المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مصالح متقاطعة .. واشنطن وأنقرة ملامح الثبات والتحول في العلاقات

السبت 20/أكتوبر/2018 - 03:53 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
مصطفى صلاح

شكل الإفراج عن القس الأمريكي أندرو برانسون محطة جديدة من محطات التوافق المشروط بين الولايات المتحدة وتركيا، وذلك بعد أن تم توقيف برانسون في 9 ديسمبر 2016، وحوكم بتهم "التجسس وارتكاب جرائم لصالح منظمة "فتح الله جولن" و"حزب العمال الكردستاني"، وحكم عليه بالسجن لــ 3 أعوام وشهر و15 يومًا.

في حين أفرجت محكمة تركية عن القس الأمريكي في 13 أكتوبر 2018، بعدما أثار أزمة في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، بعد عامين من الاعتقال.

إن احتجاز القس الأمريكي منذ عام 2016، أضاف بعدًا جديدًا في سلسلة التوترات في علاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، بل وتحول إلى أحد العوامل الرئيسية لتصاعد هذا التوتر.

توترات ممتدة

في البداية لا يمكن وصف العلاقات الأمريكية التركية بأنها تسير على خط بياني ثابت، بل تتأثر صعودًا وهبوطًا بحسب العديد من تداعيات القضايا الإقليمية والدولية، أبرزهم الملف الكردي، والملف المتعلق باحتجاز القس الأمريكي برانسون، وغيره من المواطنين الأمريكيين المحتجزين بتهم المشاركة في الانقلاب التركي الأخير في يوليو 2016.

تخللت هذه التوترات محطات توافق وإن كانت لم ترتقي إلى مستوى التعاون الاستراتيجي؛ حيث اتفق وزير خارجية البلدين مايك بومبيو ومولود شاويش أوغلو، في الرابع من يونيو 2018، حول الدعم الأمريكي المقدم للأكراد، ويذكر أن المفاوضات  أحدثت تقدمًا ملحوظًا فيما يتعلق بملف الأكراد الحليف الأمريكي الأهم لها في الداخل السوري وخاصة في مدينة منبج.

وعلى الرغم من وجود العديد من التفاهمات المشتركة بين الطرفين، إلا أن العلاقات الثنائية بينهم شهدت برودة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، بدأت مع عدم تجاوب الولايات المتحدة في ملف تسليم فتح الله جولن زعيم حركة الخدمة، والمتهم من قبل تركيا بتنفيذ عملية الانقلاب في منتصف يوليو 2016.

تصاعدت التوترات بين الجانين بعد اعتقال تركيا أحد موظفي البعثة الأمريكية في تركيا أكتوبر 2017، وذلك على خلفية اتهامات متعلقة بالانتماء إلى حركة الخدمة بزعامة جولن، على الجانب الآخر؛ فتحت السلطات الأمريكية التحقيق بحق 15 من أفراد حماية الرئيس التركي على خلفية أحداث وقعت أمام البيت الأبيض بين متظاهرين وبين الحراسة التركية في مايو 2017.

إلا أن هذه التوترات تصاعدت في الفترة الأخيرة بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على أنقرة؛ حيث أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، في الأول من أغسطس 2018، أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على وزيري العدل والأمن الداخلي التركيين، عبد الحميد جول، وسليمان صويلو ، وأوضحت الوزارة، في بيان، أن العقوبات فرضت بطلب من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ردًا على اعتقال السلطات التركية القس الأمريكي أندرو برانسون.

وعليه قامت الولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على أنقرة والتي أدخلت تركيا في نفق مظلم من تراجع سعر الصرف لليرة التركية التي بدورها تسببت في تراجع شعبية أردوغان؛ وفرضت واشنطن عقوبات نوعية على تركيا، الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، بدأها الكونجرس بقرار منع بيع مقاتلات من طراز "F - 35 لتركيا".

كما هددت أيضًا بإلغاء الإعفاء الجمركي الذي تتمتع به تركيا، ما تسبب في انهيار سعر صرف الليرة التركية، على الرغم من محاولات البنك المركزي التركي التدخل لوقف انهيار قيمة العملة المحلية المتواصل.

على الجانب التركي، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن تركيا لن تقدم تنازلات فيما يتعلق باستقلال القضاء وأن ملاحظات "العقلية الصهيونية الإنجيلية" في الولايات المتحدة غير مقبولة.(1)

التراجع التركي

لم يكن إطلاق سراح القس الأمريكي، أندرو برانسون، بعد عامين من الاحتجاز أول التحديات "الزائفة"، التي يطلقها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وربما لن يكون الأخير، خاصة في ظل إعلانه المتواصل عن رفضه التصريحات الأمريكية فيما يتعلق بمطالبها بالإفراج عن برانسون، الذي تعتبره تركيا تدخلًا في الشئون الداخلية التركية، بل وأعلن فرض عقوبات موازية على وزير العدل والداخلية الأمريكيين.

ولعل التراجع الاقتصادي الكبير الذي شهدته تركيا بعد محاكمة برانسون وفرض الاقامة الجبرية عليه، كان أهم مسببات التراجع التركي في الصمود أمام العقوبات الأمريكية؛ حيث تراجعت الليرة التركية لتصل إلى 4.62 ليرة للدولار، وفي غضون أسابيع قليلة بعد قرار إبقاء برانسون قيد الاعتقال ووضعه قيد الإقامة الجبرية، انهارت الليرة لتصل إلى سبع ليرات أمام الدولار في أغسطس 2018. ثم تراجعت العملة المحلية ببطء واستقرت عند حوالي ست ليرات أمام الدولار، وبالإضافة إلى هذا، تدهورت الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها منذ 17 عامًا أمام الدولار، وذلك بعد أن فرضت واشنطن عقوبات ورسومًا جمركية إضافية على وارداتها من منتجات الألمنيوم والحديد التركية، لكن هذا الأجراء له جذورٌ أعمق مهدت لهذا التدهور.

وتعد هذه المرة الأولى التي تتعرض فيه الليرة التركية لأكبر هزة في تاريخها منذ تعويمها في عام 2001، حيث فقدت العملة نحو 20% من قيمتها في يوم واحد ونحو 40% منذ بداية العام الجاري، ومن ثم يواجه أردوغان وحكومته مأزقًا حقيقيًّا لأن الأزمة تثير الرأي العام الداخلي ضده.(2)

 الجدير بالذكر في هذا الأمر أن هذه ليست أول بطولة زائفة لأردوغان فيما يتعلق بمواجهته للعديد من التحديات؛ ففي يونيو 2016، صرح الكرملين بأن أردوغان بعث برسالة اعتذار للرئيس فلاديمير بوتن عن إسقاط الجيش التركي طائرة لسلاح الجو الروسي في نوفمبر 2015، قرب الحدود السورية التركية، وذلك بعد أشهر من الخطابات الحماسية الصورية، التي قال فيها الرئيس التركي إنه لن يعتذر، وفي النهاية يتجه الرئيس التركي نحو تقديم التنازلات، بعد أن فرضت روسيا العقوبات على أنقرة التي دفعت أردوغان للاعتذار بل والدخول كطرف في مباحثات "استانا"، مع كلا من روسيا وإيران، في تخل صريح عن حلفائه الأصليين من أعضاء حلف شمال الأطلسي "نيتو"، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.(3)

وعلى الرغم من ذلك، فإن تركيا قد تحقق حالة من الاستقرار النسبي على المستوى الخارجي، بعدما شهدت حالة من التدهور الاقتصادي بعد فرض العقوبات الأمريكية، يأتي ذلك وفق ما يمكن أن نسميه صفقة بين البلدين مفادها رفع العقوبات الأمريكية عن تركيا مقابل إصدار حكم بالسجن بحق برانسون يساوي المدة التي أمضاها في السجن، أو السماح له بأن يمضي جزءًا من مدة العقوبة في الولايات المتحدة.

إضافة إلى ذلك، ربما تعوّل تركيا على أن يزيد الإفراج عن برانسون موقف واشنطن ليونة في ما يتعلق بالدور التركي في الشمال السوري، ومنطقة منبج بالتحديد، ولاسيما في ظل تقارب حذر شهدته العلاقات بين الطرفين مؤخرًا.

كما أن أنقرة قد تستغل قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تحقيق العديد من الانتصارات السياسية فيما يتعلق بالتقارب مع واشنطن، على حساب السعودية، خاصة وأن تركيا والسعودية تشهد في الفترة الأخيرة توترات متصاعدة على خلفية موقف تركيا من المقاطعة العربية لقطر، والموقف من التدخلات التركية في المنطقة العربية، وكذلك تقاربها المتزايد مع إيران، العدو التاريخي للسعودية.

مكسب داخلي وخارجي

إن التنازل الذى قدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ربما لا يقل في تداعياته عن التداعيات التي تركها التقارب الأمريكي الكوري الشمالي، بعد مطالبة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بالإفراج عن كيم هاك-سونغ وكيم سانغ-دوك وكيم دونغ-سول، المواطنين الأمريكيين المحتجزين لدى كوريا الشمالية، فالإفراج عن القس الأمريكي يمثل انتصارًا جديدًا لترامب يدفعه نحو تعزيز شعبيته الداخلية، خاصة وأن أندرو برانسون ينتمي إلى الإنجليين الذين يمثلوا نسبة كبيرة من الناخبين في الولايات المتحدة.

إن الناخبين في الولايات المحافظة التي يطغى عليها التدين يمثلون أهمية كبيرة بالنسبة إلى الجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية القادمة، ويريد ترامب والحزب الجمهوري أن يرى هؤلاء الناخبون كيف يبذل جهوده من أجل إطلاق سراح القس برانسون. وبالنسبة إلى نائب الرئيس مايك بينس فإن هذه القضية لها بعد شخصي أيضًا، إذ أنه انجيلي متدين محافظ.

وتعد مسألة السجناء الأمريكيين فى الخارج، وخاصة القابعين في سجون الدول المناوئة للولايات المتحدة، بمثابة أولوية كبيرة لدى إدارة ترامب، حيث كان الإفراج عن السجناء الأمريكيين في كوريا الشمالية بمثابة شرط أمريكي لانطلاق المفاوضات بينهم، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا؛ حيث أعلن وزير الخارجية الأمريكي بومبيو بأن الافراج عن القس برانسون، يمكن أن يكون بداية لعملية توافق جديدة، وأن ذلك سيسهم في تطبيع العلاقات بين البلدين.

الهوامش

1-  مصطفى صلاح، اتفاق منبج ومستقبل العلاقات التركية الأمريكية، المركز العربي للبحوث والدراسات، بتاريخ 10 يونيو 2018، على الرابط: http://www.acrseg.org/40775

2- مصطفى صلاح، العقوبات الأمريكية ومستقبل الاقتصاد التركي، موقع المرجع باريس، بتاريخ 12 أغسطس 2018، على الرابط: http://www.almarjie-paris.com/3280

3- بعد الإفراج عن القس الأمريكي "برانسون".. كم معركة "زائفة" خاضها أردوغان؟، بوابة الفجر، بتاريخ 14 أكتوبر 2018، على الرابط: https://www.elfagr.com/3295552

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟