكريا وسياسيا في بلدان اسيا الوسطى وكذلك أوروبا الشرقية والقوقاز لحماية مصالحها القومية في مواجهة تهديدات التوسع الامريكي الاطلسي والتهديدات الارهابية في منطقة اسيا الوسطى.(32)

أما على صعيد علاقات روسيا مع المحاور الجيوسياسية فإنها تمكنت من تشكيل محور استراتيجي هومثلث روسيا-الصين-ايران  اللذان يمثلان شريكان رئيسيان لروسيا في معارضة النظام الامريكي الاحادي القطبية، فتمكنت بمساعدة ايران ولاحقا تركيا من تثبيت تواجدها بالشرق الاوسط عبر التعاون معهما في ادارة الازمة السورية ومحاولة تهميش دور الولايات المتحدة فيها، اما الشراكة مع الصين فقد حققت من خلالها روسيا احتواء دول اسيا الوسطى وانشاء منظومة تعاون اقليمية لتوحيد دول وسط وجنوب اسيا جيوستراتيجيا بعيداً عن نفوذ الولايات المتحدة الامريكية  فضلا عن التعاون مع الصين على مستوى السعي لتغيير النظام العالمي وذلك تجلى في  ادارتهما لمجموعة دول البريكس التي تسعى الى انشاء نظام اقتصادي عالمي مناهض للنظام الاقتصادي الحالي.

وبالتالي، فإن من أهم دعائم المشروع الروسي يتمثل بشراكاتها الاستراتيجية مع الصين والهند شرقا والارتباط بعدد من الاتفاقيات والمنظمات الاقليمية والعالمية .اما المحور الغربي وهومحور روسيا-إيران -انقره حيث يعمل هذا المثلث على ادارة تلك الازمة بعيداً عن النفوذ الامريكي والاوروبي، فضلا عن ذلك فإن حجم التوافق في المصالح بين روسيا ،لاسيما في القضايا الحيوية مثل عدم الرضا عن النظام الدولي الاحادي القطبية والسعي الى تغييره الى نظام عالمي متعدد القطبية وهوما تتفق عليه القوى في المثلثين الاستراتيجيين .(33)

السعي الروسي لربط بلدان هذين المثلثين  من خلال علاقات تعاونية سيؤدي الى سيطرة كاملة لهذه القوى بالتعاون مع روسيا على قلب الأرض وبالتالي إلى إغلاق كامل المنطقة جيوستراتيجياً امام اي توسع امريكي خارجي بفعل هذا التحالف الذي تكون من القوى الرئيسية في الحضارات الاسيوية وهي الكونفوشيوسية والسلافية الارثوذكسية والاسلامية والهندية لاسيما بعد تمكن هذه القوى من احتواء اسيا الوسطى التي تمثل منطقة وسطية بين هذه الحضارات والتي تمثل نقطة تقاطع اوصدام تاريخية بين هذه الحضارات الرئيسية، وبالرغم من التحديات التي مازالت ماثلة امام هذا التحالف الحضاري الا انه اصبح اقرب من اي وقتٍ مضى ليتحقق ويتحول الى التزام استراتيجي بين الاطراف المتشاركة فيه.(34)

أما على مستوى محور موسكو- برلين، فإن أزمتي القرم والدونباس أدت إلى تدهور الأوضاع، إلا أن فرص روسيا لجذب دول الاتحاد الاوروبي الى معسكر التعددية القطبية بعد الحرب. فالروس يهدفون إلى أبعد من دونباس، وأنهم يجمعون الوسائل البشرية والاقتصادية والصناعية اللازمة لغزوالمنطقة بأسرها، ولا يزال هدفهم هومحوأوكرانيا من الخريطة، خاصة أن من يديرون روسيا من قدامى المحاربين في الحرب الباردة، وهم يريدون إعادة تشكيل المجموعة الجغرافية التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي، وتدمير ما يسمونه هيمنة "الغرب الجماعي" وإمالة مركز الثقل العالمي نحوأوراسيا، حول محور صيني روسي جديد.

وبالتالي، فإن نجاح  الاستراتيجية الروسية لإقامة نظام التعددية القطبية يتوقف على تحقيق الشروط الآتية:

‌1.تحقيق السيطرة الاستراتيجية لروسيا وشركائها في المثلثات الاستراتيجية على قلب الارض.

‌2.ارتباط المثلثات الاستراتيجية في اوراسيا بعدد من التنظيمات والمشاريع الاقتصادية والتجارية مثل منظمة شنغهاي وطريق الحرير مما يؤدي الى ازدياد الارتباط بالمصالح بين هذه الدول.

‌ج.احتواء اسيا الوسطى بمشاريع سياسية واقتصادية مختلفة عبر مشروع الاتحاد الاوراسي.

‌د.تغيير مؤسسات النظام العالمي الاقتصادية والسياسية ونجاحهم في اعادة العمل بقاعدة الذهب مقابل العملات بدلاً من قاعدة الدولار الذي ادى الى هيمنة الاقتصاد الامريكي على العالم.

‌ه.استمرار التراجع الامريكي الحالي وتفاقمه مع تفاقم ازمات الاتحاد الاوروبي وانقساماته السياسية والاقتصادية واستثمار روسيا لتلك الانقسامات لتكوين جبهة داخلية اوروبية مؤيدة لسياساتها.(35)

بالتالي، يؤدي ذلك كله الى احتمالية انهيار النظام العالمي المعاصر تدريجياً وذلك في غضون 10-20 سنة القادمة وقيام نظام متعدد الاقطاب . ومن المحتمل ان يكون نظاما عالمياً تتوزع فيه القوة على التكتلات الدولية بدلا من دول محددة حيث ينشأ توازن قوى بين للتكتلات الاقليمية المتشكلة في كل اقليم ،وتكون الدول الحالية خاضعة لتكتلاتها على مستوى السياسة الخارجية، لكن اهم تلك  التكتلات هي الفضاء الاوراسي بقيادة روسيا والفضاء الصيني مع دول جنوب شرق اسيا  بقيادة الصين والتي ستحتل مكانة مهمة داخل هذا النظام العالمي الى جانب تكتلات اخرى والتي غالبا ما تكون تكتلات على اساس الروابط الاقتصادية والتاريخية والحضارية المشتركة بين البلدان المنضوية فيها.

أما في حال التوصل الى تسوية سلمية للحرب الدائرة  ونجاح الولايات المتحدة الامريكية بالتعافي من اثار الازمات الاقتصادية فإنها ستعمل على تجديد فاعليتها على المستوى الدولي لاستعادة مكانتها الجيوستراتيجية في شرق أوروبا والشرق الاوسط حيث ان الوضع الحالي فيهما يمثل حالة من التصادم بين معسكر التعددية القطبية بقيادة محور روسيا-الصين وبين معسكر الاحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بعد انسحاب الاخيرة من اسيا الوسطى، حيث مثل كل من العراق وسوريا وكذلك أوكرانيا نقاط تصادم بين المعسكرين، اذ يسعى كل منهما لحيازة اكبر قدر من النفوذ في هذه النقاط الاستراتيجية، فإن ذلك سيؤدي الى إضعاف روسيا عسكريا وسياسياً مما يؤدي الى تجديد النفوذ الأمريكي في الشرق الاوسط وتراجع روسي استراتيجي كبير وسيقود الى بقاء النظام العالمي الاحادي القطبية .(36)

الخاتمة:

مع استمرار المعارك يبدوليس  في الافق ثمة نهاية قريبة لهذه الحرب، إذ لم تزل مطالب أطراف الصراع غير قابلة للتفاوض فروسيا تريد، على الأقل في المستوى الأدنى لأهدافها، استقرار سيطرتها على 4 مقاطعات أوكرانية، واعتراف أوكرانيا والغرب باستقلال هذه المقاطعات، إضافة إلى الاعتراف بأن شبه جزيرة القرم باتت جزءا لا يتجزأ من روسيا الاتحادية، كما تريد حياد أوكرانيا وضمانات بعدم انضمامها مستقبلا إلى حلف الاطلسي. أما أوكرانيا، فتريد وقفا نهائيا للحرب، وخروج القوات الروسية من المناطق الأوكرانية التي احتلتها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ومن ثم التفاوض حول مستقبل أوكرانيا الإستراتيجي وحول وضع الأوكرانيين من أصول إثنية روسية.

في العلن، تتبنى الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية الرئيسة المطالب الأوكرانية كما هي – لان واقعا أن أوكرانيا، وإن لم تلتحق بحلف شمال الاطلسي بعد، فقد أصبحت عمليا منطقة نفوذ غربي، تسليحا وأمنا واقتصادا- لكن الحقيقة هي تسعى إلى استنزاف روسيا، ومنعها من استخدام أدواتها العسكرية لفرض السيطرة السياسية على أوكرانيا، وإلى تلقين القيادة الروسية درسا يمنعها من إعادة الكرة في مناطق أوروبية أخرى وانهاء مشروعها الاوراسي وطموحها بالوصول الى الريادة العالمية.

 

الهوامش

1)     وولتر لاكوبر، البوتينية روسيا ومستقبلها مع الغرب، ترجمة فواز زعرور، دار الكتاب العربي، لبنان ،2016، ص بلا

2)     الكسندر دوغين، الخلاص من الغرب الاوراسية ،الحضارات الارضية مقايل الحضارات البحرية والاطلسية، ترجمة علي بدر ،دار الكا، بغداد ،2021، ص 128

3)     ولتر لاكبور، مصدر سيق ذكره، ص 94

4)     والتر لاكبور، مصدر سبق ذكره، ص12

5)     محمد جاسم حسين، روسيا ولعبة الهيمنة على الطاقة (رؤية في الادوار والاستراتيجيات )،دار امجد للنشر والطبع، بغداد، 2018، ص 77

6)     عناد كاظم النائلي، روسيا الاتحادية ومستقبل التوازن الاستراتيجي العالمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، بلا سنة، ص 190

7)     صالح بن محمد الخثلان،الدين والسياسة الخارجية الروسية: دراسة في دور الكنيسة الارثوذكسية في السياسة الروسية تجاه الصراع في سوريا، دراسات، اسطنبول: مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات،2016،ص19

8)     نوار محمد ربيع، الازمة السياسية في أوكرانيا وتجاذبات الشرق والغرب، المجلة السياسية والدولية،العدد 27،بغداد:كلية العلوم السياسية/الجامعة المستنصرية، ربيع/2015،ص.ص28-29.

9)     عماد قدورة، محورية الجغرافيا والتحكم في البوابة الشرقية للغرب: أوكرانيا بؤرةً للصراع، سياسات عربية، العدد9،الدوحة: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات،تموز/2014،ص49

10)  كيفورك الماسيان، الصراع على سوريا وأوكرانيا من منظور "دماغ بوتين"، موقع مركز دراسات كاتيخون ،21/6/2016، متوفر على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على الرابط الآتي:

http://katehon.com/ar/article/lsr-l-swry-wwkrny-mn-mnzwr-dmg-bwtyn

11)  اتفاقية مينسك، موقع قناة دوتشيه فيله الالمانية DW، 15/11/2016، متوفر على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على الرابط  الآتي: http://www.dw.com/ar/

12)  تنفيذ السياسة الاوروبية للجوار في عام 2014، تقرير مشترك للبرلمان الاوروبي والمجلس الاوروبي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية الاوروبية ولجنة المناطق، بروكسل: الاتحاد الاوروبي، 25/3/2015، ص3.

13)  زبيغينيو بريجينسكي، رقعة الشطرنج الكبرى الاولوية الامريكية ومتطلباتها الجيوستراتيجية، ترجمة: أمل الشرقي، عمان: الاهلية للنشر والتوزيع، ط3، 2012،ص.ص120-12

14)  إدوارد هنتر كريستي، العقوبات بعد شبه جزيرة القرم: هل نجحت؟، مجلة ناتو ريفيو الالكترونية، موقع حلف شمال الاطلسي، 13/تموز/2015، على الرابط الآتي:

https://www.nato.int/docu/review/2015/Russia/sanctions-after-crimea-have-they-worked/AR/index.htm

15)  ما هي العقوبات الأميركية الجديدة على روسيا؟، صحيفة النهار اللبنانية، 3/آب /2017، على الرابط:

https://www.annahar.com/article/632315

16)  إف. ستيفن الرابي و ستيفإني بيزارد وآخرون، روسيا والغرب بعد الازمة الأوكرانية: أوجه الضعف الاوروبية جراء الضغوط الروسية، كاليفورنيا: مؤسسة راند Rand، 2017،ص54.

17)  ما الدوافع وراء التدخل الروسي في أوكرانيا؟ - BBC News عربي

https://www.bbc.com › arabic › worldnews › 2014/03

١٤‏/٠٣‏/٢٠١٤

18)  كيفورك الماسيان ،مصدر يبق ذكره

19)  نفس المصدر

20)  أوكرانيا: أوديسا مدينة تأبى الانكسار أمام الأطماع الروسية ...

https://www.france24.com › فرانس 24 › أوروبا

٢٢‏/٠٢‏/٢٠٢٣ —

21)  الحرب الروسية الأوكرانية : خطأ بوتين الاستراتيجي - CAUS على الرابط:-

https://caus.org.lb

22)  روسيا وأوكرانيا.. ما هي أسباب النزاع؟ - الميادين على الرابط:- https://www.almayadeen.net

٢٤‏/٠٣‏/٢

23)  نفس المصدر

24)  لماذا طالت الحرب الأوكرانية حتى الآن؟ - مركز المستقبل -https://futureuae.com › Mainpage › Item

25)  ايهم صالح القاضي، خودروكوفسكي خارج بيت الطاعة الروسي، صحيفة العرب الدولية، العدد 9555، 11/5/2014.

26)  نفس المصدر

27)  الكسندر دوغين، اسس الجيوبولتيكا مستقبل روسيا الجيوبولتيكي، ترجمة: عماد حاتم، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ،2004،ص.ص448-450.

28)  انمار علي ابراهيم، تحصين الذات وتكامل الاداء الاستراتيجي الروسي دراسة في دوائر التوجيه الجيوسياسي لمرحلة الرئيس بوتين، مجلة العلوم السياسية، كلية العلوم السياسية / جامعة بغداد ،العدد 48، 2021، ص 88

29)  نورهان الشيخ، صناعة القرار في روسيا والعلاقات العربية-الروسية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، نيسان/1998، ص-ص15-17.

30)  جوشوا بارون، أنجيلا أوماهوني وآخرون، تداعيات العملة الافتراضية على الامن القومي: البحث في امكانية النشر من جهة فاعلة غير حكومية،تقرير، كاليفورنيا: مؤسسة راند للابحاث Rand، 2015، ص18.

31)  سومر صالح، روسيا على عتبة التحول التاريخي .. الحرب الثالثة والتحول العالمي في نظام العولمة، موقع دراسات اوراسيا (كاتيخون)، 3/2/2018، متوفر على شبكة المعلومات الدولية الانترنيت على الرابط الآتي:

http://katehon.com/ar/article/rwsy-l-tb-lthwl-ltrykhywlhrb-lthlth-wlthwl-llmy-fy-nzm-lwlm

32)  حسن فاضل، دور الأوراسية الجديدة في تطور  الفكرالإستراتيجي الروسي بعد عام 2000، رسالة ماجستير غير منشورة ،كلية العلوم السياسية، الجامعة المستنصرية، 2018، ص 182

33)  رابح زغوني، الإسلاموفوبيا وصعود اليمين المتطرف في أوروبا: مقاربة سوسيوثقافية، المستقبل العربي ،العدد 421، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية،آذار/2014،ص122

34)  حسن فاضل، مصدر سبق ذكره، ص 183

35)  حسن فاضل ،مصدر يبق ذكره، ص 186

36)  حسن فاضل، مصدر سبق ذكره، ص180

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟