المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

حرب الكل ضد الكل... مأزق عودة الخصومات الطائفية إلى الشرق الأوسط ما بعد أمريكا

الأربعاء 08/ديسمبر/2021 - 03:33 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
والى نصر- عرض: مرﭬت زكريا

رغم تبني  إدارة بايدن لشعار"إنهاء الحروب الأبدية " في الشرق  الأوسط، وإنشغال الإدارة الأمريكية الجديدة  بإدارة التحدي الذي تشكله الصين، والذى يهدف إلى فصل الولايات المتحدة الأمريكية عن صراعات الشرق الأوسط التي لا نهاية لها والتي لا يمكن الانتصار فيها. لكن فك ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المنطقة من شأنه أن يهدد بترك فراغ سياسي تملأه الخصومات الطائفية، مما يمهد الطريق لمنطقة أكثر عنفاً وغير مستقرة.

وفي هذا السياق، يشير الكاتب إلى أن الصراع على الأسبقية الجيوسياسية بين الثيوقراطية الشيعية في إيران والدول التي يقودها العرب السنة، ومؤخرًا تركيا السنية، من شأنه يؤجج الصراع في جميع أنحاء المنطقة، مما يؤدي إلى تآكل المواثيق الاجتماعية، وتفاقم اختلال الدولة، وتحفيز الحركات المتطرفة. لقد استخدم كلا الجانبين الهوية الدينية كسلاح لأغراضهم الخاصة، واستخدموها لحشد المؤيدين وتعزيز نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة. نتيجة لذلك، لا يزال الشرق الأوسط  مكتظًا بالصراعات  الأوسع نطاقًا.

ورغم احتفاظ إيران باليد العليا، إلا أنها تواجه تحديات متزايدة في جميع أنحاء المنطقة. لقد سئم السنة من التطرف الخبيث، لكن الغضب الذي غذى صعود الدولة الإسلامية في العراق والشام"داعش" لا يزال ثابتًا؛ حيث يمكن لحركات التمرد الجديدة في الأجزاء المحطمة من المنطقة أن تسخر هذا الغضب مرة أخرى. ومن ناحية أخرى، يتزايد غضب السنة في العراق ولبنان وسوريا من تحركات طهران وحلفائها لتشديد قبضتهم على السلطة، وظهور الإرهاب في أفغانستان مرة أخرى، حيث تنزلق البلاد إلى الفوضى في أعقاب انتصار طالبان. وعليه، فبدون أي جهود سياسية تهدف لنزع فتيل هذه التوترات، من المحتمل أن تندلع في موجات جديدة من الاضطرابات وإراقة الدماء.

كما إن تدخل إسرائيل في هذه الصراعات الطائفية من جانب القوى السنية لم يؤد إلا إلى صب الزيت على النار، ولاسيما في ظل خضوع الاستقرار الإقليمي بدرجة أكبر لمصير البرنامج النووي الإيراني، وهو ما تتناقش بشأنه واشنطن وتل أبيب في "الخطة ب" إذا ظلت التسوية الدبلوماسية بعيدة المنال. لكن هذا المسار من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة الأمريكية على طريق تصادمي - بالإضافة إلى تفاقم التوترات الطائفية، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وإثارة صراعات جديدة من بلاد الشام إلى أفغانستان.

وعليه، من الواضح أن رغبة واشنطن في بذل جهود أقل في الشرق الأوسط تأتي في وقت تميل فيه الصين وروسيا إلى تعزيز وجودهم بالمنطقة، وصعود حكومة متشددة في إيران تحفر في أعقابها، وانخفاض الثقة لدى الدول العربية السنية بشأن الضمانات الأمنية الأمريكية.  فما لم تمهد الولايات المتحدة الأمريكية الطريق لنظام إقليمي أكثر استقرارًا - بدءًا من إبرام صفقة بشأن برنامج إيران النووي- فقد تجد نفسها منجرفة مرة أخرى إلى صراعات الشرق الأوسط العديدة، رغم من بذل قصارى جهدها للانسحاب.

أولاً- تسليح الإسلام

تعود أصول التنافس بين الشيعة والسنة إلى بدايات الإسلام، وعلى مر القرون، طورت الطائفتان تفسيرات متميزة للشريعة الإسلامية والممارسات الدينية. ومع ذلك، فإن الخلاف بين المجموعتين اليوم ليس متجذرًا في اللاهوت بل في الصراع على السلطة؛ حيث يعتبر التشيع والسنة من علامات الهوية البارزة التي تشكل الولاءات السياسية في المجتمعات المنقسمة. ورغم إنحسار حدة الاقتتال الطائفي على مدى العقدين الماضيين، إلا أنه لم  يتضاءل بروز الطائفية في سياسات المنطقة، ولا الصراع بين إيران وخصومها الذين يقودهم السنة، والتي تتغذى على هذا الانقسام وتؤججه، لذا، فهاتان القوتان وجهان مختلفان لعملة واحدة.

فلقد سمح الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لإيران بتوسيع نفوذها بشكل كبير في العالم العربي، فمنذ أن أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية النظام الاستبدادي الذي ضمن حكم الأقلية السنية في بغداد، لعبت طهران على الولاءات الطائفية لتمكين شبكة من الوكلاء المسلحين التي تمتد الآن من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن. الأمر الذى مكنها من تقوية الشيعة على حساب السنة في جميع أنحاء المنطقة وعززت نفوذها على منافسيها مثل المملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة.

وفي هذا السياق، يؤكد الكاتب على أنه رغم أن  أحداث الربيع العربي  لعام 2011 قد دفعت العالم العربي نحو الديمقراطية والحكم الرشيد، إلا أن ذلك أدى إلى تسليح الطائفية بشكل أكبر. فعلى سبيل المثال أثار الرئيس السوري بشار الأسد الخوف من السنة لتخويف المجتمع العلوي السوري، الذي ينتمي إليه والذي تعود جذوره إلى التشيع، إلى دعم لا يتزعزع لنظامه. وفي البحرين واليمن، برر الحكام حملات القمع العنيفة باتهام المحتجين الشيعة بأنهم وكلاء لإيران. وبالتالي، عززت إيران وخصومها العرب هذه الديناميكية من خلال حشد أنفسهم وراء عملائهم الشيعة والسنة، ورؤية إخوانهم في الدين كأدوات لحماية نفوذهم الإقليمي.

ورغم أن الولايات المتحدة كبحت بشكل فعال طموحات إيران النووية في عام 2015 من خلال صفقة بوساطة دولية، إلا أن ذلك أدى إلى  توسيع بصمة إيران الإقليمية بالتوازي مع برنامجها النووي، الأمر الذى أدى إلى التثبت من أن احتواء طموحات إيران الإقليمية بات أمرًا بعيد المنال. وأثار إصرار واشنطن على عدم إدراج المسائل الإقليمية في المحادثات النووية حفيظة حلفائها العرب، الذين كانوا آنذاك على وشك النهاية الخاسرة للحروب الطائفية بالوكالة في العراق وسوريا واليمن. وعزز الرئيس الأمريكي باراك أوباما مخاوفهم بشأن التزام واشنطن بمساعدتهم في هذه الصراعات عندما نصح بأن الإيرانيين والسعوديين بحاجة إلى إيجاد طريقة فعالة للحوار

واعتبرت الدول العربية السنية الاتفاق النووي بمثابة نهاية لرفض إدارة أوباما السابق للإطاحة بنظام الأسد. وأدى هذان القراران من وجهة نظر القادة العرب، إلى قلب ميزان القوى الإقليمي بشكل قاطع لصالح طهران؛ حيث أدى الفشل في الإطاحة بالأسد إلى تمكين حلفاء طهران الشيعة في دول أخرى، وفشل الاتفاق النووي في كبح تدخل إيران الإقليمي. فبالنسبة للزعماء العرب، بدا الأمر وكأن الولايات المتحدة الأمريكية تبارك الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط.

ويبدو أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان متعاطفًا مع هذا الرأي، وانسحب من الاتفاق النووي في 2018، مشددًا على أن الاتفاق الجديد يجب أن يعالج دور إيران الإقليمي. وفرضت حملته "الضغط الأقصى" عقوبات قاسية على إيران، الأمر الذى جعل من المستحيل على طهران أن تحافظ مالياً على وضعها في العالم العربي. ففي عهد ترامب، اتخذت واشنطن عدة خطوات لكبح جماح إيران، بما في ذلك تنفيذ غارة جوية بطائرة بدون طيار في عام 2020 أسفرت عن مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى قاسم سليماني، ونأئب قائد ميليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.

وعليه، نجحت إدارة ترامب في ضرب الاقتصاد الإيراني، وزيادة البؤس الاجتماعي والاستياء السياسي. لكن فشلت محاولتها لفرض انسحاب إيراني أوسع نطاقاً من العالم العربي فشلاً ذريعاً، بل على العكس من ذلك، ردت إيران بتصعيد التوترات الإقليمية؛ حيث هاجمت ناقلات في الخليج العربي، واستهدفت منشآت نفطية في المملكة العربية السعودية، وشنت ضربة صاروخية جريئة على القواعد الجوية العراقية التي تأوي القوات الأمريكية، مما جعل إيران والولايات المتحدة الأمريكية أقرب إلى الحرب أكثر مما سبق.

وفي هذا السياق، خرجت إيران من عهد ترامب أكثر عدوانية وفتكًا؛ فمنذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، زادت إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب، ووسعت بنيتها التحتية النووية، واكتسبت الدراية النووية الهامة، الأمر الذى جعلها قريبة بشكل خطير من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.

فلقد كان قرار إلغاء الاتفاق النووي، وليس قرار التوقيع عليه في المقام الأول، هو ما جعل إيران قوة أكبر في المنطقة. لقد تقدمت طموحات طهران النووية والإقليمية جنبًا إلى جنب: حيث يوفر برنامج نووي موثوق به مظلة تحمي وكلائها في جميع أنحاء المنطقة، والذى بدوره يعزيز نفوذ إيران أكثر. وبالتالي، كلما كانت المظلة النووية أكثر اتساعًا ومرونة، زادت فعالية الوكلاء الذين يعملون تحت حمايتها. ولكن من خلال تقليص نطاق البرنامج النووي الإيراني، قلل الاتفاق النووي لعام 2015 أيضًا من الحماية التي يمكن أن توفرها طهران لقواتها بالوكالة، ولكن مع تعليق الصفقة ونمو إيران سريعًا لبرنامجها النووي، ستصبح قواتها الإقليمية أكثر جرأة وانتشارًا.

وعليه، أدى ما سبق، إلى تعزيز المتشدديين الإيرانيين لدورهم خلال سنوات حكم ترامب؛ فلقد رأوا أن نظرتهم للعالم تحكمها حملة "الضغط الأقصى"؛ حيث كان ذلك دليلاً كافيًا بالنسبة لهم على أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسعى إلى تغيير النظام في طهران ولن تتراجع حتى تنهار الجمهورية الإسلامية.، الأمر الذى جعل التعامل مع واشنطن عديم الجدوى ويعني أن إيران لن تستطيع تأمين مصالحها إلا من خلال المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. ولذلك، خرجت إيران من عهد ترامب عازمة على مواصلة برنامجها النووي وتعزيز مكانتها في المنطقة.

وأوضح الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر  الفائت أنه يعتقد أن ميزان القوى الإقليمي يميل لصالح طهران، واستحضر أحداث الشغب في 6 يناير في مبنى الكابيتول الأمريكي وصور المدنيين الأفغان وهم يسقطون من الطائرات الأمريكية أثناء هروبهم من أفغانستان، مشيرًا إلى أن  هذه المشاهد بعثت برسالة واضحة إلى العالم، مفادها أن نظام الهيمنة للولايات المتحدة  الأمريكية ليس له مصداقية، سواء ي الداخل أو الخارج.

وبناءًا على هذه التصريحات، فقد تبنت الحكومة الإيرانية الجديدة وجهة نظر انتصارية بشأن الأحداث في الشرق الأوسط؛ حيث باتت ترى أن التدخل الإيراني في سوريا أنقذ الأسد في مواجهة مسعى أمريكي وأوروبي وتركي وعربي سني منسق للإطاحة به. بينما في اليمن، فشلت الحملة العسكرية السعودية الوحشية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية  في تغيير حقيقة أن الحوثيين راسخون بقوة في العاصمة صنعاء وجميع شمال البلاد تقريبًا. ورغم الضغوط الاقتصادية وما تعتبره تدخلاً من خصومها، إلا أنها حافظت على مكانتها المهيمنة في العراق ولبنان.

ومن هنا، أصبحت ضرورة الحفاظ على نفوذ إيران في العالم العربي جزءًا لا يتجزأ من الحسابات الاستراتيجية للدولة العميقة للبلاد، والميليشيات التي بنتها طهران لهذه المهمة هي حقائق على الأرض في جميع أنحاء المنطقة. لكن يؤكد الكاتب على أنه رغم كل الانتصارات الإيرانية الأخيرة، إلا أن الصراعات الطائفية التي تعصف بالشرق الأوسط لم تنته بعد.

ثانيًا- تهيئة للإنفجار

يشدد الكاتب على أن إيران ليست الطرف الوحيد الذي يقف وراء تصاعد الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ حيث دعمت قطر ولمملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة الفصائل السنية في العالم العربي. وقامت تركيا ورجال الأعمال السنة الأثرياء في الخليج العربي بتمويل بعض الفصائل السنية الأكثر تطرفاً التي سعت للإطاحة بالأسد، بما في ذلك داعش. لذا، فإن معاداة هذه المجموعة الشرسة للشيعة ووعدها بإحياء الخلافة الإسلامية، التي كانت مقراً للسلطة السنية في العصور السابقة، استهدفت السنة المحرومين في الامتداد من دمشق إلى بغداد. وفي النهاية، تم القضاء على داعش من خلال تحالف المصالح الذي شكلته روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وآخرها قاتلت داعش إلى جانب حلفائها الشيعة المحليين في العراق وسوريا.

لكن رغم أن طهران تمكنت حتى الآن من احتلال الصدارة في الصراع الإقليمي على النفوذ، إلا أنه من المتوقع أن تجد نفسها تحت ضغط متزايد خلال السنوات المقبلة؛ حيث تمتلك دول الخليج العربي السنية، إلى جانب إسرائيل وتركيا، مصلحة في نتيجة الصراعات الطائفية التي تعصف بالعالم العربي. فمع إشارة الولايات المتحدة إلى أنها لن تحاول طرد إيران من مختلف مناطق نفوذها، إلا أنه يستعد اللاعبون الإقليميون لمواجهة التحدي.

فرغم تصاعد النزاع الطائفي في سوريا، إلا أن نظام الأسد يحاول ترسيخ سلطته، فقد يستأنف القتال للسيطرة على محافظة إدلب الشمالية الغربية والمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. في حين تراجعت تركيا عن محاولات الأسد للسيطرة على إدلب، وعززت مطالبتها بأنها المدافع عن حقوق السنة في سوريا. كما انجذبت إسرائيل أيضًا إلى دوامة الصراع السوري، حيث أصبحت غير راضية عن توسع الوجود العسكري الإيراني هناك. وفي الوقت نفسه، مازال غالبية السكان السنة الذين يعيشون في المناطق التى دمرتها الحرب محرومين من حقوقهم وفقراء.

وعليه، يؤكد الكاتب على أن مصير سوريا بات مرتبطًا بمصير العراق؛ حيث لم يؤد انتصار الحكومة العراقية المركزية على الجهاديين السنة إلا إلى تأكيد اعتمادها على الدعم العسكري من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذى جاء على حساب تعزيز نفوذ الميليشيات الشيعية في البلاد. وفي السياق ذاته، أبرزت الانتخابات الوطنية الأخيرة هشاشة الوضع السياسي الراهن؛ فقبل  التصويت في أكتوبر 2021، شجع آية الله العظمى علي السيستاني والمؤسسة الدينية الشيعية العراقيين على التوجه إلى صناديق الاقتراع، لكن هذه المناشدات لم تلق آذاناً صاغية.

 ونتج عن اللامبالاة العامة انخفاضًا قياسيًا في الإقبال على الاقتراع، مما منح دفعة لأكثر الشخصيات السياسية الطائفية في البلاد: رجل الدين مقتدى الصدر ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي؛ حيث كان الجانب المشرق الوحيد هو أن أداء الأحزاب التابعة للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران كان ضعيفًا أيضًا. ومع ذلك، فقد منحهم ذلك دافعًا لزعزعة استقرار البلاد، كما اتضح من المحاولة الأخيرة لاغتيال رئيس الوزراء العراقي "مصطفى الكاظمى".

وهنا، يؤكد الكاتب أن صعود الصدر لا يبشر بالخير للسلام الطائفي في العراق، فرغم أنه نصب نفسه على أنه قومي، إلا أنه يساوي المصالح الوطنية للعراق مع حق طائفته الشيعية في حكم البلاد؛ حيث كانت مليشياته في طليعة الحرب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العراق عام 2006، ولا ينوي التنازل عن السلطة لتهدئة السنة. فرغم أنه يريد الابتعاد عن النفوذ الإيراني بعض الشئ، إلا أنه سيواجه الفصائل المتنافسة في الداخل ومناورات من الممالك السنية في الخليج، الذين عارضوا سيطرة الشيعة على العراق.

وفيما يتعلق بلبنان، رغم أن حزب الله هو أيضا قوة سياسية في لبنان، متواطئ في الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تآكل الدولة والمجتمع. فلطالما استنكر المجتمعان المسيحي والسني في البلاد ولاءات حزب الله لإيران وإصراره على العمل كدولة داخل دولة. وفي هذا السياق، يلقي عدد متزايد من اللبنانيين باللوم على الجماعة في تقويض التحقيق الرسمي في الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، والذي دمر أجزاء كبيرة من المدينة، لكن المتوقع أن حزب الله لن يتخلى عن السلطة بدون قتال، فلا تزال قبضتها على الطائفة الشيعية قوية، وإيران ملتزمة بدعم التنظيم؛ حيث كان لبنان عرضة لنوبات العنف، وليس من الصعب أن نرى كيف تمهد الأحداث الجارية المسرح لنوبة أخرى من الصراع الطائفي هناك.

وفي اليمن، أصبحت الحرب الأهلية حربًا بالوكالة. فمن جهة، هناك الحكومة المركزية المدعومة من المملكة العربية السعودية، ومن جهة أخرى، هناك قبائل حوثية تنحدر من شمال البلاد الذي يسيطر عليه أعضاء من الطائفة الزيدية الشيعية، ويتمتعون بدعم إيراني. واتخذت الحرب طابعًا طائفيًا علنيًا في عام 2015، فعندما تدخل التحالف الدولي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمنع انتصار الحوثيين وإنشاء رأس جسر إيراني في شبه الجزيرة العربية. ورغم تدمير اليمن، لكنه لم يهزم الحوثيين، الذين ازداد اعتمادهم على إيران. فعندما تنتهي الحرب، سيسيطر الحوثيون على أجزاء كبيرة من اليمن وسيكون لهم رأي كبير في سياساته.

فبينما تتطلع الدول العربية السنية إلى ساحة الصراع، فإنها تتجه بشكل متزايد إلى حليف قوي في الصراع ضد إيران، وهي إسرائيل التي وضعت نفسها بشكل مباشر في وسط الصراع الإقليمي المتنامي من خلال شن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق، وسوريا وتنفيذ الاغتيالات والهجمات الإلكترونية والتخريب الصناعي لإبطاء البرنامج النووي الإيراني. وحتى الآن، قصرت طهران ردودها ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في الخليج الفارسي، لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة، ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان، وسوريا والهجمات الإيرانية ضد حلفاء إسرائيل الجدد في الخليج العربي.

وهنا، رغم أن الاضطرابات المتزايدة في لبنان تنذر أيضًا بعدم الاستقرار، لكنها لا تنذر بتقليص النفوذ الإيراني. على خلفية أن الفاعل السياسي المهيمن في البلاد هو حزب الله، الذي بنى قدرته العسكرية على مر السنين بدعم إيراني سخي. ولقد أدت الجماعات الشيعية اللبنانية أداءً جيدًا في الحروب ضد إسرائيل، ولا تزال تشكل ترسانتها الضخمة من الصواريخ رادعًا يهدد العمل العسكري الإسرائيلي ضد إيران. كما نجح حزب الله في نشر مقاتليه نيابة عن حلفاء إيران في جميع أنحاء العالم العربي، ولا سيما في العراق وسوريا، وبالتالي، أصبح لا غنى عنه لدى طهران.

ثالثًا- انتفاضة السنة

تبحث الدول العربية السنية في خضم كل هذا  عن استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها؛ حيث اعتمدوا حتى الآن على الولايات المتحدة الأمريكية لاحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع بدأته واشنطن نفسها عندما غزت العراق، لكن رحيل القوات الأمريكية من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" أجبرت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على البدء في الحديث مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت، لبناء قدراتهم الإقليمية الخاصة.

وجاءت هذه المحادثات بعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ودعم المملكة العربية  السعودية والإمارات العربية المتحدة للعقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني، والهجمات الإيرانية داخل الأراضي السعودية والإماراتية. لذلك فهي تمثل جهدًا هامًا للحد من التوترات. وفي هذا السياق، ترغب الرياض أن تعتمد إيران على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها.

وترغب إيران بدورها في التطبيع الكامل للعلاقات مع المملكة العربية  السعودية، لكن يبدو أن هذه الإنفراجة ليست في متناول اليد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المحادثات تجري في ظل المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، يواصل الجانبان الاجتماع، وقد حددا الخطوات الأولى المحتملة في التقارب، مثل فتح قنصليات لتسهيل السياحة الدينية. لقد دعمت إدارة بايدن الحوار، والجدير بالذكر، أن  واشنطن لا تستطيع دفع الرياض للتوصل إلى اتفاق مع طهران إذا لم تستطع فعل ذلك بنفسها.

وعليه، لا يزال شبح التطرف السني يثير قلق إيران أيضًا؛ حيث كان انتصار طالبان نقطة إيجابية للتشدد السني في جميع أنحاء المنطقة؛ فتاريخ هذه  الجماعة الأفغانية مليء في العنف الطائفي الدموي، وهي ترى أن التشيع خارج عن الإسلام. ورغم من أن طالبان لم تعد تتبنى العداء العلني للشيعة وأقامت علاقات مع إيران، إلا أن عودتهم إلى السلطة تميزت بتطهير الشيعة الهزارة من الوظائف الحكومية، وإغلاق أعمالهم التجارية، وطردهم من منازلهم وقراهم.  ورغم أن العنف الطائفي الأخير في البلاد، مثل الهجمات القاتلة بالقنابل على المساجد الشيعية، وتم إلقاء اللوم فيه على فرع داعش المعروف باسم الدولة الإسلامية خراسان ، إلا أنه لا يزال يؤكد احتمالية نشوب صراع طائفي أوسع في أفغانستان.

كما تسعى الدول العربية السنية إلى تعميق وجودها الاستراتيجيي من خلال إصلاح الخلافات مع تركيا، التي تعتبر نفسها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قوة إقليمية ومدافعة عن الامتيازات السنية؛ حيث تعتبر تركيا أردوغان نفسها وريثة للإمبراطورية العثمانية، التي كانت حتى عام 1924 مقراً للخلافة الإسلامية، القلب الرمزي للقوة السنية. كما أنها تحافظ على علاقات وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين، التى تعتبر بمثابة القوة الإسلامية الأكثر أهمية في العالم العربي. وخلال الربيع العربي، صممت تركيا نفسها على أنها نموذج للعالم العربي، داعمة للمطالب الشعبية بالديمقراطية وطموحات الإخوان المسلمين في السلطة. وانحازت لاحقًا إلى جانب قطر عندما فرض جيرانها في الخليج العربي حصارًا عليها.

وهنا، أثارت هذه السياسات غضب دول الخليج العربي، التي اعتبرت تركيا منافسًا لقيادة العالم السني، وقد طغت هذه المشاحنات الضروس أحيانًا على التنافس الطائفي مع إيران. ففي الواقع، كانت علاقة أنقرة بطهران بشكل عام أكثر دفئًا من علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي؛ حيث أدى تنافس تركيا مع خصومها السنة إلى دخولها في كل ساحة تلعب فيها الطائفية، وراهنت حكومة أردوغان على مطالبتها بالنفوذ في العراق ولبنان ومؤخراً في أفغانستان.

فكانت تركيا بمثابة حصن منيع ضد النفوذ الإيراني؛ حيث استخدمت تركيا قوتها العسكرية في العراق وسوريا بشكل فعال. ورغم من أنها لا تستطيع مجاراة قوة إيران بالوكالة، إلا أن قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية ضمنت أنها تحتفظ بدور مؤثر في الشرق الأوسط. وبالمقارنة، فشلت الدول العربية السنية في كبح جماح القوة الإيرانية بأي طريقة ذات مغزى، وجاء استثمارهم في المعارضة السورية بلا فائدة، وتخلت المملكة العربية السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم لها في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن. ومع ذلك، تواصل الدول العربية السنية ممارسة نفوذها في واشنطن، وهي تعزز هذا العمق الاستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل.

رابعًا- انتقادات استراتيجية الاحتواء

لا تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في الأفق في الشرق الأوسط، لكن يجب تجنب جعل الأمور أسوأ؛ فقد يكون الدور الأمريكي الأصغر في المنطقة حتميًا، لكن الطريقة التي ترفع بها واشنطن مصالحها ستكون مهمة. فبالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، يعتبر الانسحاب الأمريكي اختصارًا لتخلي واشنطن عن المنطقة، حيث دافعت سابقًا ضد تهديدات الاتحاد السوفيتي وإيران والعراق، ومؤخراً  داعش، حتى إذا استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على وجود عسكري كبير في المنطقة، فإن التزامها باستخدام القوة العسكرية مفتوح بشكل متزايد للتساؤل.

وهذا الارتباك الاستراتيجي هو انفتاح لإيران ووكلائها، الأمر الذى من شأنه أن يدعو مشاركين جدد إلى المعركة  مثل روسيا وتركيا؛ حيث لا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ظلت لأكثر من أربعة عقود بمثابة بنية أمنية فعلية في المنطقة. فأفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية عن تكثيفها، على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة. لهذا السبب، يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة الأمريكية للتراجع عن فرض الاحتواء جنبًا إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي لتقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.

ويظل الاتفاق النووي مع إيران أهم رادع لمزيد من عدم الاستقرار الإقليمي، فهناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015؛ حيث  من المقرر أن تنتهي بعض قيود الاتفاقية على إيران قبل نهاية الولاية الأولى للرئيس جو بايدن، ومن شأن رفع العقوبات المطلوبة كجزء من الصفقة أن يثير انتقادات من الحزبين. لهذه الأسباب، تؤكد الإدارة الأمريكية على إنها تريد صفقة "أطول وأقوى". ومع ذلك، فإن إيران مهتمة فقط باستعادة اتفاق 2015، لكن هذه المرة بضمانات أمريكية بأن الإدارة القادمة لن تخرج منها مرة أخرى.

لذا، فإن الجمود أو الأسوأ من ذلك، انهيار المحادثات من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة الأمريكية على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل حتماً العالم العربي وتؤجج الطائفية. فرغم تشجيع إدارة بايدن للجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها البعض، لكن هذه الحوارات لن تستمر إذا تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي. فمن المتوقع أن يكون الضحية الأولى الاستقرار في العراق ولبنان، الأمر الذي يتطلب توافقاً بين الأطراف الشيعية والسنية. ولكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من الشرق الأوسط، فإنها بحاجة إلى إرساء قدر ضئيل من الاستقرار الإقليمي، ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة طهران وواشنطن إلى الامتثال المتبادل لاتفاق 2015.

فلأكثر من أربعة عقود، نظرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الشرق الأوسط على أنه حيوي لمصالحها الوطنية، وأقامت تحالفات مع دول عربية لاحتواء إيران، وإبعاد الإسلاموية، وإدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وكانت الإستراتيجية الأمريكية أكثر نجاحًا عندما تمكنت من الحفاظ على توازن قوى مستقر بين إيران وجيرانها العرب، ولكن منذ أن قوضت الولايات المتحدة هذا التوازن بغزو العراق في عام 2003، وهي في مواجهة تحديات عالمية أخرى ملحة، تجعلها تتخلى عن هذا الجهد كليًا. فهناك سبب كافٍ لتبني إعادة التقويم الاستراتيجي هذه؛ حيث أن السعي وراء توازن قوى بعيد المنال هو أمر مكلف للغاية، خاصًة وأن الشرق الأوسط لم يعد حيويًا للمصالح القومية الأمريكية.

لكن ترك المنطقة لأجهزتها الخاصة هو مناورة خطيرة؛ فبدون ترتيب أمني جديد، ستكون الفوضى والصراع هو النظام السائد. كما أن عودة التطرف الإسلامي، وشبح المزيد من الانهيار للدولة، والحروب الكبيرة والصغيرة على الأراضي والموارد، والصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل، ستكون له عواقب أمنية وإنسانية كارثية ستتطلب حتماً اهتماماً أمريكياً متجدداً.

وفي النهاية: يشدد الكاتب على أنه إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في تجاهل عبء الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، فعليها أن تبحث عن بديل مستدام - ترتيب يمكن أن ينهي الصراعات الأكثر خطورة في المنطقة ويضع قواعد إقليمية قابلة للتطبيق- يجب أن تبدأ تلك المهمة بنزع فتيل الصراع الذي يمثل أكبر تهديد للمنطقة وهو المواجهة مع إيران.

Vali Nasr, All Against All: The Sectarian Resurgence in the Post-American Middle East, Foreign Affairs, January/February 2022,  available at https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2021-12-02/iran-middle-east-all-against-all .

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟